فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب بدء السلام

( كِتابُ الاسْتِئْذَانِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَمر الاسْتِئْذَان، وَهُوَ طلب الْإِذْن فِي الدُّخُول فِي مَحل لَا يملكهُ المستأذِن، وَذكر ابْن بطال فِي شرح هَذَا الْكتاب قبل كتاب اللبَاس بعد الْمُرْتَدين والمحاربين، وَلم يدر مَا كَانَ مُرَاده من ذَلِك.


( بابُُ بَدْءِ السَّلاَمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان بَدْء السَّلَام، والبدء بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وبالهمزة فِي آخِره بِمَعْنى الِابْتِدَاء، أَي: أول مَا يَقع السَّلَام، وَإِنَّمَا ترْجم بِالسَّلَامِ للْإِشَارَة إِلَى أَنه لَا يُؤذن لمن لم يسلم، وَقد أخرج أَبُو دَاوُد عَن ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد جيد عَن ربعي بن حِرَاش: حَدثنِي رجل أَنه اسْتَأْذن على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي بَيته، فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ لِخَادِمِهِ: أخرج إِلَى هَذَا فَعلمه، فَقَالَ: قل السَّلَام عَلَيْكُم! أَأدْخل؟ ... الحَدِيث، وَصَححهُ الدَّارَقُطْنِيّ.



[ قــ :5898 ... غــ :6227 ]
- حدَّثنا يَحْياى بنُ جَعْفَر حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَر عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: خَلَقَ الله آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِراعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: إذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولائِكَ النفَرِ مِنَ المَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ، فاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فإِنَّها تَحِيَّتكَ وَتَحِيَّةُ ذُرَّيَّتِكَ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ.
فقالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ الله، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ.
( انْظُر الحَدِيث 3326) .


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( فَسلم على أُولَئِكَ النَّفر من الْمَلَائِكَة) فَإِن فِيهِ البدء بِالسَّلَامِ.

وَيحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو زَكَرِيَّا البُخَارِيّ البيكندي بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الرَّزَّاق بن همام، وَمعمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد الْبَصْرِيّ، وَهَمَّام بتَشْديد الْمِيم ابْن مُنَبّه بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة الصَّنْعَانِيّ.

والْحَدِيث قد مضى فِي خلق آدم عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَلَيْسَ فِيهِ لفظ: على صورته، وَلَا فِيهِ لفظ: النَّفر وَلَا لفظ.
جُلُوس وَلَا لفظ.
بعد، وَالْبَاقِي مثله.
وَأخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق ... إِلَى آخِره.

قَوْله: ( على صورته) أَي على صُورَة آدم لِأَنَّهُ أقرب أَي: خلقه فِي أول الْأَمر بشرا سوياً كَامِل الْخلقَة طَويلا سِتِّينَ ذِرَاعا كَمَا هُوَ الْمشَاهد، بِخِلَاف غَيره فَإِنَّهُ يكون أَولا نُطْفَة ثمَّ علقه ثمَّ مُضْغَة ثمَّ جَنِينا ثمَّ طفْلا ثمَّ رجلا حَتَّى يتم طوله فَلهُ أطوار،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: أَفَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك إبِْطَال قَول الدهرية: إِنَّه لم يكن قطّ إِنْسَان إلاَّ من نُطْفَة، وَلَا نُطْفَة إلاَّ من إِنْسَان، وَقَول الْقَدَرِيَّة: إِن صِفَات آدم على نَوْعَيْنِ: مَا خلقهَا الله تَعَالَى وَمَا خلقهَا آدم بِنَفسِهِ، قَالَ: وَقيل: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِرَجُل يضْرب عَبده فِي وَجهه لطماً فزجره عَن ذَلِك،.

     وَقَالَ : خلق الله آدم على صورته، فالهاء كِنَايَة عَن الْمَضْرُوب وَجهه، قَالَ: وَقد يُقَال: هُوَ عَائِد إِلَى الله تَعَالَى، لَكِن الصُّورَة هِيَ الْهَيْئَة وَذَلِكَ لَا يَصح إلاَّ على الْأَجْسَام، فَمَعْنَى الصُّورَة الصّفة كَمَا يُقَال: عرفني صُورَة هَذَا الْأَمر أَي: صفته، يَعْنِي: خلق آدم على صفته أَي حَيا عَالما سميعاً بَصيرًا متكلماً، أَو هُوَ إِضَافَة تشريفية نَحْو: بَيت الله وروح الله، لِأَنَّهُ ابتدأها لَا على مِثَال سَابق بل بمحض الاختراع فشرفها بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ.
قَوْله: ( طوله سِتُّونَ ذِرَاعا) .
وَلم يبين عرضه هُنَا، وَجَاء أَن عرضه كَانَ سَبْعَة أَذْرع.
قَوْله: ( النَّفر) بِفَتْح الْفَاء وسكونها: عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، وَهُوَ مجرور فِي الرِّوَايَة وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هم النَّفر من الْمَلَائِكَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَيجوز الرّفْع وَالنّصب.
قلت: لَا وَجه للنصب إلاَّ بتكلف.
قَوْله: ( جُلُوس) جَالس وارتفاعه على أَنه خبر بعد خبر، وَمن حَيْثُ الْعَرَبيَّة يجوز نَصبه على الْحَال.
قَوْله: ( فاستمع) فِي رِوَايَة الْكشميهني، فاسمع.
قَوْله: ( مَا يحيونك) من التَّحِيَّة، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: مَا يجيبونك، بِالْجِيم من الْجَواب.
قَوْله: ( فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن الْكَلِمَات الَّتِي يحيون بهَا، قيل: المُرَاد من قَوْله: ( ذريتك) الْمُسلمُونَ.
قَوْله: ( السَّلَام عَلَيْكُم) هَكَذَا كَانَ ابْن عمر يَقُول فِي سَلَامه وَفِي رده،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: السَّلَام يَنْتَهِي إِلَى الْبركَة وَلَا يَنْبَغِي أَن يَقُول فِي السَّلَام: سَلام الله عَلَيْك، وَلَكِن: عَلَيْك السَّلَام، أَو: السَّلَام عَلَيْكُم، وَأَقل السَّلَام: السَّلَام عَلَيْكُم، فَإِن كَانَ وَاحِدًا خَاطب وَالْأَفْضَل الْجمع لتنَاوله مَلَائكَته، وأكمل مِنْهُ زِيَادَة، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، اقْتِدَاء بقوله عز وَجل: { ( 11) رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم أهل الْبَيْت} ( هود: 11) وَيكرهُ أَن يَقُول الْمُبْتَدِي: عَلَيْكُم السَّلَام، فَإِن قَالَهَا اسْتحق الْجَواب على الصَّحِيح من أَقْوَال الْعلمَاء، وَقيل: لَا يسْتَحق.
روى التِّرْمِذِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأبي جري الهجمي: لَا تقل عَلَيْك السَّلَام، فَإِن: عَلَيْك السَّلَام، تَحِيَّة الْمَوْتَى،.

     وَقَالَ : حَدِيث صَحِيح، وَالْأَفْضَل الْأَكْمَل فِي الرَّد أَن يَقُول: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، وَيَأْتِي بِالْوَاو،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: فَلَو حذفهَا جَازَ وَكَانَ تَارِكًا للأفضل، وَلَو اقْتصر على: وَعَلَيْكُم السَّلَام، أَجزَأَهُ، وَلَو اقْتصر على: وَعَلَيْكُم، لم يجزه.
وَلَو قَالَ: وَعَلَيْكُم، بِالْوَاو.
قَالَ النَّوَوِيّ: فَفِي إجزائه وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا، وَأَقل السَّلَام ابْتِدَاء وردا أَن يسمع بِصَاحِبِهِ، وَلَا يُجزئهُ دون ذَلِك، وَيشْتَرط كَون الرَّد على الْفَوْر فَإِن أَخّرهُ ثمَّ رد لم يعد جَوَابا وَكَانَ آثِما بِتَرْكِهِ، وَلَو أَتَاهُ سَلام من غَائِب مَعَ رَسُول أَو فِي ورقة وَجب الرَّد على الْفَوْر، وَيسْتَحب أَن يرد على الْمبلغ أَيْضا فَيَقُول: وَعَلَيْك وَعَلِيهِ السَّلَام، وَلَو كَانَ السَّلَام على أَصمّ فَيَنْبَغِي الْإِشَارَة مَعَ التَّلَفُّظ ليحصل الإفهام، وإلاَّ فَلَا يسْتَحق جَوَابا، وَكَذَا إِذا سلم عَلَيْهِ الْأَصَم وَأَرَادَ الرَّد عَلَيْهِ فيتلفظ بِاللِّسَانِ، وَيُشِير بِالْجَوَابِ.
وَلَو سلم على الْأَخْرَس فَأَشَارَ الْأَخْرَس بِالْيَدِ سقط عَنهُ الْفَرْض، وَكَذَا لَو سلم عَلَيْهِ أخرس بِالْإِشَارَةِ اسْتحق الْجَواب.
قَوْله: ( فَقَالُوا: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فَقَالُوا: وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة الله.
قَوْله: ( فَكل من يدْخل الْجنَّة) مُبْتَدأ.
وَقَوله: ( على صُورَة آدم) خَبره، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: فَكل من يدْخل، يَعْنِي: الْجنَّة، وَكَانَ لفظ: الْجنَّة سقط من رِوَايَته فَزَاد فِيهِ، يَعْنِي: الْجنَّة.
قَوْله: ( ينقص) أَي: طوله.

وَفِيه: الْإِشْعَار بِجَوَاز فنَاء الْعَالم كُله كَمَا جَازَ فنَاء بعضه،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: فِيهِ أَن الْمَلَائِكَة يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ ويتحيون بِتَحِيَّة الْإِسْلَام.
وَفِيه: الْأَمر بتَعَلُّم الْعلم من أَهله.

ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذاَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} ( النُّور: 27 29)
هَذِه ثَلَاث آيَات سَاقهَا الْأصيلِيّ وكريمة فِي روايتهما، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر قَوْله: {لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ} إِلَى قَوْله: {وَمَا تكتمون} وَسبب نزُول قَوْله تَعَالَى: {اأيها الَّذين آمنُوا} ... الْآيَة.
مَا ذكره عدي بن ثَابت، قَالَ: جَاءَت امْرَأَة من الْأَنْصَار فَقَالَت: يَا رَسُول الله {إِنِّي أكون فِي بَيْتِي على حَال لَا أحب أَن يراني عَلَيْهَا أحد والدولا ولد فَيدْخل عَليّ، وَإنَّهُ لَا يزَال يدْخل عَليّ رجل من أَهلِي وَأَنا على تِلْكَ الْحَالة، فَكيف أصنع؟ فَنزلت هَذِه الْآيَة.
قَوْله: ( حَتَّى تستأنسوا) قَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: تستأذنوا.
قَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا هُوَ تستأذنوا، وَلَكِن أَخطَأ الْكَاتِب، وَكَانَ أبي وَابْن عَبَّاس وَالْأَعْمَش يقرؤونها كَذَلِك: حَتَّى تستأذنوا، وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير تَقْدِيره: حَتَّى تسلموا على أَهلهَا وتستأنسوا،.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك فِي الْقِرَاءَة الأولى ثمَّ نسخت تِلَاوَته معنى، وَلم يطلع عَلَيْهِ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَالْمرَاد بالاستئناس الاسْتِئْذَان بتنحنح وَنَحْوه عِنْد الْجُمْهُور.
وَأخرج الطَّبَرِيّ عَن مُجَاهِد: حَتَّى تستأنسوا: تتنحنحوا أَو تنخموا، وَأخرج ابْن أبي حَاتِم بِسَنَد ضَعِيف من حَدِيث أبي أَيُّوب قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله} هَذَا السَّلَام فَمَا الِاسْتِئْنَاس؟ قَالَ: يتَكَلَّم الرجل بتسبيحة وَتَكْبِيرَة وَيَتَنَحْنَح فَيُؤذن أهل الْبَيْت.
وَأخرج الطَّبَرِيّ من طَرِيق قَتَادَة.
الاسْتِئْذَان ثَلَاثًا، فَالْأولى ليسمع، وَالثَّانيَِة لِيَتَأَهَّبُوا لَهُ، وَالثَّالِثَة أَن شاؤوا أذنوا وَإِن شاؤوا أَرَادوا.
والاستئناس فِي اللُّغَة طَالب الإيناس وَهُوَ من الْأنس بِالضَّمِّ ضد الوحشة،.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: معنى: تستأنسوا، تستبصروا ليَكُون الدَّاخِل على بَصِيرَة فَلَا يُصَادف مَا لَا يكره صَاحب الْمنزل أَن يطلعوا عَلَيْهِ.
وَأخرج من طَرِيق الْبَراء، قَالَ: الِاسْتِئْنَاس فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَاهُ: انْظُرُوا من فِي الدَّار.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَحكى الطَّحَاوِيّ أَن الِاسْتِئْنَاس فِي لُغَة الْيمن الاسْتِئْذَان، ثمَّ قَالَ: وَجَاء عَن ابْن عَبَّاس إِنْكَار ذَلِك.
قلت: هَذَا قَتَادَة قد فسر الِاسْتِئْنَاس بالاستئذان كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، فقصد هَذَا الْقَائِل إِظْهَار مَا فِي قلبه من الحقد للحنفية.
قَوْله: ( ذَلِكُم) أَي: الاسْتِئْذَان وَالتَّسْلِيم خير لكم من تَحِيَّة الْجَاهِلِيَّة والدمور وَهُوَ الدُّخُول بِغَيْر إِذن.
قَوْله: ( تذكرُونَ) أَصله: تتذكرون فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ.
قَوْله: ( فَإِن لم تَجدوا فِيهَا) أَي: فِي الْبيُوت أحدا من الآذنين فَلَا تدخلوها فَاصْبِرُوا حَتَّى تَجدوا من يَأْذَن لكم، وَيحْتَمل: فَإِن لم تَجدوا فِيهَا أحدا من أَهلهَا وَلكم فِيهَا حَاجَة فَلَا تدخلوها إلاَّ بِإِذن أَهلهَا.
قَوْله: ( فَارْجِعُوا) وَلَا تقفوا على أَبْوَابهَا وَلَا تلازموها.
قَوْله: ( هُوَ) أَي: الرُّجُوع ( أزكى) أَي أطهر وَأصْلح، فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت الْخَانَات والمساكن فِي طَرِيق الشَّام لَيْسَ فِيهَا سَاكن؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تدْخلُوا بُيُوتًا غير مسكونة} بِغَيْر اسْتِئْذَان.
قَوْله: ( فِيهَا مَتَاع لكم) أَي: مَنْفَعَة لكم.
وَاخْتلفُوا فِي هَذِه الْبيُوت مَا هِيَ، قَالَ قَتَادَة: هِيَ الْخَانَات والبيوت المبنية للسائلة يأوو إِلَيْهَا ويأووا أمتعتهم فِيهَا.
.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: كَانُوا يضعون بطرِيق الْمَدِينَة أقتاباً وأمتعة فِي بيُوت لَيْسَ فِيهَا أحد، وَكَانَت الطرقات إِذْ ذَاك آمِنَة، فأحل لَهُم أَن يدخلوها بِغَيْر إِذن.
وَعَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَأَبِيهِ عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا هِيَ بيُوت مَكَّة.
.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك: هِيَ الخربة الَّتِي يأوي إِلَيْهَا الْمُسَافِر فِي الصَّيف والشتاء،.

     وَقَالَ  عَطاء: هِيَ الْبيُوت الخربة، وَالْمَتَاع قَضَاء الْحَاجة فِيهَا من الْبَوْل وَغَيره،.

     وَقَالَ  ابْن زيد: هِيَ بيُوت التُّجَّار وحوانيتهم الَّتِي بالأسواق.
.

     وَقَالَ  ابْن جريج: هِيَ جَمِيع مَا يكون من الْبيُوت الَّتِي لَا سَاكن فِيهَا على الْعُمُوم.

وَقَالَ سَعِيدُ بنُ أبي الحَسَنِ لِلْحَسَنِ: إنَّ نَساءَ العَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُؤُوسَهُنَّ.
قَالَ: إصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُمَّ.
قَوْلُ الله عَزَّ وَجَلَّ: { ( 42) قل للْمُؤْمِنين.
.
فروجهم} ( النُّور: 30) .
.

     وَقَالَ  قَتَادَة: عمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ
وَجه ذكر هَذَا عقيب ذكر الْآيَات الثَّلَاث الْمَذْكُورَة الْإِشَارَة إِلَى أَن أصل مَشْرُوعِيَّة الاسْتِئْذَان الِاحْتِرَاز من وُقُوع النّظر إِلَى مَا لَا يُرِيد صَاحب الْمنزل النّظر إِلَيْهِ لَو دخل بِلَا إِذن، ثمَّ قَوْله:.

     وَقَالَ  سعيد بن أبي الْحسن ... إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، فالحسن اسْتدلَّ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة، وَذكر البُخَارِيّ أثر قَتَادَة تَفْسِيرا لَهَا، وَسَعِيد بن أبي الْحسن هُوَ أَخُو الْحسن الْبَصْرِيّ تَابِعِيّ ثِقَة قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ قبل الْحسن الْبَصْرِيّ.
قَوْله: ( قَالَ: اصرف) أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ لِأَخِيهِ: إصرف بَصرك عَنْهُن، قَوْله: قَول الله عز وَجل، ويروى: يَقُول الله تَعَالَى ذكره فِي معرض الِاسْتِدْلَال، وَيجوز فِي: قَول الله، الْفَرْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا قَول الله، وَأما النصب فعلى تَقْدِير: إقرأ قَول الله عز وَجل، وأتر قَتَادَة أخرجه ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق يزِيد بن زُرَيْع عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: { ( 42) ويحفظوا فروجهم} ( النُّور: 31)
إِلَى آخِره، وعَلى هَذِه الرِّوَايَة.
وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين تكون تَرْجَمَة مستأنفة.

وقُلْ لِلْمُؤْمناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
هَذِه أَيْضا من تَتِمَّة اسْتِدْلَال الْحسن بهَا، غير أَن أثر قَتَادَة تخَلّل بَينهمَا، كَذَا وَقع للأكثرين، وَسقط جَمِيع ذَلِك من رِوَايَة النَّسَفِيّ، فَقَالَ بعد قَوْله: {حَتَّى تستأنسوا} الْآيَتَيْنِ: وَقَول الله عز وَجل: {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم} ... الْآيَة.
{وَقل للمؤمنات يغضضن} .

خائِنَةَ الأعْيُنِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِضَم النُّون فِي قَوْله: ( مَا نهي عَنهُ) يَعْنِي: على صِيغَة الْمَجْهُول، وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة: إِلَى مَا نهى الله عَنهُ.
قَالَ الله عز وَجل: { ( 04) يعلم خَائِنَة الْأَعْين} ( غَافِر: 19) وَهِي صفة للنظرة، أَي: يعلم النظرة المسترقة إِلَى مَا لَا يحل.
وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {يعلم خَائِنَة الْأَعْين} قَالَ: هُوَ الرجل ينظر إِلَى الْمَرْأَة الْحَسْنَاء تمر بِهِ، أَو يدْخل بَيْتا هِيَ فِيهِ فَإِذا فطن بِهِ غض بَصَره، وَقد علم الله تَعَالَى أَنه يود أَن لَو اطلع على فرجهَا، وَإِذا قدر عَلَيْهَا الزِّنَى بهَا.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَأما خَائِنَة الْأَعْين الَّتِي ذكرت فِي الخصائص النَّبَوِيَّة فَهِيَ الْإِشَارَة بِالْعينِ إِلَى مُبَاح من الضَّرْب وَنَحْوه، لَكِن على خلاف مَا يظهره بالْقَوْل.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتي لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّساءِ: لَا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُن مِمَّنْ يُشْتَهَى النظَرُ إلَيْهِ، وإنْ كانَتْ صَغِيرَةً.

كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني فِي النّظر إِلَى مَا لَا يحل من النِّسَاء: لَا يصلح، الخ.
وَفِي رِوَايَته أَيْضا النّظر إلَيْهِنَّ أَي: إِلَى النِّسَاء.
وَأما الضَّمِير الَّذِي فِي قَوْله: إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يرجع إِلَى شَيْء مِنْهُنَّ، وَمِنْه أَخذ ابْن الْقَاسِم أَنه لَا يجوز للرجل أَن يغسل الصَّغِيرَة الْأَجْنَبِيَّة الْميتَة، خلافًا لأَشْهَب، وَهَذَا الْأَثر وَالَّذِي بعده قد سقطا من رِوَايَة النَّسَفِيّ.

وَكَرِهَ عَطاءٌ النَّظَرَ إِلَى الجَوارِي الَّتِي يُبَعْنَ بِمَكَّة إلاَّ أنْ يُرِيدَ أنْ يَشْتَرِيَ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَوصل أَثَره ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: سُئِلَ عَطاء بن أبي رَبَاح عَن الْجَوَارِي اللَّاتِي يبعن بِمَكَّة؟ فكره النّظر إلَيْهِنَّ إلاَّ لمن يُرِيد أَن يَشْتَرِي.