فهرس الكتاب

عمدة القاري - بَابُ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}

( كتابُ: { الأَطْعِمَةِ} )
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَنْوَاع الْأَطْعِمَة وأحكامها، وَهُوَ جمع طَعَام.
قَالَ الْجَوْهَرِي: الطَّعَام مَا يُؤْكَل وَرُبمَا خص بِالطَّعَامِ الْبر والطعم بِالْفَتْح مَا يُؤَدِّيه ذوف الشَّيْء من حلاوة ومرارة وَغَيرهمَا، والطعم بِالضَّمِّ الْأكل يُقَال: طعم يطعم طعما فَهُوَ طاعم إِذا أكل أَو ذاق مثل: غنم يغنم غنما فَهُوَ غَانِم.
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: { كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ( الْبَقَرَة: 57، 172) وَقَوْلِهِ: { أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ( الْبَقَرَة: 167) وَقَوْلِهِ: { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا} ( الْمُؤْمِنُونَ: 51) وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على الْأَطْعِمَة، هَذِه من ثَلَاث آيَات الأولى: قَول تَعَالَى: { من طَيّبَات مَا رزقناكم} ( الْبَقَرَة: 172) أَولهَا قَوْله تَعَالَى: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَمر الله تَعَالَى عباده الْمُؤمنِينَ بِالْأَكْلِ من طَيّبَات مَا رزقهم الله تَعَالَى، وَأَن يشكروه على ذَلِك إِن كَانُوا عبيده، وَالْأكل من الْحَلَال سَبَب لتقبل الدُّعَاء وَالْعِبَادَة كَمَا أَن الْأكل من الْحَرَام يمْنَع قبُول الدُّعَاء وَالْعِبَادَة.
وَالثَّانيَِة: من قَوْله تَعَالَى: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} ( الْبَقَرَة: 67) وَوَقع هُنَا: { كلوا من طَيّبَات مَا كسبتم} وَهِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَفِي أَكثر الرويات أَنْفقُوا على وفْق التِّلَاوَة.

     وَقَالَ  ابْن بطال وَقع فِي النّسخ { كلوا من طَيّبَات مَا كسبتم} وَهُوَ وهم من الْكَاتِب وَصَوَابه: { أَنْفقُوا} كَمَا فِي الْقُرْآن.
وَالثَّالِثَة: قَوْله تَعَالَى: { يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} ( الْمُؤْمِنُونَ: 5) المُرَاد بالطيبات: الْحَلَال.


[ قــ :5081 ... غــ :5373]
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبَرَنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أبِي وَائِلٍ عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَال: أطْعِمُوا الجَائِعَ وَعُودوا المَرِيضَ وَفُكَوا الْعانِي.
قَالَ سُفْيَانُ: وَالعَانِي الأسِيرُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث مضى فِي النِّكَاح فِي: بَاب حق إِجَابَة الْوَلِيمَة، وَلَفظه: فكوا العاني وأجيبوا الدَّاعِي وعودوا الْمَرِيض، وَمضى أَيْضا فِي الْجِهَاد فِي: بَاب فكاك الْأَسير، وَلَفظه: فكوا العاني، يَعْنِي: الْأَسير، وأطعموا الجائع، وعودوا الْمَرِيض.
قَوْله: ( فكوا) من فَككت الشَّيْء فانفك.
قَوْله: ( العاني) من عَنَّا يعنو فَهُوَ عان، وَالْمَرْأَة عانية، وَالْجمع: عوان، وكل من ذل واستكان فقد عَنَّا.


[ قــ :508 ... غــ :5374]
حدَّثنا يُوسُفُ بنُ عَيسى حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا شَبِعَ آل مُحَمَّدٍ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْ طَعَامٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ويوسف بن عِيسَى أيو يَعْقُوب الْمروزِي، وَمُحَمّد بن فُضَيْل، مصغر فضل، بِالْمُعْجَمَةِ يروي عَن أَبِيه فُضَيْل بن غَزوَان بن جرير، وَأَبُو الفضيل الْكُوفِي يروي عَن أبي حَازِم سلمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: ( مَا شبع آل مُحَمَّد) ، آل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَهله الأدنون وعشيرته الأقربون.
قَوْله: ( ثَلَاثَة أَيَّام) ، أَي: مُتَوَالِيَات، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ثَلَاث لَيَال، وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن المُرَاد بِالْأَيَّامِ هُنَا بلياليها كَمَا أَن المُرَاد بالليالي هُنَاكَ بأيامها وَفِي رِوَايَة لمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ، من طَرِيق الْأسود عَن عَائِشَة: مَا شبع من خبز شعير يَوْمَيْنِ مُتَتَابعين.
قَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر أَن سَبَب عدم شبعهم غَالِبا كَانَ بِسَبَب قلَّة الشَّيْء عِنْدهم.
قلت: لم يكن ذَلِك إلاَّ لإيثارهم الْغَيْر، أَو لِأَن الشِّبَع مَذْمُوم، وأجمعت الْعَرَب كَمَا قَالَ فُضَيْل بن عِيَاض على أَن الشِّبَع من الطَّعَام مَذْمُوم ولوم، وَنَصّ الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، على أَن الْجُوع يذكي، وروى عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا: من قلَّ طعمه صَحَّ بَطْنه وَصفا قلبه، وَمن كثر طعمه سقم بَطْنه وقسا قلبه، وَرُوِيَ: لَا تميتوا الْقُلُوب بِكَثْرَة الطَّعَام وَالشرَاب فَإِن الْقلب ثَمَرَة كالزرع إِذا كثر عَلَيْهِ المَاء انْتهى، وروى الزَّمَخْشَرِيّ فِي ( ربيع الْأَبْرَار) من حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب مَرْفُوعا: مَا مَلأ ابْن آدم وعَاء شرا من بَطْنه، فَحسب الرجل من طَعَامه مَا أَقَامَ صلبه.
وَعَنْ أبِي حَازِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أصَابَنِي جِهْدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ فَاسْتَقْرَأتُهُ آيَةً مِنْ كِتابِ الله، فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَليَّ فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنَ الجَهْدِ وَالجُوعِ، فَإذَا رَسُولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِمٌ عَلَى رأسِي، فَقَال: يَا أَبا هُرَيْرَة فَقلت: لَبَيْكَ رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ، فَأخَذَ بِيَدِي فَأقَامَنِي وَعَرَفَ الَّذِي بِي، فَانْطَلَقَ بِي إلَى رَحْلِهِ، فَأمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: عُدْ فَاشْرَبْ يَا أبَا هرٍّ، فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ: عُدْ فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالقِدْحِ، قَالَ فَلَقِيتُ عُمَرَ، وَذَكَرْتُ لهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أمْرِي، وَقُلْتُ لهُ: تَوَلَّى الله تَعَالَى ذالِكَ مَنْ كَانَ أحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَالله لَقَدِ اسْتَقَرَأتُكَ الآيَةَ وَلأنَا أقْرَأُ لَهَا مِنْكَ، قَالَ عُمَرُ: وَالله لأنْ أكُونَ أدْخَلْتُكَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: { فَأمر لي بعس من لبن فَشَرِبت مِنْهُ} قَوْله: ( وَعَن أبي حَازِم) ، مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم، وَقد أخرجه أَبُو يعلى عَن عبد الله بن عمر بن أبان عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل: بِسَنَد البُخَارِيّ فِيهِ.
قَوْله: ( جهد) الْجهد بِالضَّمِّ الطَّاقَة وبالفتح الْغَايَة وَالْمَشَقَّة، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا الْجُوع الشَّديد.
قَوْله: ( فاستقرأته) أَي: سَأَلته أَن يقْرَأ عَليّ آيَة من الْقُرْآن مُعينَة على طَرِيق الاستفادة، وَفِي كثير من النّسخ: فاستقريته بِغَيْر همز وَهُوَ جَائِز لِأَنَّهُ سُهَيْل قَوْله: ( وَفتحهَا على) أَي: أَقْرَأَنيهَا، وَفِي ( الْحِلْية) لأبي نعيم فِي تَرْجَمَة، أبي هُرَيْرَة من وَجه آخر عَنهُ، أَن الْآيَة الْمَذْكُورَة من آل عمرَان.
وَفِيه: أَقْرَأَنِي وَأَنا لَا أُرِيد الْقِرَاءَة.
إِنَّمَا أُرِيد الْإِطْعَام فَلم يفْطن عمر مُرَاده.
قَوْله: ( فَخَرَرْت لوجهي) ويروى: على وَجْهي، أَي: سَقَطت من خر يخر بِالضَّمِّ وَالْكَسْر إِذا سقط من علو.
وَفِي ( الْحِلْية) وَكَانَ يَوْمئِذٍ صَائِما.
قَوْله: ( فَإِذا) كلمة مفاجأة.
قَوْله: ( إِلَى رَحْله) أَي: إِلَى مَسْكَنه.
قَوْله: ( بعس) بِضَم الْعين وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وَهُوَ الْقدح الْعَظِيم.
قَوْله: ( حَتَّى اسْتَوَى بَطْني) أَي: حَتَّى استقام لامتلائه من اللَّبن.
قَوْله: ( كالقدح) بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَهُوَ السهْم الَّذِي لَا ريش لَهُ.
قَوْله: ( تولى الله تَعَالَى) من التَّوْلِيَة وَالْفَاعِل هُوَ الله وَمن مفعول ويروى: تولى ذَلِك أَي: بَاشرهُ من إشباعي وَدفع الْجُوع عني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( ولانا) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد وَهُوَ مُبْتَدأ أَو قَوْله: ( واقرأ لَهَا) خَبره أَي: لِلْآيَةِ الَّتِي فتحهَا عَلَيْهِ عمر، واقرأ أفعل التَّفْضِيل.
قَالَ بَعضهم: فِيهِ إِشْعَار بِأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما قَرَأَهَا عَلَيْهِ توقف فِيهَا أَو فِي شَيْء مِنْهَا حَتَّى سَاغَ لأبي هُرَيْرَة مَا قَالَ: وَلذَلِك أقره عمر عَلَيْهِ قلت لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك عتبا على عمر حَيْثُ لم يفْطن حَاله وَلم يكن قَصده الاستقراء بل كَانَ قَصده أَن يطعمهُ شَيْئا، ويوضح هَذَا مَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: وَالله مَا اسْتَقر أَنه الْآيَة، وَأَنا أَقرَأ بهَا مِنْهُ إلاّ طَمَعا فِي أَن يذهب بِي ويطعمني، وَأما قَوْله: وَلذَلِك أقره عمر عَلَيْهِ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه من استحيائه مِنْهُ حَيْثُ لم يطعمهُ سكت عَنهُ وَلم يُنكر عَلَيْهِ وَفِي الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل نوع نقص فِي حق عمر، على مَا لَا يخفى.
قَوْله: ( لِأَن أكون) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد.
قَوْله: ( أدخلتك أحب إليَّ من حمر النعم) أَرَادَ بِهِ أَن ضيافتك كَانَت عِنْدِي أحب إليّ من حمر النعم أَي: النعم أَي: الْحمر الْإِبِل، وَهُوَ أشرف أَمْوَال الْعَرَب، وَلَفظ: أحب، أفعل التَّفْضِيل بِمَعْنى الْمَفْعُول، وَهَذَا حث من عمر وحرص على فعل الْخَيْر والمواساة.
وَفِي الحَدِيث: التَّعْرِيض بِالْمَسْأَلَة والاستحياء.
وَفِيه: ذكر الرجل مَا كَانَ أَصَابَهُ من الْجهد.
وَفِيه: إِبَاحَة الشِّبَع عِنْد الْجُوع.
وَفِيه: مَا كَانَ السّلف عَلَيْهِ من الصَّبْر على الْقلَّة وشظف الْعَيْش وَالرِّضَا باليسير من الدُّنْيَا.
وَفِيه: ستر الرجل حِيلَة أَخِيه الْمُؤمن إِذا علم مِنْهُ حَاجَة من غير أَن يسْأَله ذَلِك.
وَفِيه: أَنه كَانَ من عَادَتهم إِذا استقرأ أحدهم صَاحب الْقُرْآن يحملهُ إِلَى بَيته ويطعمه مَا تيَسّر عِنْده، وَالله أعلم.