فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من ناجى بين يدي الناس، ومن لم يخبر بسر صاحبه، فإذا مات أخبر به

( بابُُ مَنْ ناجاى بَيْنَ يَدَي النَّاسِ، ومَنْ لَمْ يُخْبِرْ بسِرِّ صاحِبِهِ فَإِذا ماتَ أخْبَرَ بِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان من ناجى أَي: خَاطب غَيره وَحدث مَعَه سرا بَين يَدي جمَاعَة يُقَال: ناجاه يناجيه مُنَاجَاة فَهُوَ مناج.
قَوْله: وَمن لم يخبر، أَي: وَفِي بَيَان من لم يخبر بسر صَاحبه فِي حَيَاة صَاحبه ( فَإِذا مَاتَ صَاحبه أخبر بِهِ) للْغَيْر، وَالْحَاصِل أَن هَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ لم يُوضح الحكم فيهمَا اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث.
أما الأول: فَحكمه جَوَاز مساررة الْوَاحِدَة بِحَضْرَة الْجَمَاعَة وَلَيْسَ ذَلِك من نَهْيه عَن مُنَاجَاة الْإِثْنَيْنِ دون الْوَاحِد، لِأَن الْمَعْنى الَّذِي يخَاف من ترك الْوَاحِد لَا يخَاف من ترك الْجَمَاعَة، وَذَلِكَ أَن الْوَاحِد إِذا تساروا دونه وَقع بِنَفسِهِ أَنَّهُمَا يتكلمان فِيهِ بالسوء، وَلَا يتَّفق ذَلِك فِي الْجَمَاعَة.
وَأما الثَّانِي: فَحكمه أَنه لَا يَنْبَغِي إفشاء السِّرّ إِذا كَانَت فِيهِ مضرَّة على المسر، لِأَن فَاطِمَة رَضِي الله عَنهُ لَو أخْبرت بِمَا أسر إِلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْوَقْت يَعْنِي: فِي مرض مَوته من قرب أَجله لحزنت نساؤه بذلك حزنا شَدِيدا، وَكَذَلِكَ لَو أخبرتهن بِأَنَّهَا سيدة نسَاء الْمُؤمنِينَ لعظم ذَلِك عَلَيْهِنَّ وَاشْتَدَّ حزنهن، وَلما أمنت فَاطِمَة بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرت بذلك، وَهَذَا حَاصِل معنى التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة وَبِه يَتَّضِح أَيْضا معنى الحَدِيث.



[ قــ :5953 ... غــ :6285 ]
- ح دَّثنا مُوساى عَنْ أبي عَوانَةَ حَدثنَا فِراسٌ عَنْ عامِرٍ عَنْ مَسْروق حدَّثَتْني عائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ قالَتْ: إنَّا كُنَّا أزْواجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْدَهُ جَميعاً لَمْ تُغادَرْ مِنَّا واحِدَةٌ، فأقْبَلَتْ فاطِمَةُ، عَلَيْها السَّلامُ، تَمْشِي لَا وَالله مَا تَخْفَى مِشيتُها مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا رَآها رَحَّبَ قَالَ: مَرْحَباً بِابْنَتِي، ثُمَّ أجْلَسَها عَنْ يَمِينِهِ أوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ سارَّها فَبَكَتْ بُكاءً شَدِيداً، فَلَمَّا رَأى حُزْنَها سارَّها الثَّانِيَةَ إِذا هِيَ تَضْحَكُ، فَقُلْتُ لَهَا: أَنا مِنْ بَيْنِ نِسائِهِ خَصَّكِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالسِّرِّ مِنْ بَيْنَنَا ثُمَّ أنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سألْتُها عَمَّا سارَكِ قالَتْ: مَا كنْتُ لأُفْشيَ عَلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ.

قُلْتُ لَها: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِما لِي عَلَيْكِ مِنَ الحَقِّ لَمَّا أخبَرْتَنِي.
قالَتْ: أمَّا الآنَ فَنَعَمْ، فأخْبرَتْنِي قالَتْ: أمَّا حِينَ سارَّبِي فِي الأمْرِ الأوَّلِ أخْبَرَنِي أنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعارِضُهُ بِالقُرْآنِ كلَّ سَنَةٍ مَرَّة وإنَّهُ قَدْ عارضَنِي بِهِ العامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أراى الأجَلَ إلاَّ قَدِ اقْتَرَبَ فاتَّقِي الله واصْبِرِي فإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أَنا لَكِ، قالَتْ: فَبَكَيْتُ بكائِي الَّذِي رَأيْتِ، فَلَمَّا رَأى جَزَعِي سارَّنِي الثَّانِيَةَ، قَالَ: يَا فاطِمَةُ أَلا تَرْضَيْن أنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِساءِ المُؤْمِنِينَ أَو سَيِّدَةَ نِساءِ هاذِهِ الأُمَّةِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة تظهر مِمَّا ذكرنَا الْآن فِي التَّرْجَمَة.
ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ التَّبُوذَكِي، وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، وفراس بِكَسْر الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وبالسين الْمُهْملَة ابْن يحيى الْمكتب الْكُوفِي، وعامر هُوَ ابْن شرَاحِيل الشّعبِيّ، ومسروق هُوَ ابْن الأجدع.

والْحَدِيث من رِوَايَة مَسْرُوق مضى مُخْتَصرا فِي: بابُُ كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِعرْض الْقُرْآن على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمضى فِي: بابُُ كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَ: دَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاطِمَة ... الحَدِيث مُخْتَصرا، وَمضى أَيْضا من حَدِيث عُرْوَة مُخْتَصرا فِي: بابُُ عَلَامَات النُّبُوَّة، وَمضى أَيْضا من حَدِيثه مُخْتَصرا فِي: بابُُ مَنَاقِب قرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

قَوْله: ( أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص.
قَوْله: ( لم تغادر) على بِنَاء الْمَجْهُول أَي: لم تتْرك من المغادرة وَهُوَ التّرْك.
قَوْله: ( مشيتهَا) بِكَسْر الْمِيم وَذَلِكَ من مشْيَة على وزن فعلة وَهِي للنوع.
قَوْله: ( رحب) بتَشْديد الْحَاء أَي: قَالَ لَهَا: مرْحَبًا.
قَوْله: ( وَعَن شِمَاله) شكّ من الرَّاوِي.
قَوْله: ( سَارهَا) بتَشْديد الرَّاء وَأَصله: ساررها، أَي: تكلم مَعهَا سرا.
قَوْله: ( إِذا هِيَ تضحك) .
كلمة: إِذا، للمفاجأة ويروى: فَإِذا هِيَ، بِالْفَاءِ قَوْله: ( لأفشي) بِضَم الْهمزَة من الإفشاء وَهُوَ الْإِظْهَار والنشر.
قَوْله: ( عزمت) أَي: أَقْسَمت.
قَوْله: ( بِمَالي) الْبَاء فِيهِ للقسم.
قَوْله: ( لما أَخْبَرتنِي) بِمَعْنى: إلاَّ أَخْبَرتنِي وَكلمَة: هَاهُنَا حرف اسْتثِْنَاء تدخل على الْجُمْلَة الإسمية نَحْو قَوْله تَعَالَى: { ( 68) إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} ( الطارق: 4) فِيمَن شدد الْمِيم، وعَلى الْمَاضِي لفظا لَا معنى نَحْو: أنْشدك الله لما فعلت، أَي: مَا أَسأَلك إلاَّ فعلك، وَهنا أَيْضا الْمَعْنى: لَا أَسأَلك إلاَّ إخبارك بِمَا سارك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( جزعى) الْجزع قلَّة الصَّبْر وَقيل: نقيض الصَّبْر وَهُوَ الْأَصَح، وَبَقِيَّة الأبحاث مرت فِي الْأَبْوَاب الَّتِي ذَكرنَاهَا.