فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب وجوب النفقة على الأهل والعيال

(بابُُُ: { وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الأهْلِ وَالعِيالِ} )

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان وجوب النَّفَقَة على الْأَهْل، أَرَادَ بِهِ الزَّوْجَة هُنَا، وَعطف عَلَيْهِ الْعِيَال من بابُُ عطف الْعَام على الْخَاص.
وَقد مضى الْكَلَام فِي الْأَهْل عَن قريب، وعيال الرجل من يعولهم أَي: من يقوتهم وَينْفق عَلَيْهِم، وأصل عِيَال عَوَالٍ لِأَنَّهُ من عَال عيالة وعولاً ويعالة إِذا فاتهم، قلبت الْوَاو يَاء لتحركها وانكسار مَا قبلهَا.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: وَوَاحِد الْعِيَال عيل بتَشْديد الْيَاء وَالْجمع عيائل، مثل: جيد وجياد وجيائد.



[ قــ :5063 ... غــ :5355 ]
- حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبِي حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثنا أبُو صَالِحٍ قَالَ: حدَّثني أبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، تَقُولُ المَرْأةُ: إمَّا أنْ تُطْعِمَنِي وَإمَّا أنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ العَبْدُ: أطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ الابنُ: أطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدَعُنِي؟ فَقَالُوا: يَا أبَا هُرَيْرَةِ: سَمِعْتَ هاذا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: لَا هاذا مِنْ كِيسِ أبِي هُرَيْرَةَ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان السمان.

والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز.

قَوْله: (غنى) يَعْنِي: مَا لم يجحف بالمعطي أَي: أَنَّهَا سهل عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله: مَا كَانَ عَن ظهر غنى، وَقيل: مَعْنَاهُ مَا سَاق إِلَى الْمُعْطِي غنى، وَالْأول أوجه.
قَوْله: (وَالْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى) قد مضى فِي الزَّكَاة أَقْوَال فِيهِ وَإِن أَصَحهَا الْعليا المعطية والسفلى السائلة.
قَوْله: (وابدأ بِمن تعول) أَي: ابدأ فِي الْإِنْفَاق بعيالك ثمَّ اصرف إِلَى غَيرهم.
قَوْله: ((تَقول الْمَرْأَة: إِمَّا أَن تطعمني وَإِمَّا أَن تُطَلِّقنِي) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز عَن حَفْص بن غياث بِسَنَد حَدِيث الْبابُُ: إِمَّا أَن تنْفق عليّ قَوْله: (وَيَقُول العَبْد أَطْعمنِي واستعملني) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَيَقُول خادمك أَطْعمنِي وإلاَّ فبعني.
قَوْله: (إِلَى من تدعني) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي: إِلَى من تَكِلنِي.
قَوْله: (من كيس أبي هُرَيْرَة) ؟ قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) أَي: من قَوْله، وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا قَالَه الْكرْمَانِي: الْكيس بِكَسْر الْكَاف الْوِعَاء، وَهَذَا إِنْكَار على السَّائِلين عَنهُ، يَعْنِي: لَيْسَ هَذَا إلاَّ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِيهِ نفي يُرِيد بِهِ الْإِثْبَات، وَإِثْبَات يُرِيد بِهِ النَّفْي على سَبِيل التعكيس، وَيحْتَمل أَن يكون لفظ: هَذَا، إِشَارَة إِلَى الْكَلَام الْأَخير إدراجا من أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ: تَقول الْمَرْأَة إِلَى آخِره.
فَيكون إِثْبَاتًا لَا إنكارا يَعْنِي: هَذَا الْمِقْدَار من كيسه فَهُوَ حَقِيقَة فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات.
قَالَ: وَفِي بَعْضهَا، يَعْنِي: فِي بعض الرِّوَايَات بِفَتْح الْكَاف يَعْنِي: من عقل أبي هُرَيْرَة وكياسته.
قَالَ التَّيْمِيّ: أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى أَن بعضه من كَلَام أبي هُرَيْرَة وَهُوَ مدرج فِي الحَدِيث.

وَفِي هَذَا الحَدِيث أَحْكَام
الأول: أَن حق نفس الرجل يقدم على حق غَيره.
الثَّانِي: أَن نَفَقَة الْوَلَد وَالزَّوْجَة فرض بِلَا خلاف.
الثَّالِث: أَن نَفَقَة الخدم وَاجِبَة أَيْضا.
الرَّابِع: اسْتدلَّ بقوله: (إِمَّا أَن تطعمني وَإِمَّا أَن تُطَلِّقنِي) من قَالَ: يفرق بَين الرجل وَامْرَأَته إِذا أعْسر بِالنَّفَقَةِ واختارت فِرَاقه.
قَالَ بَعضهم: وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء.
.

     وَقَالَ  الْكُوفِيُّونَ: يلْزمهَا الصَّبْر وتتعلق النَّفَقَة بِذِمَّتِهِ وَاسْتدلَّ الْجُمْهُور بقوله تَعَالَى: { وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا} (الْبَقَرَة: 231) وَأجَاب الْمُخَالف بِأَنَّهُ لَو كَانَ الْفِرَاق وَاجِبا لما جَازَ الْإِبْقَاء إِذا رضيت، ورد عَلَيْهِ بِأَن الِاجْتِمَاع دلّ على جَوَاز الْإِبْقَاء إِذا رضيت فَبَقيَ مَا عداهُ على عُمُوم النَّهْي، وبالقياس على الرَّقِيق وَالْحَيَوَان فَإِن من أعْسر بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ أجبر على بَيْعه.
انْتهى.
قلت: الَّذِي قَالَه الْكُوفِيُّونَ هُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن شهَاب الزُّهْرِيّ وَابْن شبْرمَة وَأبي سلمَان وَعمر بن عبد الْعَزِيز هُوَ المحكي عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرُوِيَ عَن عبد الْوَارِث عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر.
قَالَ: كتب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى أُمَرَاء الأجناد: ادعوا فلَانا وَفُلَانًا، أُنَاسًا قد انْقَطَعُوا عَن الْمَدِينَة ورحلوا عَنْهَا، إِمَّا أَن يرجِعوا إِلَى نِسَائِهِم وَإِمَّا أَن يبعثوا بِنَفَقَة إلَيْهِنَّ وَإِمَّا أَن يطلقوا ويبعثوا بِنَفَقَة مَا مضى، وَلم يتَعَرَّض إِلَى شَيْء غير ذَلِك.
وَقَول هَذَا الْقَائِل: وَأجَاب الْمُخَالف: هَل أَرَادَ بِهِ أَبَا حنيفَة أم غَيره؟ فَإِن أَرَادَ بِهِ أَبَا حنيفَة فَمَا وَجه تَخْصِيصه من بَين هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ ذَلِك إلاّ من أريحة التعصب، وَإِن أَرَادَ بِهِ غَيره مُطلقًا كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: وَأجَاب المخالفون، وَلَا يتم استدلالهم بقوله تَعَالَى: { وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا} لِأَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد ومسروقاً وَالْحسن رَاجعهَا ضِرَارًا لِئَلَّا تذْهب إِلَى غَيره ثمَّ يطلقهَا فتعتذ فَإِذا شارفت على انْقِضَاء الْعدة يُطلق ليطول عَلَيْهَا الْعدة فنهاهم الله عَن ذَلِك وتوعدهم عَلَيْهِ فَقَالَ { وَمن يفعل ذَلِك فقد ظلم نَفسه} أَي: بمخالفة أَمر الله عز وَجل، فَبَطل استدلالهم بِهَذَا وَعُمُوم النَّهْي لَيْسَ فِيمَا قَالُوا: وَإِنَّمَا هُوَ فِي الَّذِي ذكر: عَن ابْن عَبَّاس وَمن مَعَه، وَالْقِيَاس على الرَّقِيق وَالْحَيَوَان قِيَاس مَعَ الْفَارِق فَلَا يَصح بَيَانه أَن الرَّقِيق وَالْحَيَوَان أَن لَا يملكَانِ شَيْئا وَلَا يجد الرَّقِيق من يسلفه وَلَا يصبران على عدم النَّفَقَة، بِخِلَاف الزَّوْجَة فَإِنَّهَا تصبر وتستدين على ذمَّة زَوجهَا، وَلِأَن التَّفْرِيق يبطل حَقّهَا وإبقاء النِّكَاح يُؤَخر حَقّهَا إِلَى زمن الْيَسَار عِنْد فقره وَإِلَى زمن الْإِحْضَار عِنْد غيبته، وَالتَّأْخِير أَهْون من الْإِبْطَال.





[ قــ :5064 ... غــ :5356 ]
- حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ: حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خَالِدٍ ابنِ مُسافِرٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ عَنِ ابنِ المُسَيَّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غَنًى، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.

قَوْله: ( مَا كَانَ عَن ظهر غنى) ، أَي: مَا كَانَ عفوا قد فشل عَن غنى، وَقيل: أَرَادَ مَا فضل عَن الْعِيَال وَالظّهْر قد يُزَاد فِي مثل هَذَا اتساعا للْكَلَام وتمكينا، كَأَن صدقته مستندة إِلَى ظهر قوي من المَال.