فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من جعل عتق الأمة صداقها

( بابُُ مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الأمَةِ صَدَاقَها)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان من جعل عتق الْأمة صَدَاقهَا، مَعْنَاهُ: أَن يعْتق أمة على أَن يتَزَوَّج بهَا وَيكون عتقهَا صَدَاقهَا، وَلم يذكر فِي التَّرْجَمَة حكم هَذَا، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعامر الشّعبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة وطاووس وَالْحسن بن حييّ وَأحمد وَإِسْحَاق: جَازَ ذَلِك، فَإِذا عقد عَلَيْهَا لَا تسْتَحقّ عَلَيْهِ مهْرا غير ذَلِك الْعتاق وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْل: سُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو يُوسُف صَاحب أبي حنيفَة، وَذكر التِّرْمِذِيّ أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: فَإِن أعْتقهَا على هَذَا الشَّرْط فقلبت عتقت وَلَا يلْزمهَا أَن تتزوجه بل لَهُ عَلَيْهَا قيمتهَا لِأَنَّهُ لم يرض بِعتْقِهَا مجَّانا.
فَإِن رضيت وَتَزَوجهَا على مهر يتفقان عَلَيْهِ فَلهُ عَلَيْهَا الْقيمَة وَلها عَلَيْهِ الْمهْر الْمُسَمّى من قَلِيل أَو كثير، وَإِن تزَوجهَا على قيمتهَا فَإِن كَانَت قيمتهَا مَعْلُومَة أَولهَا صَحَّ الصَدَاق وَلَا يبْقى لَهُ عَلَيْهَا قيمَة وَلَا لَهَا عَلَيْهِ صدَاق، وَإِن كَانَت مَجْهُولَة فَفِيهِ وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا: أَحدهمَا: يَصح الصَدَاق، وأصحهما، وَبِه قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا: لَا يَصح الصَدَاق بل يَصح النِّكَاح وَيجب لَهَا مهر الْمثل، انْتهى.
.

     وَقَالَ  اللَّيْث بن سعد وَابْن شبْرمَة وَجَابِر بن زيد وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر وَمَالك: لَا يجوز ذَلِك،.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: لَيْسَ لأحد غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفعل هَذَا فَيتم لَهُ النِّكَاح بِغَيْر صدَاق سوى الْعتاق، إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الله، عز وَجل، جعل لَهُ أَن يتَزَوَّج بِغَيْر صدَاق، وَيكون لَهُ التَّزَوُّج على الْعتاق الَّذِي لَيْسَ بِصَدَاق.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: إِن فعل ذَلِك رجل وَقع الْعتاق وَلها عَلَيْهِ مهر الْمثل، فَإِن أَن تتزوجه تسْعَى لَهُ فِي قيمتهَا،.

     وَقَالَ  مَالك وَزفر: لَا شَيْء لَهُ عَلَيْهَا.



[ قــ :4814 ... غــ :5086 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حَدثنَا حَمَّادٌ عنْ ثابِتٍ وشُعَيْبٍ بنِ الْحَبحَابِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْتَقَ صَفِيَّةَ وجعَلَ عِتْقَها صَدَاقَها..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وثابت هُوَ ابْن أسلم الْبنانِيّ، بِضَم الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى، وَشُعَيْب بن الحبحاب، بِفَتْح الحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: الْبَصْرِيّ.

والْحَدِيث قد مر فِي غَزْوَة خَيْبَر.

واحتجت الطَّائِفَة الأولى أَعنِي: سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمن مَعَهُمَا بِهَذَا الحَدِيث فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وأجابت الطَّائِفَة الثَّانِيَة بأجوبة مِنْهَا أَنهم قَالُوا: هَذَا من قَول أنس لِأَنَّهُ لم يسْندهُ فَلَعَلَّهُ تَأْوِيل مِنْهُ إِذْ لم لَهَا صدَاق، وَمِنْهَا مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: إِنَّه مَخْصُوص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ لغيره أَن يفعل ذَلِك، وَمِنْهَا أَن الطَّحَاوِيّ رُوِيَ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه فعل فِي جوَيْرِية بنت الْحَارِث مِثْلَمَا فعله فِي صَفِيَّة، ثمَّ قَالَ ابْن عمر: بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل هَذَا الحكم أَنه يجدد لَهَا صَدَاقا، فَدلَّ هَذَا أَن الحكم فِي ذَلِك بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على غير مَا كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك سَمَاعا سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحْتَمل أَن يكون دله على هَذَا خصوصيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ تقوم الْحجَّة لأهل الْمقَالة الثَّانِيَة قلت: وَمِمَّا يُؤَيّد كَلَام ابْن عمر مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث القواريري: حَدَّثتنَا عليلة بنت الْكُمَيْت عَن أمهَا أُمَيْمَة بنت رزينة عَن أمهَا رزينة، قَالَت: لما كَانَ يَوْم قُرَيْظَة وَالنضير جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصفية يَقُودهَا سبية حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ وذراعها فِي يَده، فَأعْتقهَا وخطبها وَتَزَوجهَا وَأَمْهَرهَا رزينة.
قلت: رزينة، بِضَم الرَّاء وَفتح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: خادمة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  ابْن المرابط: قَول أنس: أصدقهَا نَفسهَا، أَنه من رَأْيه وظنه، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك مدافعة للسائر.
أَلا تَرى أَنه قَالَ: فَقَالَ الْمُسلمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ؟ فَكيف علم أنس أَنه أصدقهَا نَفسهَا قبل ذَلِك؟ وَقد صَحَّ عَنهُ أَنه يعلم أَنَّهَا زَوجته إلاَّ بالحجاب، فَدلَّ أَن قَوْله هَذَا لم يشهده على نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا غَيره، وَإِنَّمَا ظَنّه أنس وَالنَّاس مَعَه ظنا، مَعَ أَن كتاب الله أَحَق أَن يتبع قَالَ: { وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} ( الْأَحْزَاب: 05) الْآيَة فَهَذَا يدل على أَنه أعْتقهَا وَخَيرهَا فِي نَفسهَا فاختارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنكحها بِمَا خصّه الله تَعَالَى بِغَيْر صدَاق، وَأما وَجه النّظر فِيهِ أَنا إِذا جعلنَا الْعتْق صَدَاقا.
فإمَّا أَن يَتَقَرَّر الْعتْق حَالَة الرّقّ وَهُوَ محَال لتناقضهما، أَو حَالَة الْحُرِّيَّة فَيلْزم سبقيته على العقد، فَيلْزم وجود الْعتْق فرض عَدمه وَهُوَ محَال، لِأَن الصَدَاق لَا بُد أَن يتَقَدَّم تقرره على الزَّوْج إِمَّا نصا وَإِمَّا حكما حَتَّى تملك الزَّوْجَة طلبه، وَإِن لم يتَعَيَّن لَهَا حَالَة العقد شَيْء، لَكِنَّهَا تملك الْمُطَالبَة، فَثَبت أَنه ثَابت لَهَا حَالَة العقد شَيْء يُطَالب بِهِ الزَّوْج، وَلَا يَتَأَتَّى مثل ذَلِك فِي الْعتْق، فاستحال أَن يكون صَدَاقا، فَافْهَم.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: فَإِن قيل: ثَوَاب الْعتْق عَظِيم، فَكيف فَوته حَيْثُ جعله مهْرا وَكَانَ يُمكن جعل الْمهْر غَيره؟ فَالْجَوَاب أَن صَفِيَّة بنت مَالك وَمثلهَا لَا يقنع فِي الْمهْر إلاَّ بالكثير وَلم يكن عِنْده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ ذَاك مَا يرضيها بِهِ، وَلم ير أَن يقصر بهَا فَجعل صَدَاقهَا نَفسهَا، وَذَلِكَ عِنْدهَا أشرف من المَال الْكثير.