فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] الآية


[ قــ :63452 ... غــ :63453 ]
- ( { سُورَةُ ح م الجَاثِيَةِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة ح م الجاثية، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره الجاثية، فَقَط، وَفِي بعض النسح: وَمن سُورَة الجاثية، وَهِي مَكِّيَّة لَا خلاف فِيهَا، وَهِي أَلفَانِ وَمِائَة وَوَاحِد وَتسْعُونَ حرفا، وَأَرْبَعمِائَة وثمان وَثَمَانُونَ كلمة وَسبع وَثَلَاثُونَ آيَة.

( بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)

ثبتَتْ الْبَسْمَلَة سِيمَا عِنْد أبي ذَر.

جَاثِيَةَ مُسْتَوفِزينَ عَلَى الرُّكَبِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَترى كل أمة جاثية} ( الجاثية: 83) وفسرها بقوله: ( مستوفزين على الركب) يُقَال: استوفز فِي قعدته إِذا قعد قعُودا منتصبا غير مطمئن من هول ذَلِك الْيَوْم.

وَقَالَ مُجاهِدٌ نَسْتَنْسخُ نَكْتُبُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ( الجاثية: 92) أَي: نكتب عَمَلكُمْ وَفِي رِوَايَة أبي ذَر نَسْتَنْسِخ بِلَا لفظ.
قَالَ مُجَاهِد: وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد عَن عمر بن سعد عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَفِي التَّفْسِير: مَعْنَاهُ نأمر بالنسخ، وَعَن الْحسن: مَعْنَاهُ نَحْفَظ.
وَعَن الضَّحَّاك: نثبت.

نَنْساكُمْ نَتْرُكُكُمْ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { فاليوم ننساكم كَمَا نسيتم} ( الجاثية: 43) مَعْنَاهُ نترككم كَمَا تركْتُم، وَلم يكن تَركهم إلاّ فِي النَّار، وَهَذَا من إِطْلَاق الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم لِأَن من نسي فقد ترك من غير عكس.


( بابٌُ: { وَمَا يُهْلِكُنا إلاّ الدَّهْرُ} ( الجاثية: 4) الآيَةَ)

فِي بعض النّسخ: بابُُ { وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر وَمَا لَهُم بذلك من علم أَن هم إِلَّا يظنون} وَله ( وَمَا يُهْلِكنَا) أَي: وَمَا يفنينا الْأَمر الزَّمَان وَطول الدَّهْر.



[ قــ :4566 ... غــ :486 ]
- حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعيد بن المُسَيَّبِ عنِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِيني ابنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأنَا بِيَدِي الأمْرُ أُقَلَّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
والْحميدِي عبد الله بن الزبير، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن الْحميدِي أَيْضا.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن عمر.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن ابْن السَّرْح وَمُحَمّد بن الصَّباح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد.

قَوْله: ( يوذيني ابْن آدم) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ يخاطبني من القَوْل بِمَا يتأذي من يجوز فِي حَقه التأذي، وَالله منزه عَن أَن يصير إِلَيْهِ الْأَذَى، وَإِنَّمَا هَذَا من التَّوَسُّع فِي الْكَلَام، وَالْمرَاد، أَن من وَقع ذَلِك مِنْهُ تعرض لسخط الله عز وَجل.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: الْإِيذَاء إِيصَال الْمَكْرُوه إِلَى الْغَيْر قولا أَو فعلا أثر فِيهِ أَو لم يُؤثر، وإيذاء الله عبارَة عَن فعل مَا يكرههُ وَلَا يرضى بِهِ، وَكَذَا إِيذَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( يسب الدَّهْر) ، الدَّهْر فِي الأَصْل اسْم لمُدَّة الْعَالم وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى: { هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر} ( الْإِنْسَان: 1) ثمَّ يعبر بِهِ عَن كل مُدَّة كَثِيرَة، وَهُوَ خلاف الزَّمَان فَإِنَّهُ يَقع على الْمدَّة القليلة والكثيرة، فَإِذا المُرَاد فِي الحَدِيث بالدهر مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار ومصرف الْأُمُور فيهمَا فَيَنْبَغِي أَن يُفَسر الأول بذلك كَأَنَّهُ قيل: تسب مُدبر الْأَمر ومقلب اللَّيْل وَالنَّهَار، وَأَنا الْمُدبر والمقدر، فجَاء الِاتِّحَاد.
قَوْله: { وَأَنا الدَّهْر} ، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنا صَاحب الدَّهْر ومدبر الْأُمُور الَّتِي تنسبونها إِلَى الدَّهْر، فَإِذا سبّ ابْن آدم الدَّهْر من أجل أَنه فَاعل هَذِه الْأُمُور عَاد سبه إليّ لِأَنِّي فاعلها، وَإِنَّمَا الدَّهْر زمَان جعلته ظرفا لمواقع الْأُمُور، وَكَانَ من عَادَتهم إِذا أَصَابَهُم مَكْرُوه أضافوه إِلَى الدَّهْر، وَقَالُوا: وَمَا يُهْلِكنَا إلاَّ الدَّهْر وسبوه، فَقَالُوا: بؤسا للدهر، وتبا لَهُ إِذا كَانُوا لَا يعْرفُونَ للدهر خَالِقًا ويرونه أزليا أبديا، فَلذَلِك سموا بالدهرية، فَاعْلَم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن الدَّهْر مُحدث يقلبه بَين ليل ونهار لَا فعل لَهُ فِي خير وَشر، لكنه ظرف للحوادث الَّتِي الله تَعَالَى يحدثها وينشئها.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: أَنا الدَّهْر بِالرَّفْع، وَقيل بِالنّصب على الظّرْف.
قلت: كَانَ أَبُو بكر بن دَاوُد الْأَصْفَهَانِي يرويهِ بِفَتْح الرَّاء من الدَّهْر مَنْصُوبَة على الظّرْف أَي: أَنا طول الدَّهْر بيَدي الْأَمر، وَكَانَ يَقُول: لَو كَانَ مضموم الرَّاء لصار من أَسمَاء الله تَعَالَى،.

     وَقَالَ  القَاضِي: نَصبه بَعضهم على التَّخْصِيص، قَالَ: والظرف أصح وأصوب،.

     وَقَالَ  أَبُو جَعْفَر النّحاس: يجوز النصب أَي: بِأَن الله بَاقٍ مُقيم أبدا لَا يَزُول.

قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا بَاطِل من وُجُوه: الأول: أَنه خلاف النَّقْل، فَإِن الْمُحدثين الْمُحَقِّقين لم يضبطوه إلاَّ بِالضَّمِّ، وَلم يكن ابْن دَاوُد من الْحفاظ وَلَا من عُلَمَاء النَّقْل.
الثَّانِي: أَنه ورد بِأَلْفَاظ صِحَاح تبطل تَأْوِيله وَهِي: لَا تَقولُوا: يَا خيبة الدَّهْر، فَإِن الله هُوَ الدَّهْر.
أَخْرجَاهُ، وَلمُسلم: لَا تسبوا الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر.
الثَّالِث: تَأْوِيله يَقْتَضِي أَن يكون عِلّة النَّهْي لم تذكر لِأَنَّهُ إِذا قَالَ لَا تسبوا الدَّهْر.
فَأَنا الدَّهْر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تسبوا الدَّهْر وَأَنا أقلبه، وَمَعْلُوم أَنه يقلب كل شَيْء من خير وَشر، وتقلبه للأشياء لَا يمْنَع ذمها وَإِنَّمَا يتَوَجَّه الْأَذَى فِي قَوْله: ( يُؤْذِينِي ابْن آدم) على مَا كَانَت عَلَيْهِ الْعَرَب إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة يسبون الدَّهْر، وَيَقُولُونَ: عِنْد ذكر موتاهم، أبادهم الدَّهْر، ينسبون ذَلِك إِلَيْهِ ويرونه الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء وَلَا يرونها من قَضَاء الله وَقدره.
قلت: قَوْله: أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار، قرينَة قَوِيَّة دَالَّة على أَن الْمُضَاف فِي قَوْله: إِنَّا الدَّهْر.
مَحْذُوف وَأَن أَصله خَالق الدَّهْر، لِأَن الدَّهْر فِي الأَصْل عبارَة عَن الزَّمَان مُطلقًا وَاللَّيْل وَالنَّهَار زمَان، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يُطلق على الله أَنه مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار، بِكَسْر اللَّام، والدهر يكون مقلبا بِالْفَتْح، فَلَا يُقَال: الله الدَّهْر مُطلقًا.
لِأَن المقلب غير المقلب فَافْهَم، وَقد تفردت بِهِ من ( الفتوحات الربانية) وعَلى هَذَا لَا يجوز نِسْبَة الْأَفْعَال الممدوحة والمذمومة للدهر حَقِيقَة، فَمن اعْتقد ذَلِك فَلَا شكّ فِي كفره، وَأما من يجْرِي على لِسَانه من غير اعْتِمَاد صِحَّته فَلَيْسَ بِكَافِر وَلكنه تشبه بِأَهْل الْكفْر وارتكب مَا نَهَاهُ عَنهُ الشَّارِع فليتب وليستغفر.