فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42]

(بابٌُ: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق} (الْقَلَم: 24)

أَي: هَذَا بابُُ فِي قَوْله تَعَالَى: { يَوْم يكْشف عَن سَاق} قيل: تكشف الْقِيَامَة عَن سَاقهَا، وَقيل: عَن أَمر شَدِيد فظيع وَهُوَ إقبال الْآخِرَة.
وَذَهَاب الدُّنْيَا، وَهَذَا من بابُُ الِاسْتِعَارَة تَقول الْعَرَب للرجل إِذا وَقع فِي أَمر عَظِيم يحْتَاج فِيهِ إِلَى اجْتِهَاد ومعاناة ومقاساة للشدة شمر عَن سَاقه، فاستعير السَّاق فِي مَوضِع الشدَّة، وَإِن لم يكن كشف السَّاق حَقِيقَة، كَمَا يُقَال: أَسْفر وَجه الصُّبْح، واستقام لَهُ صدر الرَّأْي، وَالْعرب تَقول: لسنة الْحَرْب: كشفت عَن سَاقهَا.



[ قــ :4653 ... غــ :4919 ]
- حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدِ بنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدٍ بنِ أبِي هلالٍ عَنْ زَيْدِ ابنِ أسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَّار عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ يَكْشِفُ رَبُّنا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَّةٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاء وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقا وَاحِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يكْشف رَبنَا عَن سَاقه) وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وخَالِد بن يزِيد من الزِّيَادَة.
الجُمَحِي السكْسكِي الاسكندراني الْفَقِيه الْمُفْتِي، وَسَعِيد بن أبي هِلَال اللَّيْثِيّ الْمدنِي، وَزيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَبُو سعيد هُوَ الْخُدْرِيّ واسْمه سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا الحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث الشَّفَاعَة.

قَوْله: (يكْشف رَبنَا عَن سَاقه) ، من المتشابهات، وَلأَهل الْعلم فِي هَذَا الْبابُُ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَذْهَب مُعظم السّلف أَو كلهم تَفْوِيض الْأَمر فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى وَالْإِيمَان بِهِ، واعتقاد معنى يَلِيق لجلال الله عز وَجل وَالْآخر: هُوَ مَذْهَب بعض الْمُتَكَلِّمين أَنَّهَا تتأول على مَا يَلِيق بِهِ، وَلَا يسوغ ذَلِك إلاَّ لمن كَانَ من أَهله بِأَن يكون عَارِفًا بِلِسَان الْعَرَب، وقواعد الْأُصُول وَالْفُرُوع، فعلى هَذَا قَالُوا: المُرَاد بالساق هُنَا الشدَّة، أَي: يكْشف الله عَن شدَّة وَأمر مهول، وَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس،.

     وَقَالَ  عِيَاض: المُرَاد بالساق النُّور الْعَظِيم، وَرُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَوْم يكْشف عَن سَاق) قَالَ: عَن نور عَظِيم يخرون لَهُ سجدا وَعَن قَتَادَة فِيمَا رَوَاهُ عبد بن حميد (يَوْم يكْشف عَن سَاق) عَن أَمر فظيع، وَعَن عبد الله هِيَ ستور رب الْعِزَّة إِذا كشف لِلْمُؤمنِ يَوْم الْقِيَامَة، وَعَن الرّبيع بن أنس: يكْشف عَن الغطاء فَيَقَع من كَانَ آمن بِهِ فِي الدُّنْيَا سَاجِدا،.

     وَقَالَ  الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ وَأما القَوْل من قَالَ: المُرَاد بالساق الشدَّة فِي الْقِيَامَة، وَفِي هَذَا قُوَّة لأهل التعطيل، وَجَاء حَدِيث عَن ابْن مَسْعُود يرفعهُ، وَفِيه بِمَ تعرفُون ربكُم؟ قَالُوا: بَيْننَا وَبَينه عَلامَة أَن رأيناها عَرفْنَاهُ.
قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: يكْشف عَن سَاق.
قَالَ: فَيكْشف عِنْد ذَلِك عَن سَاق فيخر الْمُؤْمِنُونَ سجدا.
قَالَ: وَمَا يُنكر هَذَا اللفط ويفر مِنْهُ إلاَّ من يفر عَن الْيَد والقدم وَالْوَجْه وَنَحْوهَا.
فعطل الصِّفَات.
وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ: أَن ذَلِك بِمَعْنى كشف الشدائد عَن الْمُؤمنِينَ فيسجدون شكرا.
وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث أبي مُوسَى مَرْفُوعا.
فَيكْشف لَهُم الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَى الله، وَعَن ابْن مَسْعُود: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة قَامَ النَّاس لرب الْعَالمين أَرْبَعِينَ عَاما فِيهِ فَعِنْدَ ذَلِك يكْشف عَن سَاق ويتجلى لَهُم، وأوله بَعضهم بِأَن الله يكْشف لَهُم عَن سَاق لبَعض المخلوفين من مَلَائكَته وَغَيرهم، وَيجْعَل ذَلِك سَببا لبَيَان مَا شَاءَ من حكمته فِي أهل الْإِيمَان والنفاق.
وَعَن أبي الْعَبَّاس النَّحْوِيّ أَنه قَالَ: السَّاق النَّفس.
كَمَا قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَالله لأقاتلن الْخَوَارِج وَلَو تلفت ساقي، فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ تجلي ذَاته لَهُم وكشف الْحجب حَتَّى إِذا رَأَوْهُ سجدوا لَهُ.
وَقرأَهَا ابْن عَبَّاس: يكْشف، بِضَم الْيَاء وقرىء: نكشف، بالنُّون، ويكشف، على الْبناء للْفَاعِل وللمفعول جَمِيعًا، وَالْفِعْل للساعة أَو للْحَال أَي: يَوْم تشتد الْحَال أَو السَّاعَة.
وقرىء: بِالْيَاءِ المضمومة وَكسر الشين من أكشف إِذا دخل فِي الْكَشْف.
قَوْله: (فَيسْجد لَهُ) ، أَي: لله.
فَإِن قلت: الْقِيَامَة دَار الْجَزَاء لَا دَار الْعَمَل.
قلت: هَذَا السُّجُود لَا يكون على سَبِيل التَّكْلِيف بل على سَبِيل التَّلَذُّذ بِهِ والتقرب إِلَى الله تَعَالَى.
قَوْله: (يَاء) ، أَي: ليراه النَّاس.
قَوْله: (وسَمعه) ، أَي: ليسمعونه.
قَوْله: (طبقًا وَاحِدًا) ، أَي: لَا ينثني للسُّجُود وَلَا ينحني لَهُ، وَهُوَ بِفَتْح الطَّاء.
وَالْبَاء الْمُوَحدَة.
قَالَ الْهَرَوِيّ: الطَّبَق ففار الظّهْر أَي: سَار فقاره وَاحِدًا كالصحيفة فَلَا يقدر على السُّجُود، وَجَاء فِي حَدِيث طَوِيل فالمؤمنون يخرون سجدا على وُجُوههم ويخر كل مُنَافِق على قَفاهُ، وَيجْعَل الله تَعَالَى أصلابهم كصيامي الْبَقر، وَفِي رِوَايَة: وَيبقى المُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ كَأَن فِي ظُهُورهمْ السَّفَافِيد فَيذْهب بهم إِلَى النَّار،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَقد اسْتدلَّ بعض الْعلمَاء بِهَذَا مَعَ قَول الله تَعَالَى: { وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (الْقَلَم: 24) على جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَهَذَا اسْتِدْلَال بَاطِل.
فَإِن الْآخِرَة لَيست دَار تَكْلِيف بِالسُّجُود وَإِنَّمَا المُرَاد امتحانهم.