فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الانبساط إلى الناس

( بابُُ الإنْبِساطِ إِلَى الناسِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان جَوَاز الانبساط إِلَى النَّاس وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: مَعَ النَّاس، وَالْمرَاد بِهِ أَن يتلَقَّى النَّاس بِوَجْه بشوش وينبسط مَعَهم بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُنكره الشَّرْع وَمَا يرتكب فِيهِ الْإِثْم، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أحسن الْأمة أَخْلَاقًا وأبسطهم وَجها، وَقد وَصفه الله عز وَجل بذلك بقوله: { وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} فَكَانَ ينبسط إِلَى النِّسَاء وَالصبيان ويداعبهم ويمازحهم، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لأمزح وَلَا أَقُول إلاَّ حَقًا، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ الِاقْتِدَاء بِحسن أخلاقه وطلاقة وَجهه.

وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ رَضِي الله عَنهُ: خالِطِ النَّاسَ ودِينَكَ لَا نَكْلِمَنَّهُ
ذكر هَذَا التَّعْلِيق عَن عبد الله بن مَسْعُود إِشَارَة إِلَى أَن الانبساط مَعَ النَّاس والمخالطة بهم مَشْرُوع، وَلَكِن بِشَرْط أَن لَا يحصل فِي دينه خلل وَيبقى صَحِيحا، وَهُوَ معنى قَوْله: وَدينك لَا تكلمنه، من الْكَلم بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون اللَّام وَهُوَ الْجرْح، وَيجوز فِي دينك الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ، وَلَا تكلمنه خَبره، وَأما النصب فعلى شريطة التَّفْسِير وَالتَّقْدِير: لَا تكلمن دينك، وَفسّر الْمَذْكُور الْمُقدر فَافْهَم، وَقد وصل التَّعْلِيق الْمَذْكُور الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) من طَرِيق عبد الله بن بابُُا، بباءين موحدتين عَن ابْن مَسْعُود: خالطوا النَّاس وصافوهم بِمَا يشتهون ودينكم فَلَا تكلمنه.

والدُّعابَةِ مَعَ الأهْلِ
والدعابة بِالْجَرِّ عطفا على: الانبساط، وَهِي من بَقِيَّة التَّرْجَمَة، وَهِي بِضَم الدَّال وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة وَهِي الملاطفة فِي القَوْل بالمزاح، من دعب يدعب فَهُوَ دعاب.
قَالَ الْجَوْهَرِي: أَي لعاب، والمداعبة الممازحة، وَأما المزاح فَهُوَ بِضَم الْمِيم وَقد مزح يمزح وَالِاسْم المزاح بِالضَّمِّ والمزاحة أَيْضا، وَأما المزح بِكَسْر الْمِيم فَهُوَ مصدر، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُول الله! إِنَّك تلاعبنا؟ إِنِّي لَا أَقُول إلاَّ حَقًا، وَحسنه التِّرْمِذِيّ.
فَإِن قلت: قد أخرج من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَفعه: لَا تمارِ أَخَاك، أَي: لَا تخاصمه وَلَا تمازحه ... الحَدِيث.
قلت: يجمع بَينهمَا بِأَن الْمنْهِي عَنهُ فِيهِ إفراط أَو مداومة عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تؤول إِلَى الْإِيذَاء والمخاصمة وَسُقُوط المهابة وَالْوَقار، وَالَّذِي يسلم من ذَلِك هُوَ الْمُبَاح، فَافْهَم.



[ قــ :5800 ... غــ :6129 ]
- حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ حَدثنَا أبُو التَّيَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بن مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ، يَقُولُ: إنْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخالِطُنا حَتَّى يَقُولَ لأخٍ لِي صَغِيرٍ: يَا با عُمَيْرٍ { مَا فَعَلَ النُّعَيْرُ؟ .
( انْظُر الحَدِيث 6129 طرفه فِي: 6203) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَأَبُو التياح مضى عَن قريب فِي: بابُُ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يسروا.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة وَفِي الاسْتِئْذَان وَفِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْبر عَن هناد عَن وَكِيع.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَغَيره.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَدَب عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي.

قَوْله: ( يخالطنا) أَي يلاطفنا بطلاقة الْوَجْه والمزح.
قَوْله: ( يابا عُمَيْر) أَصله: يَا أَبَا عُمَيْر، حذفت الْألف للتَّخْفِيف وَعُمَيْر تَصْغِير عَمْرو هُوَ ابْن أبي طَلْحَة الْأنْصَارِيّ واسْمه زيد بن سهل وَهُوَ أَخُو أنس بن مَالك لأمه وأمهما أم سليم مَاتَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ يداعب مَعَه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَقُول: ( يَا با عُمَيْر} مَا فعل النغير؟)
بِضَم النُّون وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة مصغر نغر بِضَم النُّون وَفتح الْغَيْن وَهُوَ جمع نغرة، طير كالعصفور محمر المنقار وبتصغيره جَاءَ الحَدِيث وَالْجمع نغران كصرد وصردان، وَمعنى: مَا فعل النغير؟ أَي: مَا شَأْنه وحاله.
.

     وَقَالَ  الرَّاغِب: الْفِعْل التَّأْثِير من جِهَة مُؤثرَة وَالْعَمَل كل فعل يكون من الْحَيَوَان بِقصد وَهُوَ أخص من الْفِعْل لِأَن الْفِعْل قد ينْسب إِلَى الْحَيَوَانَات الَّتِي يَقع مِنْهَا فعل بِغَيْر قصد، وَقد ينْسب إِلَى الجمادات.





[ قــ :5801 ... غــ :6130 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخبرنَا أبُو مُعاوِيَةَ حَدثنَا هِشامٌ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: كُنْتُ ألْعَبُ بالبنَاتِ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وكانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا دَخَلَ يَنْقَمِعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينبسط إِلَى عَائِشَة حَيْثُ يرضى بلعبها بالبنات وَيُرْسل إِلَيْهَا صواحبها حَتَّى يلعبن مَعهَا، وَكَانَت عَائِشَة حينئذٍ غير بَالِغَة، فَلذَلِك رخص لَهَا.
وَالْكَرَاهَة فِيهَا قَائِمَة للبوالغ.

وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام، وَجوز الْكرْمَانِي أَن يكون مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي كريب عَن أبي مُعَاوِيَة.

قَوْله: ( بالبنات) ، وَهِي التماثيل الَّتِي تسمى لعب الْبَنَات، وَهِي مَشْهُورَة،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: يحْتَمل أَن يكون الْبَاء بِمَعْنى: مَعَ، وَالْبَنَات الْجَوَارِي.
قَوْله: ( صَوَاحِب) ، جمع صَاحِبَة وَهِي الْجَوَارِي من أقرانها.
قَوْله: ( إِذا دخل) ، أَي: الْبَيْت.
قَوْله: ( ينقمعن مِنْهُ) ، أَي: يذْهبن ويستترن من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من الانقماع من بابُُ الانفعال وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَعند غَيره: يتقمعن من التقمع من بابُُ التفعل ومادته قَاف وَمِيم وَعين مُهْملَة،.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد: يتقمعن يَعْنِي يدخلن الْبَيْت ويغبن، وَيُقَال: الْإِنْسَان قد انقمع وتقمع إِذا دخل فِي الشَّيْء،.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: وَمِنْه سمي القمع الَّذِي يصب فِيهِ الدّهن وَغَيره لدُخُوله فِي الْإِنَاء.
قَوْله: ( فيسرِّبهن) بِالسِّين الْمُهْملَة أَي: يرسلهن، من التسريب وَهُوَ الْإِرْسَال والتسريح، والسارب الذَّاهِب، يُقَال: سرب عَلَيْهِ الْخَيل وَهُوَ أَن يبْعَث عَلَيْهِ الْخَيل قِطْعَة بعد قِطْعَة.
قَوْله: ( إِلَيّ) بتَشْديد الْيَاء الْمَفْتُوحَة، وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على جَوَاز اتِّخَاذ صور اللّعب من أجل لعب الْبَنَات بِهن، وَخص ذَلِك من عُمُوم النَّهْي عَن اتِّخَاذ الصُّور، وَبِه جزم عِيَاض وَنَقله عَن الْجُمْهُور، وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بيع اللّعب للبنات لتدربهن من صغرهن على أَمر بُيُوتهنَّ وأولادهن، قَالَ: ذهب بَعضهم إِلَى أَنه مَنْسُوخ وَإِلَيْهِ مَال ابْن بطال، وَقد ترْجم لَهُ ابْن حبَان: الْإِبَاحَة لصغار النِّسَاء اللّعب باللعب، وَترْجم لَهُ النَّسَائِيّ: إِبَاحَة الرجل لزوجته اللّعب بالبنات، وَلم يُقيد بالصغر وَفِيه نظر، وَجزم ابْن الْجَوْزِيّ بِأَن الرُّخْصَة لعَائِشَة فِي ذَلِك كَانَ قبل التَّحْرِيم،.

     وَقَالَ  الْمُنْذِرِيّ: إِن كَانَت اللّعب كالصورة فَهُوَ قبل التَّحْرِيم وإلاَّ فقد يُسمى مَا لَيْسَ بِصُورَة لعبة،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ، فِي هَذَا الحَدِيث: إِن اللّعب بالبنات لَيْسَ كالتلهي بِسَائِر الصُّور الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْوَعيد، وَإِنَّمَا أرخص لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، فِيهَا لِأَنَّهَا إِذْ ذَاك كَانَت غير بَالغ.