فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: كيف فرضت الصلاة في الإسراء؟

(كِتَابُ الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الصَّلَاة، وارتفع: كتاب، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف كَمَا قدرناه، وَيجوز أَن يكون مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، أَي: كتاب الصَّلَاة هَذَا، وَيجوز أَن ينْتَصب على تَقْدِير خُذ كتاب الصَّلَاة، وَقد مضى تَفْسِير الْكتاب مرّة.
وَلما فرغ من بَيَان الطَّهَارَة الَّتِي مِنْهَا شُرُوط الصَّلَاة، شرع فِي بَيَان الصَّلَاة الَّتِي هِيَ الْمَشْرُوطَة.
فَلذَلِك أَخّرهَا عَن الطهارات، لِأَن شَرط الشَّيْء يسْبقهُ، وَحكمه يعقبه، ثمَّ معنى الصَّلَاة فِي اللُّغَة الْغَالِبَة الدُّعَاء.
قَالَ تَعَالَى: { وصل عَلَيْهِم} (:) أَي: ادْع لَهُم.
وَفِي الحَدِيث، فِي إِجَابَة الدعْوَة: (وَإِن كَانَ صَائِما فَليصل) أَي: فَليدع لَهُم بِالْخَيرِ وَالْبركَة.
وَقيل: هِيَ مُشْتَقَّة من: صليت الْعود على النَّار: إِذا قومته.
قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا بَاطِل، لِأَن لَام، الْكَلِمَة فِي: الصَّلَاة: وَاو، بِدَلِيل الصَّلَوَات، وَفِي: صليت: فَكيف يَصح الِاشْتِقَاق مَعَ اخْتِلَاف الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة؟ قلت: دَعْوَاهُ بِالْبُطْلَانِ غير صَحِيحَة، لِأَن اشْتِرَاط اتِّفَاق الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة فِي الِاشْتِقَاق الصَّغِير دون الْكَبِير والأكبر، فَإِن قلت: لَو كَانَت واوية كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: صلوت، وَلم يقل ذَلِك.
قلت: هَذَا لَا يَنْفِي أَن تكون واوية لأَنهم يقلبون: الْوَاو يَاء إِذا وَقعت رَابِعَة.
وَقيل؛ الصَّلَاة مُشْتَقَّة من: الصلوين، تَثْنِيَة: الصلا، وَهُوَ مَا عَن يَمِين الذَّنب وشماله، قَالَه الْجَوْهَرِي.
قلت: هما العظمان الناتئان عِنْد العجيزة، وَذَلِكَ لِأَن الْمُصَلِّي يُحَرك صلويه فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود.
وَقيل: مُشْتَقَّة من الْمصلى، وَهُوَ الْفرس الثَّانِي من خيل السباق، لِأَن رَأسه تلِي صلوي السَّابِق.
وَقيل: أَصْلهَا من التَّعْظِيم، وَسميت الْعِبَادَة الْمَخْصُوصَة: صَلَاة، لما فِيهَا من تَعْظِيم الرب.
وَقيل: من الرَّحْمَة، وَقيل: من التَّقَرُّب، من قَوْلهم: شَاة مصلية، وَهِي الَّتِي قربت إِلَى النَّار.
وَقيل: من اللُّزُوم، قَالَ الزّجاج: يُقَال: صلى واصطلى: إِذا لزم.
وَقيل: هِيَ الإقبال على الشَّيْء.
وَأنكر غير وَاحِد بعض هَذِه الاشتقاقات لاخْتِلَاف لَام الْكَلِمَة فِي بعض هَذِه الْأَقْوَال، فَلَا يَصح الِاشْتِقَاق مَعَ اخْتِلَاف الْحُرُوف.
قلت: قد أجبنا الْآن عَن ذَلِك.
وَأما مَعْنَاهَا الشَّرْعِيّ: فَهِيَ عبارَة عَن الْأَركان الْمَعْهُودَة وَالْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة.
وَقد ذكر بَعضهم وَجه الْمُنَاسبَة بَين أَبْوَاب كتاب الصَّلَاة، وَهِي تزيد على عشْرين نوعا فِي هَذَا الْموضع، ثمَّ قَالَ: آخر مَا ظهر من مُنَاسبَة تَرْتِيب كتاب الصَّلَاة فِي هَذَا الْجَامِع الصَّحِيح، وَلم يتَعَرَّض أحد من الشُّرَّاح لذَلِك.
قلت: نَحن نذْكر وَجه الْمُنَاسبَة بَين كل بَابَيْنِ من هَذِه الْأَبْوَاب بِمَا يفوق ذَلِك على ماذكره، يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُقَابلَة، وَذكرهَا فِي موضعهَا أنسب وأوقع فِي الذِّهْن وَأقرب إِلَى الصَّوَاب، وبا التَّوْفِيق.


(بابُُ كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلواتُ فِي الإسْراءِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان كَيْفيَّة فَرضِيَّة الصَّلَاة فِي لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَالْمُسْتَمْلِي: (كَيفَ فرضت الصَّلَوَات) ، بِالْجمعِ، وَاخْتلفُوا فِي الْمِعْرَاج والإسراء هَل كَانَا فِي لَيْلَة وَاحِدَة أَو فِي لَيْلَتَيْنِ؟ وَهل كَانَا جَمِيعًا فِي الْيَقَظَة أَو فِي الْمَنَام؟ أَو أَحدهمَا فِي الْيَقَظَة وَالْآخر فِي الْمَنَام؟ فَقيل: إِن الْإِسْرَاء كَانَ مرَّتَيْنِ: مرّة بِرُوحِهِ مناماً، وَمرَّة بِرُوحِهِ وبدنه يقظة.
وَمِنْهُم من يَدعِي تعدد الْإِسْرَاء فِي الْيَقَظَة أَيْضا، حَتَّى قَالَ: إِنَّه أَربع إسراآت، وَزعم بَعضهم أَن بَعْضهَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، ووفق أَبُو شامة فِي رِوَايَات حَدِيث الْإِسْرَاء بِالْجمعِ بالتعدد، فَجعل ثَلَاث إسراآت مرّة من مَكَّة إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَقَط على الْبراق، وَمرَّة من مَكَّة إِلَى السَّمَوَات على الْبراق أَيْضا.
وَمرَّة من مَكَّة إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ إِلَى السَّمَوَات.
وَجُمْهُور السّلف وَالْخلف على الْإِسْرَاء كَانَ بِبدنِهِ وروحه.
وَأما من مَكَّة إِلَى بَيت الْمُقَدّس فبنص الْقُرْآن، وَكَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة عشرَة من النُّبُوَّة؛ وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ أه أسرِي بِهِ قبل خُرُوجه إِلَى الْمَدِينَة بِسنة، وَعَن السّديّ قبل مهاجرته بِسِتَّة عشر شهرا، فعلى قَوْله يكون الْإِسْرَاء فِي شهر ذِي الْقعدَة، وعَلى قَول الزُّهْرِيّ: يكون فِي ربيع الأول.
وَقيل: كَانَ الْإِسْرَاء لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب، وَقد اخْتَارَهُ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ بن سرو الْمَقْدِسِي فِي سيرته، وَمِنْهُم من يزْعم أَنه كَانَ فِي أول لَيْلَة جُمُعَة من شهر رَجَب، وَهِي لَيْلَة الرغائب الَّتِي أحدثت فِيهَا الصَّلَاة الْمَشْهُورَة، وَلَا أصل لَهَا، ثمَّ قيل: كَانَ قبل موت أبي طَالب.
وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ أَنه كَانَ بعد مَوته فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة للنبوة، ثمَّ قيل: كَانَ فِي لَيْلَة السبت لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان فِي السّنة الثَّالِثَة عشرَة للنبوة.
وَقيل: كَانَ فِي ربيع الأول.
وَقيل: كَانَ فِي رَجَب، وَا أعلم.

فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر هَذَا الْبابُُ بعد قَوْله: كتاب الصَّلَاة؟ وَمَا وَجه تتويج الْأَبْوَاب الْآتِيَة بِهَذَا الْبابُُ؟ قلت: لِأَن هَذَا الْكتاب يشْتَمل على أُمُور الصَّلَاة وَأَحْوَالهَا.
وَمن جُمْلَتهَا معرفَة كَيْفيَّة فرضيتها، لِأَنَّهَا هِيَ الأَصْل وَالْبَاقِي عَارض عَلَيْهِ، فَمَا بِالذَّاتِ مقدم على مَا بِالصِّفَاتِ.

وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ حدّثني: أبُو سُفْيانَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ فَقَالَ يَأْمُرُنا يَعْنِي النبيَّ بالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ والعَفَاف.

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول أَن ابْن عَبَّاس هُوَ عبد احبر هَذِه الْأمة وترجمان الْقُرْآن، وَأَبُو سُفْيَان اسْمه صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف بن قصي الْقرشِي الْأمَوِي الْمَكِّيّ، وَهُوَ وَالِد مُعَاوِيَة وَإِخْوَته، أسلم لَيْلَة الْفَتْح وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَمَانِينَ سنة، وَصلى عَلَيْهِ عُثْمَان بن عَفَّان.
وهرقل، بِكَسْر الْهَاء وَفتح الرَّاء على الْمَشْهُور، وَحكى جمَاعَة إسكان الرَّاء وَكسر الْقَاف: كخندف، مِنْهُم الْجَوْهَرِي، وَهُوَ اسْم عجمي تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب على أَنه غير منصرف للعلمية والعجمة، ملك إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة، وَفِي ملكه مَاتَ النَّبِي، ولقبه: قَيْصر، كَمَا إِن من ملك الْفرس يُقَال لَهُ: كسْرَى، وَالتّرْك يُقَال لَهُ: خاقَان.

الثَّانِي: أَن هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وقطعه من حَدِيث طَوِيل ذكره فِي أول الْكتاب مُسْندًا، أَو قَالَ: حدّثنا أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عبيد ابْن عبد ابْن عتبَة بن مَسْعُود أَن عبد ابْن عَبَّاس أخبرهُ أَن أَبَا سُفْيَان أخبرهُ أَن هِرقل أرسل إِلَيْهِ فِي ركب من قُرَيْش إِلَى أَن قَالَ: (وَسَأَلْتُك بِمَا يَأْمُركُمْ فَذكرت أَنه يَأْمُركُمْ أَن تعبدوا اولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وينهاكم عَن عبَادَة الْأَوْثَان، ويأمركم بِالصَّلَاةِ والصدق والعفاف) الحَدِيث.

الثَّالِث فِي مَعْنَاهُ: قَوْله: (النَّبِي) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله: يَعْنِي، وبالرفع فَاعل لقَوْله: (يَأْمُرنَا) ، وَالْبَاء فِي: بِالصَّلَاةِ، يتَعَلَّق بقوله: (يَأْمُرنَا) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (ويأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَََقَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ويأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير، وَالْبُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي أَرْبَعَة عشر موضعا، وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَلم يُخرجهُ ابْن مَاجَه.
وَالصَّلَاة: هِيَ الْعِبَادَة المفتتحة بِالتَّكْبِيرِ المختتمة بِالتَّسْلِيمِ.
والصدق: هُوَ القَوْل المطابق للْوَاقِع.
والعفاف: الانكفاف عَن الْمُحرمَات وخوارم المروءات.

الرَّابِع فِي وَجه مُنَاسبَة هَذَا للتَّرْجَمَة: قَالَ بَعضهم: مناسبته لهَذِهِ التَّرْجَمَة أَن فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الصَّلَاة فرضت بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة، لِأَن أَبَا سُفْيَان لم يلق النَّبِي بعد الْهِجْرَة إِلَى الْوَقْت الَّذِي اجْتمع فِيهِ بهرقل لِقَاء يتهيأ لَهُ مَعَه أَن يكون آمراً لَهُ بطرِيق الْحَقِيقَة، والإسراء كَانَ قبل الْهِجْرَة بِلَا خلاف، فظهرت الْمُنَاسبَة.
انْتهى.
قلت: التَّرْجَمَة فِي كَيْفيَّة الْفَرْضِيَّة بِمَعْنى: كَيفَ فرضت؟ لَا فِي بَيَان وَقت الْفَرْض، فَكيف تظهر الْمُنَاسبَة حَتَّى يَقُول هَذَا الْقَائِل: فظهرت الْمُنَاسبَة، وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عبد ابْن عَبَّاس مطولا مَا يشْعر بكيفية فَرضِيَّة الصَّلَاة؟ بل يذكر ذَلِك فِي حَدِيث الْإِسْرَاء الْآتِي، وَلَكِن يُمكن أَن يُوَجه لذكر هَذَا هَهُنَا وَجه، وَهُوَ أَن معرفَة كَيْفيَّة الشَّيْء تستدعي معرفَة ذَاته قبلهَا، فَأَشَارَ بِهَذَا أَولا إِلَى ذَات الصَّلَاة من حَيْثُ الْفَرْضِيَّة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى كَيْفيَّة فرضيتها بِذكر حَدِيث الْإِسْرَاء، فَصَارَ ذكر قَول ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور تَوْطِئَة وتمهيداً لبَيَان كيفيتها، فَدخل فِيهَا، فَبِهَذَا الْوَجْه دخل تَحت التَّرْجَمَة، وَهَذَا مِمَّا سنح بِهِ خاطري من الْأَنْوَار الإلهية، وَلم يسبقني بِهَذَا أحد من الشُّرَّاح.



[ قــ :345 ... غــ :349]
- حدّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قالَ حدّثنا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابنِ شهابٍ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قالَ كانَ أبُو ذَرٍ يُحَدِّثُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ قالَ: (فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأنا بِمَكَةَ فنزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي ثُم غَسَلَهُ بِماءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذهَبٍ مُمْتلِىءٍ حِكْمَةً وَإيماناً فأفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثُمَّ أطْبقَهُ ثُمَّ أخذَ بِيَدِي فَعَرَج بِي إِلَى السَّماءِ الدُّنيْا فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيا قالَ جبريلُ لخازِنِ السَّماءِ افْتَحْ قالَ مَنْ هَذا قالَ جبريلُ قالَ هلْ مَعَك أحَدٌ قالَ نَعَمْ مَعِي مُحمَّدٌ فقالَ أَأُرْسِلَ إِلَيهِ قالَ نَعمْ فَلمَّا فَتَحَ عَلَوْنا السَّماءَ الدُّنْيا فإِذَا رَجلٌ قاعِدٌ عَلى يَمِينِهِ أسْوِدَةٌ وَعلى يَسَارِهِ أسْوِدَةٌ إِذا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسارِه بَكَى فقالَ مَرْحَباً بالنَبيِّ الصَّالِحِ وَالإِبْنِ الصَّالِحِ.

قُلْتُ لِجِبرِيلَ مَنْ هَذا قالَ هَذا آدَمُ وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمِالِهِ نَسَمُ بَنيهِ فأهْلُ اليَمينِ مِنْهُمْ أهْلُ الجَنَّة وَالأَسْوِدَةُ الَّتي عَنْ شِمَالِهِ أهْلُ النَّارِ فإِذا نَظَرَ عَنْ يَمِينهِ ضَحِكَ وَإذا نَظَرَ قِبَل شِمَالِهِ بَكَى حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّماءِ الثَّانِيةِ فقالَ لخَازِنِهَا افْتَحْ فقالَ لَهُ خازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ) قَالَ أنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وجَدَ فِي السَّمَواتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ ومُوسى وعِيسَى وإبْرَاهِيمَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ولمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أنَّهُ ذَكَرَ أنَّهُ وجَدَ آدمَ فِي السَّماءِ الدُّنْيَا وَإبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ قالَ أنَسٌ فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بالنَّبِيِّ بإِدْرِيسَ قالَ مَرْحَباً بالنَّبيِّ الصَّالِحِ والأخِ الصَالِحِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذا إدْرِيسُ ثُمَّ مَرَرْتُ بُموسَى فقالَ مَرْحَباً بالنَّبيِّ الصَّالِحِ والأَخِ الصَّالِحِ.

قُلْتُ مَنْ هَذَا قالَ هَذَا مُوسَى ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فقالَ مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ والنَّبيِّ الصَّالِحِ.

قُلْتُ مَنْ هَذَا قالَ هذَا عِيسى ثُمَّ مَرَرْتُ بإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ مَرْحَباً بالنَّبيِّ الصَّالِحِ والإِبِنِ الصَّالِحِ.

قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِبْرَاهِيمُ قالَ ابنُ شِهَابٍ فأخْبَرَنِي ابنُ حَزْم أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ وأبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِيَّ كانَا يَقُولاَنِ قالَ النَبيُّ: (ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَّىً أسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ) .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وأنَسُ بنُ مالِكٍ قَالَ النبيُّ فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى امَّتي خَمْسِينَ صَلاَةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فقالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ.

قُلْتُ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً قَالَ فارْجِعْ إِلَيّ رَبِّكَ فإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطيقُ ذَلِكع فَراجَعَنِي فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى.

قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا فَقَالَ رَاجِعْ رَبِكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَاجَعْتُهُ فَقَالَ هِيَ خَمْسٌ وَهْيَ خَمْسُونَ لاَ يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَىَّ فَرَجَعْتُ إِلى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ فَقُلْتُ اسْتَحْيَيْتُ منْ رَبيِّ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى وغَشيَهَا ألْوَان لاَ أدْرِي مَا هِي ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا حَبَائِلُ اللُّؤْلؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ) .
(الحَدِيث 943 طرفاه فِي: 6361، 2433) .

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ بَيَان كَيْفيَّة فَرضِيَّة الصَّلَاة.

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: يحيى بن بكير، بِضَم الْبَاء، تكَرر ذكره، وَاللَّيْث بن سعد، وَيُونُس بن يزِيد، وَمُحَمّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَأنس بن مَالك وَأَبُو ذَر، بتَشْديد الرَّاء، واسْمه: جُنْدُب بن جُنَادَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده.
فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني.
وَفِيه: رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج مُخْتَصرا عَن عَبْدَانِ عَن عبد اعن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس عَن أبي ذَر، وَأخرجه أَيْضا فِي بدءِ الْخلق عَن هدبة بن خَالِد عَن همام عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن مَالك بن صعصعة، وَأخرجه فِي الْأَنْبِيَاء أَيْضا عَن عَبْدَانِ عَن عبد اعن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: قَالَ أنس: وَعَن أَحْمد بن صَالح عَن عَنْبَسَة عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: قَالَ أنس: عَن أبي ذَر، وَأخرجه أَيْضا فِي بابُُ قَوْله: { وكلم اموسى تكليماً} (النِّسَاء: 461) فِي أَوَاخِر الْكتاب عَن عبد الْعَزِيز بن عبد اعن سُلَيْمَان عَن شريك بن عبد اعن أنس بن مَالك.
وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب، وَعَن أبي مُوسَى عَن ابْن أبي عدي، وَعنهُ عَن معَاذ بن هِشَام.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، وَقد روى هَذَا الحَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة، لَكِن طرقه فِي الصَّحِيحَيْنِ دَائِرَة عَن أنس مَعَ اخْتِلَاف أَصْحَابه عَنهُ، فَرَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن أبي ذَر كَمَا فِي هَذَا الْبابُُ، وَرَوَاهُ قَتَادَة عَنهُ عَن مَالك بن صعصعة، وَرَوَاهُ شريك بن أبي نمر وثابت الْبنانِيّ عَنهُ عَن النَّبِي بِلَا وَاسِطَة، وَفِي سِيَاق كل مِنْهُم مَا لَيْسَ عِنْد الآخر.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من طرق كَثِيرَة عَن أنس.

ذكر لغاته ومعانيه: قَوْله: (فرج عَن سقف بَيْتِي) ، بِضَم الْفَاء وَكسر الرَّاء وبالجيم أَي: فتح فِيهِ فتح، وَرُوِيَ: (فشق) ، فَإِن قلت: كَانَ الْبَيْت لأم هانىء، فَكيف قَالَ: بَيْتِي، بإضافته إِلَى نَفسه؟ قلت: إضافه إِلَيْهِ بِأَدْنَى مُلَابسَة، وَهَذَا كثير فِي كَلَام الْعَرَب، كَمَا يَقُول أحد حاملي الْخَشَبَة للْآخر: خُذ طرفك.
فَإِن قلت: رُوِيَ أَيْضا أَنه كَانَ فِي الْحطيم، فَكيف الْجمع بَينهمَا؟ قلت: أما على كَون العروج مرَّتَيْنِ فَظَاهر، وَأما على كَونه مرّة وَاحِدَة فَلَعَلَّهُ، بعد غسل صَدره دخل بَيت أم هانىء وَمِنْه عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء، وَالْحكمَة فِي دُخُول الْمَلَائِكَة من وسط السّقف وَلم يدخلُوا من الْبابُُ، كَون ذَلِك أوقع صدقا فِي الْقلب فِيمَا جاؤا بِهِ.
قَوْله: (فَفرج صَدْرِي) ، بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء وَالْجِيم، وَهُوَ فعل ماضٍ، أَي: شقَّه، ويروى: (شرح صدر) ، وَمِنْه: شرح اصدره.
فَإِن قلت: ذكر فِي سير ابْن إِسْحَاق: شقّ صَدره وَهُوَ مسترضع فِي بني سعد عِنْد حليمة، وَرجحه عِيَاض.
قلت: أجَاب السُّهيْلي بِأَن ذَلِك وَقع مرَّتَيْنِ، وَالْحكمَة فِي الشق الأول نزع الْعلقَة الَّتِي قيل لَهُ، عِنْد نَزعهَا: (هَذَا حَظّ الشَّيْطَان مِنْك) .
وَفِي الثَّانِي: ليَكُون مستعداً للتلقي لما حصل لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة.
وَقد روى الطَّيَالِسِيّ والْحَارث فِي (مسنديهما) من حَدِيث عَائِشَة: أَن الشق وَقع مرّة أُخْرَى عِنْد مَجِيء جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَيْهِ بِالْوَحْي فِي غَار حراء، وَفِي (الدَّلَائِل) لأبي نعيم، (وَالْأَحَادِيث الْجِيَاد) للضياء مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد: أَن صَدره شقّ وعمره عشر سِنِين.
قَوْله: (ثمَّ غسله بِمَاء زَمْزَم) الْغسْل: طهُور، وَالطهُور: شطر الْإِيمَان، وزمزم، غير منصرف: اسْم للبئر الَّتِي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام.
قَوْله: (بطست) بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده؛ الطس والطسة والطسة، مَعْرُوف، وَجمع: الطس أطساس وطسوس وطسيس، وَجمع: الطسة والطسة طساس، وَلَا يمْنَع أَن يجمع الطسة على طسيس، بل ذَلِك قِيَاسه، والطَسّاس بَائِع الطسوس، والطِساسة حرفته، وَعَن أبي عُبَيْدَة: الطست فَارسي.
قلت: هُوَ فِي الفارسية بالشين الْمُعْجَمَة.
.

     وَقَالَ  الْفراء: طي تَقول: طست، وَغَيرهم يَقُول: طس، وَهَذَا يرد مَا حَكَاهُ ابْن دحْيَة، قَالَ الْفراء: يُقَال: الطسة، أَكثر فِي كَلَام الْعَرَب، والطس، وَلم يسمع من الْعَرَب: الطست، وَفِي كتاب (التَّذْكِير والتأنيث) لِابْنِ الْأَنْبَارِي، يُقَال: الطست، بِفَتْح الطَّاء وَكسرهَا، قَالَه أَبُو زيد،.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: طس، بِالْفَتْح وَالْكَسْر وَالْفَتْح أفْصح، وَهِي مُؤَنّثَة، وَخص الطست بذلك دون بَقِيَّة الْأَوَانِي لِأَنَّهُ آلَة الْغسْل عرفا.
قَوْله: (من ذهب) لَيْسَ فِيهِ مَا يُوهم اسْتِعْمَال آنِية الذَّهَب لنا، فَإِن ذَلِك فعل الْمَلَائِكَة واستعمالهم وَلَيْسَ بِلَازِم أَن يكون حكمهم حكمنَا، أَو لِأَن ذَلِك كَانَ أول الْأَمر قبل اسْتِعْمَال الْأَوَانِي من النَّقْدَيْنِ، لِأَنَّهُ كَانَ على أصل الْإِبَاحَة، وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ من ذهب لِأَنَّهُ أَعلَى أواني الْجنَّة، وَهُوَ وَرَأس الْأَثْمَان، وَله خَواص مِنْهَا: أَنه لَا تَأْكُله النَّار فِي حَال التَّعْلِيق، وَلَا تَأْكُله الأَرْض، وَلَا تغيره، وَهُوَ أنقى كل شَيْء وأصفاه، وَيُقَال فِي الْمثل: أنقى من الذَّهَب، وَهُوَ بَيت الْفَرح وَالسُّرُور.
.

     وَقَالَ  الشَّاعِر:
(صفراء لَا تنزل الأحزان ساحتها ... لَو مَسهَا حجر مسته سراء)

وَهُوَ أثقل الْأَشْيَاء فَيجْعَل فِي الزئبق الَّذِي هُوَ أثقل الْأَشْيَاء فيرسب، وَهُوَ مُوَافق لثقل الْوَحْي، وَهُوَ عَزِيز، وَبِه يتم الْملك.
قَوْله: (ممتلىء حِكْمَة وإيماناً) الْحِكْمَة: اسْم من حكم بِضَم عين الْفِعْل أَي: صَار حكيماً، وَصَاحب الْحِكْمَة.
المتقن للأمور، وَأما: حكم، بِفَتْح عين الْفِعْل، فَمَعْنَاه: قضى، ومصدره: حكم بِالضَّمِّ، وَالْحكم أَيْضا: الْحِكْمَة بِمَعْنى: الْعلم، والحكيم: الْعَالم، وَزعم النَّوَوِيّ: أَن الحمكة فِيهَا أَقْوَال مضطربة، صفي لنا مِنْهَا أَن الْحِكْمَة عبارَة عَن الْعلم المتصف بِالْأَحْكَامِ الْمُشْتَملَة على الْمعرفَة با تَعَالَى، المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النَّفس وَتَحْقِيق الْحق وَالْعَمَل بِهِ والصد عَن اتِّبَاع الْهوى وَالْبَاطِل، فالحكيم من حَاز ذَلِك كُله.
.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: كل كلمة وعظتك أَو زجرتك أَو دعتك إِلَى مكرمَة أَو نهتك عَن قَبِيح فَهِيَ حِكْمَة.
وَقيل: الْحِكْمَة الْمَانِعَة من الْجَهْل.
وَقيل: هِيَ النُّبُوَّة.
وَقيل: الْفَهم عَن اتعالى.
.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: الْقُرْآن كفى بِهِ حِكْمَة لِأَن الْأمة صَارَت عُلَمَاء بعد الْجَهْل.
وَفِي (التَّوْضِيح) ، وَفِي هَذَا الحَدِيث دلَالَة صَرِيحَة أَن شرح صَدره كَانَ لَيْلَة الْمِعْرَاج، وَفعل بِهِ ذَلِك لزِيَادَة الطُّمَأْنِينَة لما يرى من عظم الملكوت، أَو لِأَنَّهُ يُصَلِّي بِالْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِم وَالسَّلَام.

قَوْله: (فأفرغه فِي صَدْرِي) أَي: أفرغ كل وَاحِد من الْحِكْمَة وَالْإِيمَان اللَّذين كَانَا فِي الطست فِي صَدْرِي.
قَوْله: (ثمَّ أطبقه) أَي؛ ثمَّ أطبق صَدره، يُقَال: أطبقت الشَّيْء إِذا غطيته وَجَعَلته مطبقاً.
وَفِي (التَّوْضِيح) : لما فعل بِهِ ذَلِك ختم عَلَيْهِ كَمَا يخْتم على الْوِعَاء المملوء، فَجمع اله أَجزَاء النُّبُوَّة وختمها، فَهُوَ خَاتم النَّبِيين، وَختم عَلَيْهِ فَلم يجد عدوه سَبِيلا إِلَيْهِ من أجل ذَلِك، لِأَن الشَّيْء الْمَخْتُوم محروس، وَقد جَاءَ أَنه استخرج مِنْهُ علقَة،.

     وَقَالَ : هَذَا حَظّ الشَّيْطَان مِنْك، وَذكر عِيَاض أَن مَوضِع الْخَاتم إِنَّمَا هُوَ شقّ الْملكَيْنِ بَين كَتفيهِ، ذكره الْقُرْطُبِيّ.
.

     وَقَالَ : هَذِه غَفلَة، لِأَن الشق إِنَّمَا كَانَ وَلم يبلغ بِالسِّنِّ حَتَّى نفذ إِلَى ظَهره، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَالْبَزَّار وَغَيرهمَا من حَدِيث عُرْوَة عَن أبي ذَر، وَلم يسمع مِنْهُ فِي حَدِيث الْملكَيْنِ، قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: اغسل بَطْنه غسل الْإِنَاء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثمَّ خاط بَطْني وَجعل الْخَاتم بَين كَتِفي كَمَا هُوَ الْآن، وَهَذَا دَال مَعَ حَدِيث البُخَارِيّ، كَمَا نبه عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ، وَأَنه فِي الصَّدْر دون الظّهْر، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَاتم فِي ظَهره ليدل على ختم النُّبُوَّة بِهِ، وَأَنه لَا نَبِي بعده، وَكَانَ تَحت نغض كتفه لِأَن ذَلِك الْموضع مِنْهُ يوسوس الشَّيْطَان.
قَوْله: (فعرج بِي) يَعْنِي: صعد، والعروج: الصعُود.
يُقَال: عرج يعرج عروجاً من بابُُ: نصر ينصر،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: عرج فِي الشَّيْء وَعَلِيهِ يعرج وعرج يعرج عروجاً: رقي، وعرج الشَّيْء فَهُوَ عريج: ارْتَفع وَعلا، والمعراج شبه سلم مفعال من العروج، كَأَنَّهُ آلَة لَهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: الْمِعْرَاج شبه سلم تعرج عَلَيْهِ الْأَرْوَاح.
وَقيل: هُوَ حَيْثُ تصعد أَعمال بني آدم.
قَوْله: (إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا) وروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) مَرْفُوعا: (بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة عَام) .
وَذكر فِي كتاب (العظمة) لأبي سعيد أَحْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد الْأَعرَابِي: عَن عبد ا، قَالَ: (مَا بَين السَّمَاء إِلَى الأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة عَام، وَبَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء الَّتِي تَلِيهَا مثل ذَلِك، وَمَا بَين السَّمَاء السَّابِعَة إِلَى الْكُرْسِيّ كَذَلِك، وَالْمَاء على الْكُرْسِيّ، وَالْعرش على ذَلِك المَاء) .
وَفِي كتاب (الْعَرْش) لأبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي شيبَة، بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْعَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (هَل تَدْرُونَ كم بَين السَّمَاء وَالْأَرْض؟ قُلْنَا؛ اورسوله أعلم.
قَالَ: بَينهمَا خَمْسمِائَة عَام، وكثف كل سَمَاء خَمْسمِائَة سنة، وَفَوق السَّمَاء السَّابِعَة بَحر بَين أَسْفَله وَأَعلاهُ كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) .
وَرُوِيَ أَيْضا عَن أبي ذَر مَرْفُوعا مثله.
قَوْله: (افْتَحْ) أَي: إفتح الْبابُُ، وَهَذَا يدل على أَن الْبابُُ كَانَ مغلقاً، وَالْحكمَة فِيهِ أَن السَّمَاء لم تفتح إلاَّ لأَجله، بِخِلَاف مَا لَو وجده مَفْتُوحًا، وَهَذَا يدل أَيْضا على أَن عروجه، كَانَ بجسده، إِذْ لَو لم يكن بجسده لما استفتح الْبابُُ.

قَوْله: (قَالَ من هَذَا؟) أَي: قَالَ الخازن: من هَذَا الَّذِي يقرع الْبابُُ؟ قَالَ: جِبْرِيل، وَفِيه إِثْبَات الاسْتِئْذَان، وَأَن يَقُول: فلَان، وَلَا يَقُول: أَنا، كَمَا نهي عَنهُ فِي حَدِيث جَابر.
قَوْله: (أَسْوِدَة) جمع سَواد، كالأزمنة جمع زمَان، والسواد الشَّخْص، وَقيل: الْجَمَاعَات، وَسَوَاد النَّاس: عوامهم، وكل عدد كثير، وَيُقَال: هِيَ الْأَشْخَاص من كل شَيْء.
قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ شخص كل شَيْء من مَتَاع أَو غَيره، وَالْجمع: أَسْوِدَة، وأساودة جمع الْجمع.
قَوْله: (مرْحَبًا) مَعْنَاهُ أصبت رحباً وسهلاً، فاستأنس وَلَا تستوحش.
قَوْله؛ (بِالنَّبِيِّ الصَّالح) ، وَهُوَ الْقَائِم بِحُقُوق اوحقوق الْعباد، وَكلهمْ قَالُوا لَهُ: بِالنَّبِيِّ الصَّالح، لشُمُوله سَائِر الْخلال المحمودة الممدوحة من الصدْق وَالْأَمَانَة والعفاف وَالْفضل، وَلم يقل لَهُ أحد: مرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّادِق، وَلَا: بِالنَّبِيِّ الْأمين، لما ذكرنَا أَن الصّلاح شَامِل لسَائِر أَنْوَاع الْخَيْر.
قَوْله: (نسم بنيه) النسم؛ بِفَتْح النُّون وَالسِّين، والنسمة: نفس الرّوح، و: مَا بهَا نسمَة أَي: نفس، وَالْجمع: نسم، قَالَه ابْن سَيّده.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: هِيَ النَّفس، وَالْمرَاد أَرْوَاح بني آدم،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: ورويناه: نسيم بني آدم، وَالْأول أشبه.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: فِيهِ دلَالَة أَن نسم أهل النَّار فِي السَّمَاء ثمَّ قَالَ: قد جَاءَ أَن أَرْوَاح الْكفَّار فِي سِجِّين، وَأَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ منعمة فِي الْجنَّة، فَكيف تكون مجتمعة فِي السَّمَاء؟ وَأجَاب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَنَّهَا تعرض على آدم أوقاتاً فصادف وَقت عرضهَا مُرُور النَّبِي.
فَإِن قلت: لَا تفتح أَبْوَاب السَّمَاء لأرواح الْكفَّار كَمَا هُوَ نَص الْقُرْآن.
قلت: يحْتَمل أَن الْجنَّة كَانَت فِي جِهَة يَمِين آدم وَالنَّار فِي جِهَة شِمَاله، وَكَانَ يكْشف لَهُ عَنْهُمَا، وَيحْتَمل أَن يُقَال: إِن النسم المرئية هِيَ لم تدخل الأجساد بعد، وَهِي مخلوقة قبل الأجساد ومستقرها عَن يَمِين آدم وشماله، وَقد أعلمهُ ابما يصيرون إِلَيْهِ، فَلذَلِك كَانَ يستبشر إِذا نظر إِلَى من عَن يَمِينه، ويحزن إِذا نظر إِلَى من عَن يسَاره.
قَوْله: (قَالَ أنس: فَذكر) ، ويروى: (فَقَالَ أنس: فَذكر) ، أَي أَبُو ذَر.

قَوْله: (أَنه) أَي: أَن النَّبِي.
قَوْله: (وَلم يثبت) من الْإِثْبَات أَي: لم يعين أَبُو ذَر لكل نَبِي سَمَاء معينا غير مَا ذكر أَنه وجد آدم فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيم فِي السَّادِسَة، وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) : من حَدِيث أنس عَن مَالك بن صعصة أَنه وجد فِي السَّمَاء الدُّنْيَا آدم كَمَا سلف فِي حَدِيث أبي ذَر، وَفِي الثَّانِيَة يحيى وَعِيسَى، وَفِي الثَّالِثَة يُوسُف، وَفِي الرَّابِعَة إِدْرِيس، وَفِي الْخَامِسَة، هَارُون وَفِي السَّادِسَة مُوسَى، وَفِي السَّابِعَة إِبْرَاهِيم، وَهُوَ مُخَالف لرِوَايَة أنس عَن أبي ذَر أَنه وجد إِبْرَاهِيم فِي السَّادِسَة، وَكَذَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم.
وَأجِيب: بِأَن الْإِسْرَاء إِن كَانَ مرَّتَيْنِ فَيكون رأى إِبْرَاهِيم فِي إِحْدَاهمَا فِي إِحْدَى السمائين، وَيكون استقراره بهَا ووطنه، وَفِي الثَّانِيَة فِي سَمَاء غير وَطنه، وَإِن كَانَ مرّة فَيكون أَولا رَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة، ثمَّ ارْتقى مَعَه إِلَى السَّابِعَة، وَيُقَال: إِن الْمِعْرَاج إِذا كَانَ مرّة فالأرجح رِوَايَة الْجَمَاعَة بقوله فِيهَا أَنه رَآهُ مُسْندًا ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور، وَهُوَ فِي السَّابِعَة بِلَا خلاف، وَقَول هَذَا الْقَائِل: بِلَا خلاف، غير صَحِيح، لِأَن فِيهِ خلافًا، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَالربيع أَنه فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي اعنه، أَنه عِنْد شَجَرَة طُوبَى فِي السَّادِسَة، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد وَالضَّحَّاك أَنه فِي السَّابِعَة.

فَإِن قلت: كَيفَ يجمع بَين هَذِه الْأَقْوَال وفيهَا مُنَافَاة قلت: لَا مُنَافَاة بَينهمَا، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن ارفعه لَيْلَة الْمِعْرَاج إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى، ثمَّ إِلَى السَّابِعَة تَعْظِيمًا للنَّبِي حَتَّى يرَاهُ فِي أَمَاكِن، ثمَّ أَعَادَهُ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا.
وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) الْبَيْت الْمَعْمُور حذاء الْعَرْش بحيال الْكَعْبَة يُقَال لَهُ: الضراح، حرمته فِي السَّمَاء كَحُرْمَةِ الْكَعْبَة فِي الأَرْض، يدْخلهُ كل يَوْم سَبْعُونَ ألفا من الْمَلَائِكَة يطوفون بِهِ وَيصلونَ فِيهِ ثمَّ لَا يعودون إِلَيْهِ أبدا، وخادمه ملك يُقَال لَهُ: رزين.
وَقيل: كَانَ فِي الْجنَّة فَحمل إِلَى الأَرْض لأجل آدم، ثمَّ رفع إِلَى السَّمَاء أَيَّام الطوفان.
قلت: الضراح، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة.
.

     وَقَالَ  الصغاني: وَيُقَال لَهُ: الضريح أَيْضا.

قَوْله: (قَالَ أنس) ، ظَاهره أَن هَذِه الْقطعَة لم يسْمعهَا أنس من أبي ذَر.
قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
قَوْله: (ابْن حزم) هُوَ أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم الْأنْصَارِيّ النجاري الْمدنِي، وَأَبوهُ مُحَمَّد، ولد فِي عهد رَسُول ا، وَأمر أَبَاهُ أَن يَكْتُبهُ بِأبي عبد الْملك، وَكَانَ فَقِيها فَاضلا، قتل يَوْم الْحرَّة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَخمسين سنة، وَهُوَ تَابِعِيّ، وَذكر ابْن الْأَثِير فِي الصَّحَابَة وَلم يسمع الزُّهْرِيّ مِنْهُ لتقدم مَوته.
قَوْله: (وَأَبا حَبَّة) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ الْمَشْهُور.
.

     وَقَالَ  الْقَابِسِيّ: بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وغلطوه فِي ذَلِك.
.

     وَقَالَ  الْوَاقِدِيّ بالنُّون، وَاخْتلف فِي اسْمه، فَقَالَ أَبُو زرْعَة: عَامر، وَقيل: عمر، وَقيل: ثَابت،.

     وَقَالَ  الْوَاقِدِيّ: مَالك.
قَالُوا: فِي هَذَا الْإِسْنَاد وهم لِأَن المُرَاد بِابْن حزم أما أَبُو بكر، فَهُوَ لم يدْرك أَبَا حَبَّة، وَأما مُحَمَّد فَهُوَ لم يُدْرِكهُ الزُّهْرِيّ.
وَأجِيب: بِأَن حزم روى مُرْسلا حَيْثُ نقل بِكَلِمَة: ان، عَنْهُمَا، وَلم يقل نَحْو: سَمِعت وَأَخْبرنِي، فَلَا وهم فِيهِ، وَهَكَذَا أَيْضا فِي (صَحِيح مُسلم) .
قَوْله: (حَتَّى ظَهرت) أَي: عَلَوْت وَارْتَفَعت، وَمِنْه قَوْله:
(وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا لم تظهر)

قَوْله: (لمستوىً) بِفَتْح الْوَاو،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: المُرَاد بِهِ المصعد،.

     وَقَالَ  النَّضر بن شُمَيْل: أتيت أَبَا ربيعَة الْأَعرَابِي وَهُوَ على السَّطْح، فَقَالَ: استوي: اصْعَدْ.
وَقيل: هُوَ الْمَكَان المستوي.
قَوْله: (صريف الأقلام) بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة، وَهُوَ تصويتها حَال الْكِتَابَة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: هُوَ صَوت مَا تكتبه الْمَلَائِكَة من أقضية اتعالى ووحيه، وَمَا ينسخونه من اللَّوْح الْمَحْفُوظ، أَو مَا شَاءَ اتعالى من ذَلِك أَن يكْتب وَيرْفَع لما أَرَادَهُ امن أمره وتدبيره فِي خلقه، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَا يعلم الْغَيْب إلاَّ هُوَ الْغَنِيّ عَن الاستذكار بتدوين الْكتب والاستثبات بالصحف، أحَاط بِكُل شَيْء علما، وأحصى كل شَيْء عددا.
قَوْله: (قَالَ ابْن حزم) ، أَي: عَن شَيْخه، وَأنس بن مَالك أَي: عَن أبي ذَر،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه من جملَة مقول ابْن شهَاب، وَيحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ، وَلَيْسَ بَين أنس وَبَين رَسُول الله ذكر أبي ذَر، وَلَا بَين ابْن حزم وَرَسُول الله ذكر ابْن عَبَّاس وَأبي حَبَّة فَهُوَ إِمَّا من قبيل الْمُرْسل، وَإِمَّا أَنه ترك الْوَاسِطَة اعْتِمَادًا على مَا تقدم آنِفا، مَعَ أَن الظَّاهِر من حَال الصَّحَابِيّ أَنه إِذا قَالَ: قَالَ رَسُول ا، يكون بِدُونِ الْوَاسِطَة، فَلَعَلَّ أنسا سمع هَذَا الْبَعْض من الحَدِيث من رَسُول ا، وَالْبَاقِي سَمعه من أبي ذَر؟ .

قَوْله: (فَفرض اعلى أمتِي خمسين صَلَاة) وَفِي رِوَايَة ثَابت عَن أنس عِنْد مُسلم؛ (فَفرض اعلي خمسين صَلَاة كل يَوْم وَلَيْلَة) ، وَنَحْوه فِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة عِنْد البُخَارِيّ، فَيحْتَمل أَن يُقَال: فِي كل من رِوَايَة الْبابُُ وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى اخْتِصَار، أَو يُقَال: ذكر الْفَرْض عَلَيْهِ يسْتَلْزم الْفَرْض على الْأمة، وَبِالْعَكْسِ، إلاَّ مَا يسْتَثْنى من خَصَائِصه.
قَوْله: (فَارْجِع إِلَى رَبك) ، أَي: الْموضع الَّذِي نَاجَيْت رَبك أَولا.
قَوْله: (فراجعت) ، هَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فراجعني) ، وَالْمعْنَى وَاحِد.
قَوْله: (فَوضع شطرها) ، وَفِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة؛ (فَوضع عني عشرا) ، وَمثله لِشَرِيك، وَفِي رِوَايَة ثَابت: (فحط عني خمْسا) .
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الشّطْر: النّصْف، فَفِي الْمُرَاجَعَة الأولى وُضع خمس وَعِشْرُونَ، وَفِي الثَّانِيَة ثَلَاثَة عشر، يَعْنِي بتكميل المتكرر، إِذْ لَا معنى لوضع بعض صَلَاة، وَفِي الثَّالِثَة: سَبْعَة.
قلت: هَذَا كَلَام لَا يتَّجه، وَهُوَ يُخَالف ظَاهر عبارَة حَدِيث الْبابُُ، لِأَن الْمُرَاجَعَة الْمَذْكُورَة فِيهِ ثَلَاثَة مَرَّات، وَلم يحصل الْوَضع إلاَّ فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأَوليين، وَفِي الْمرة الثَّالِثَة، قَالَ: (هن خمس وَهن خَمْسُونَ) ، فَلم يحصل الْوَضع هَهُنَا، وَيلْزم من كَلَامه أَن تكون الْمُرَاجَعَة أَربع مَرَّات.
فِي الأولى الشّطْر، وَفِي الثَّانِيَة ثَلَاثَة عشر، وَفِي الثَّالِثَة سَبْعَة، وَفِي الرَّابِعَة قَالَ: (هن خمس وَهن خَمْسُونَ) ، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك.
قَالَ ابْن الْمُنِير: ذكر الشّطْر أَعم من كَونه وضع دفْعَة وَاحِدَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: قلت: وَكَذَا الْعشْر فِي دفعتين، والشطر فِي خمس دفعات.
انْتهى.
قلت: على هَذَا يكون سبع دفعات، فِي الْمُرَاجَعَة الأولى دفعتان وهما عشرُون كل دفْعَة عشرَة، وَفِي الثَّانِيَة تكون خمسه دفعات كل دفْعَة خمس فَتَصِير خَمْسَة وَعشْرين، وَلَكِن هَل كل دفْعَة فِي مُرَاجعَة فَتَصِير سبع مراجعات؟ أَو دفعتان فِي الْمُرَاجَعَة الأولى وَخمْس دفعات فِي الثَّانِيَة؟ فَلِكُل مِنْهُمَا وَجه بِالِاحْتِمَالِ، وَلَكِن ظواهر الرِّوَايَات لَا تساعد شَيْئا من ذَلِك إلاَّ بالتأويل، وَهُوَ أَن يكون المُرَاد من الشّطْر الْبَعْض، وَقد جَاءَ فِي كَلَام الْعَرَب ذَلِك، وَقد جَاءَ بِمَعْنى الْجِهَة أَيْضا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} (الْبَقَرَة: 441) أَي: جِهَته، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيكون المُرَاد من الشّطْر فِي الْمُرَاجَعَة الأولى الْعشْر مرَّتَيْنِ، وَفِي الثَّانِيَة الْخمس خمس مَرَّات، فَتكون الْجُمْلَة خمْسا وَأَرْبَعين.
إِلَى أَن قَالَ: (هن خمس) ، يَعْنِي خمس صلوَات فِي الْعَمَل، (وَهِي خَمْسُونَ) فِي الثَّوَاب، لِأَن لكل حَسَنَة عشر أَمْثَالهَا، كَمَا فِي النَّص.
وَكَانَ الْفَرْض فِي الأول خمسين ثمَّ إِن اتعالى رحم عباده وَجعله بِخمْس تَخْفِيفًا لنا وَرَحْمَة علينا، ثمَّ هَل هَذَا نسخ أم لَا؟ يَأْتِي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب إِن شَاءَ اتعالى.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْفَرْض أَولا هُوَ الْخمسين، كَيفَ جَازَ وُقُوع التَّرَدُّد والمراجعة بَين النَّبِي وَبَين مُوسَى كليم اعليه الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: كَانَا يعرفان أَن الأول غير وَاجِب قطعا، وَلَو كَانَ وَاجِبا قطعا لما كَانَ يقبل التَّخْفِيف، وَلَا كَانَ النبيان العظيمان يفْعَلَانِ ذَلِك.

قَوْله: (هِيَ خمس وَهن خَمْسُونَ) ، وَفِي رِوَايَة: (هن خمس وَهِي خَمْسُونَ) ، يَعْنِي خمس من جِهَة الْعدَد فِي الْفِعْل، وَخَمْسُونَ بِاعْتِبَار الثَّوَاب، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن.
قَوْله: (لَا يُبدل القَوْل لدي) أَي: قَالَ تَعَالَى: لَا يُبدل القَوْل لدي.
قَوْله: (ارْجع إِلَى رَبك) ، ويروى: (رَاجع رَبك) .
قَوْله: (قلت) ويروى (فَقلت) .
قَوْله: (استحييت من رَبِّي) وَجه استحيائه من ربه أَنه لَو سَأَلَ الرّفْع بعد الْخمس لَكَانَ كَأَنَّهُ قد سَأَلَ رفع الْخمس بِعَينهَا، فَلذَلِك استحيي من أَن يُرَاجع بعد ذَلِك، وَلَا سِيمَا سمع من ربه: لَا يُبدل القَوْل لدي بعد قَوْله: (هن خمس وَهن خَمْسُونَ).

     وَقَالَ  بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون سَبَب الاستحياء أَن الْعشْرَة آخر جمع الْقلَّة، وَأول جمع الْكَثْرَة، فخشي أَن يدْخل فِي الإلحاح فِي السُّؤَال.
قلت: هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب فِي رِوَايَة هَذَا الْبابُُ، وَأما فِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة وَشريك (فَوضع عني عشرا) فَفِيهِ إلحاح، لِأَن السُّؤَال قد تكَرر، وَكَيف، والإلحاح فِي الطّلب من اتعالى مَطْلُوب؟ .

قَوْله: (إِلَى السِّدْرَة الْمُنْتَهى) السدر: شجر النبق، واحدته: سِدْرَة، وَجَمعهَا سدر وسدور، الْأَخِيرَة نادرة.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة عَن أبي زِيَاد: السدر، من العضاه، وَهُوَ لونان، فَمِنْهُ عبري وَمِنْه ضال، فَأَما العبري فَمَا لَا شوك فِيهِ إلاَّ مَا لَا يضير، وَأما الضال فَهُوَ ذُو شوك، وللسدر ورقة عريضة مُدَوَّرَة، وَرُبمَا كَانَت السِّدْرَة مَحل الإقلال، وورق الضال صغَار.
قَالَ وأجود نبق يعلم بِأَرْض الْعَرَب نبق بهجر فِي بقْعَة وَاحِدَة تحمى للسُّلْطَان، وَهُوَ أَشد نبق يعلم حلاوة، وأطيبه رَائِحَة، يفوح فَم آكله وَثيَاب لابسه كَمَا يفوح الْعطر.
وَفِي (نَوَادِر) الهجري: السدر يطْبخ ويصبغ بِهِ، وَفِي كتاب النَّوَوِيّ: تجمع السدر على؛ سدرات، بِإِسْكَان الدَّال، وَيُقَال بِفَتْحِهَا، وَيُقَال بِكَسْرِهَا مَعَ كسر السِّين فِيهَا.
قَوْله: (الْمُنْتَهى) يَعْنِي الْمُنْتَهى فَوق السَّمَاء السَّابِعَة،.

     وَقَالَ  الْخَلِيل: فِي السَّابِعَة قد أظلت السَّمَوَات وَالْجنَّة، وَفِي رِوَايَة: (هُوَ فِي السَّمَاء السَّادِسَة) وَالْأول أَكثر، وَيحمل على تَقْدِير الصِّحَّة أَن يكون أَصْلهَا فِي السَّادِسَة ومعظمها فِي السَّابِعَة، وَزعم عِيَاض أَن أَصْلهَا فِي الأَرْض لخُرُوج النّيل والفرات من أَصْلهَا.
انْتهى، وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِم، بل مَعْنَاهُ: أَن الْأَنْهَار تخرج من أَصْلهَا ثمَّ تسير حَيْثُ أَرَادَ اتعالى حَتَّى تخرج من الأَرْض وتسير فِيهَا وَرُوِيَ أَن من أَصْلهَا تخرج أَرْبَعَة أَنهَار: نهران باطنان وهما: السلسبيل والكوثر، ونهران ظاهران، وهما: النّيل والفرات، وَعَن ابْن عَبَّاس: هِيَ عَن يَمِين الْعَرْش.
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: إِنَّهَا أَسْفَل الْعَرْش لَا يجاوزها ملك وَلَا نَبِي، وَفِي الْأَثر إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يعرج من الأَرْض وَمَا ينزل من السَّمَاء، فيفيض مِنْهَا.
وَقيل: يَنْتَهِي إِلَيْهَا علم كل ملك مقرب وَنَبِي مُرْسل.
.

     وَقَالَ  كَعْب: وَمَا خلفهَا غيب لَا يُعلمهُ إلاَّ ا.
وَقيل يَنْتَهِي إِلَيْهَا أَرْوَاح الشُّهَدَاء.
وَقيل: إِن روح الْمُؤمن يَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهَا فَتُصَلِّي عَلَيْهِ هُنَاكَ الْمَلَائِكَة المقربون.
قَالَه ابْن سَلام فِي تَفْسِيره، قيل: قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (ثمَّ أدخلت الْجنَّة) يدل على أَن السِّدْرَة لَيست فِي الْجنَّة،.

     وَقَالَ  ابْن دحْيَة: ثمَّ فِي هَذَا الحَدِيث فِي مَوَاضِع لَيست للترتييب، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} (الْبَلَد: 71) إِنَّمَا هِيَ مثل: الْوَاو، للْجمع والإشتراك، فَهِيَ بذلك خَارِجَة عَن أَصْلهَا.

قَوْله: (حبائل اللُّؤْلُؤ) كَذَا وَقع لجَمِيع رُوَاة البُخَارِيّ فِي هَذَا الْموضع، بِالْحَاء الْمُهْملَة، ثمَّ الْمُوَحدَة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة، ثمَّ لَام.
وَذكر جمَاعَة مِنْهُم أَنه تَصْحِيف، وَإِنَّمَا هُوَ: جنابذ، بِالْجِيم وَالنُّون وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة ثمَّ ذال مُعْجمَة، كَمَا وَقع عِنْد المُصَنّف فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وَمن رِوَايَة ابْن الْمُبَارك وَغَيره عَن يُونُس، وَكَذَا عِنْد غَيره من الْأَئِمَّة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: إِن صحت رِوَايَة: حبائل، فَيكون أَرَادَ بِهِ مَوَاضِع مُرْتَفعَة كحبال الرمل، كَأَنَّهُ جمع: حبالة، وحبالة جمع: حَبل، على غير قِيَاس، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ عَن الزُّهْرِيّ: (دخلت الْجنَّة فَرَأَيْت فِيهَا جنابذ من اللُّؤْلُؤ) .
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: كَذَا لجميعهم فِي البُخَارِيّ حبائل، وَمن ذهب إِلَى صِحَة الرِّوَايَة، قَالَ: إِن الحبائل القلائد والعقود، أَو يكون من حبال الرمل أَي: فِيهَا اللُّؤْلُؤ كحبال الرمل، وَهُوَ جمع حَبل، وَهُوَ الرمل المستطيل، أَو من الحبلة وَهُوَ ضرب من الْحلِيّ مَعْرُوف.
.

     وَقَالَ  صَاحب (التَّلْوِيح) : وَهَذَا كُله تخيل ضَعِيف، بل هُوَ بِلَا شكّ تَصْحِيف من الْكَاتِب، والحبائل إِنَّمَا تكون جمع: حبالة، أَو حبلة.
و: الجنابذ، جمع: جنبذ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وبالموحدة المضمومة وبالذال الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مَا ارْتَفع من الشَّيْء واستدار كالقبة، والعامة تَقول بِفَتْح الْبَاء، وَالْأَظْهَر أَنه فَارسي معرف.
قلت: هُوَ فِي لِسَان الْعَجم: كنبذ، بِضَم الْكَاف الصماء وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي الْقبَّة.

ذكر إعرابه وَمَا يتَعَلَّق بِالْبَيَانِ: قَوْله: (وَأَنا بِمَكَّة) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
قَوْله: (ممتلىء حِكْمَة وإيماناً) ممتلىء: بِالْجَرِّ، صفة: طست، وتذكيره بِاعْتِبَار الْإِنَاء، لِأَن الطست مُؤَنّثَة.
وَكلمَة؛ من فِي: من ذهب، بَيَانِيَّة و: (حِكْمَة وإيماناً) منصوبان على التَّمْيِيز، وَجعل الْإِيمَان وَالْحكمَة فى الْإِنَاء وإفراغهما مَعَ أَنَّهُمَا مَعْنيانِ، وَهَذِه صفة الْأَجْسَام من أحسن المجازات، أَو أَنه من بابُُ التَّمْثِيل، أَو؛ تمثل لَهُ الْمعَانِي كَمَا تمثل لَهُ أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء الدارجة بالصور الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَمعنى الْمجَاز فِيهِ كَأَنَّهُ جعل فِي الطست شَيْء يحصل بِهِ كَمَال الْإِيمَان وَالْحكمَة وزيادتهما، فَسمى ذَلِك الشَّيْء حِكْمَة وإيماناً لكَونه سَببا لَهما.
قَوْله: (فعرج بِي إِلَى السَّمَاء) ويروى: (فعرج بِهِ) ، بضمير الْغَائِب، وَهُوَ من بابُُ التَّجْرِيد، فَكَأَن النَّبِي جرد من نَفسه شخصا فَأَشَارَ إِلَيْهِ.
وَفِيه وَجه آخر، وَهُوَ أَن الرَّاوِي نقل كَلَامه بِالْمَعْنَى لَا بِلَفْظِهِ بِعَيْنِه.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فِيهِ الْتِفَات.
قلت: هُوَ تَجْرِيد كَمَا قُلْنَا.
قَوْله: (أأرسل إِلَيْهِ؟) بهمزتين: أولاهما: للاستفهام وَهِي مَفْتُوحَة وَالثَّانيَِة: همزَة التَّعَدِّي، وَهِي مَضْمُومَة.
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَوَ أرسل إِلَيْهِ) ؟ بواو مَفْتُوحَة بَين الهمزتين، وَهَذَا السُّؤَال من الْملك الَّذِي هُوَ خَازِن السَّمَاء يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا الاستعجاب بِمَا أنعم اعليه من هَذَا التَّعْظِيم والإجلال حَتَّى أصعد إِلَى السَّمَوَات، وَالثَّانِي: الاستبشار بعروجه إِذا كَانَ من الْبَين عِنْدهم أَن أحدا من الْبشر لَا يرقى إِلَى أَسبابُُ السَّمَاء من غير أَن يَأْذَن اله، وَيَأْمُر مَلَائكَته بإصعاده.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون خَفِي عَلَيْهِ أصل إرْسَاله لاشتغاله بِعِبَادَتِهِ.
قلت: كَيفَ يخفى عَلَيْهِ ذَلِك لاشتغاله بِعِبَادَتِهِ، وَقد قَالَ أَولا: من هَذَا؟ حِين قَالَ جِبْرِيل: إفتح.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: هَل مَعَك أحد؟ قَالَ جِبْرِيل: نعم معي مُحَمَّد؟ وَأَيْنَ الخفاء بعد ذَلِك؟ وَأَيْنَ الِاشْتِغَال بِالْعبَادَة فِي هَذَا الْوَقْت وَهُوَ وَقت المحاورة وَالسُّؤَال؟ وَأمر نبوته كَانَ مَشْهُورا فِي الملكوت لِأَنَّهَا لَا تخفى على خزان السَّمَوَات وحراسها، فصح أَن لَا يكون السُّؤَال عَن أصل الرسَالَة، وَإِنَّمَا كَانَ سؤالاً عَن أَنه أرسل إِلَيْهِ للعروج.
والإسراء، فحينئذٍ احْتمل سُؤَالهمْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين.

فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة شريك: (أَو قد بعث؟) وَهَذَا يُؤَيّد مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل.
قلت: معنى: أرسل وَبعث سَوَاء، على أَن الْمَعْنى هَهُنَا أَيْضا: أَو قد بعث إِلَى هَذَا الْمَكَان؟ وَذَلِكَ استعجاب مِنْهُ واستعظام لأَمره.
قَوْله: (علونا السَّمَاء الدُّنْيَا) ، ضمير الْجمع فِيهِ يدل على أَنَّهُمَا كَانَ مَعَهُمَا مَلَائِكَة آخَرُونَ، فكأنهما كلما عد يَا سَمَاء تشيعهما الْمَلَائِكَة إِلَى أَن يصلا إِلَى سَمَاء أُخْرَى؛ وَالدُّنْيَا، صفة السَّمَاء فِي مَحل النصب، بِمَعْنى أَنه: لَا يظْهر النصب.
قَوْله: (مرْحَبًا) مَنْصُوب بِأَنَّهُ مفعول مُطلق، أَي: أصبت سَعَة لَا ضيقا، وَالنّصب فِيهِ كَمَا فِي قَوْلهم: أَهلا وسهلاً.
قَوْله: (فَإِذا رجل قَاعد) .
ويروى: إِذا، بِدُونِ؛ الْفَاء، كلمة: إِذا، هَهُنَا للمفاجأة، وتختص بالجمل الإسمية، وَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَواب، وَهِي حرف عِنْد الْأَخْفَش، وظرف مَكَان عِنْد الْمبرد، وظرف زمَان عِنْد الزّجاج.

قَوْله: (قبل شِمَاله) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب بقوله؛ نظر، وَهُوَ بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء، بِمَعْنى الْجِهَة.
قَوْله: (بِإِدْرِيس) الْبَاء، فِيهِ، وَفِي قَوْله: (بِالنَّبِيِّ) يتعلقان كِلَاهُمَا بقوله: مر فَالْأولى للمصاحبة، وَالثَّانيَِة للإلصاق ويندفع بِهَذَا سُؤال من يَقُول: لَا يجوز تعلق حرفين من جنس وَاحِد بمتعلق وَاحِد لِأَنَّهُمَا ليسَا من جنس وَاحِد.
قَوْله: (ثمَّ مَرَرْت بمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، هَذَا قَول النَّبِي، وَفِيه حذف تَقْدِيره؛ قَالَ النَّبِي: ثمَّ مَرَرْت بمُوسَى، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا: فَلَمَّا مر جِبْرِيل، فَمَا وَجه قَوْله بعد هَذَا: (ثمَّ مَرَرْت) ؟ فَالَّذِي قدرناه هُوَ وَجهه، وَفِيه وَجه آخر، وَهُوَ أَن يكون الأول نقلا بِالْمَعْنَى، وَالثَّانِي يكون نقلا بِاللَّفْظِ بِعَيْنِه.
قَوْله: (حَتَّى ظَهرت لمستوىً) اللَّام: فِيهِ للتَّعْلِيل، أَي: عَلَوْت لأجل استعلاء مستوى، أَو لأجل رُؤْيَته، أَو يكون بِمَعْنى: إِلَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { أوحى لَهَا} (الزلزلة: 5) أَي: إِلَيْهَا، وَيجوز أَن يكون مُتَعَلقا بِالْمَصْدَرِ أَي: ظَهرت ظُهُور المتسوى.
قلت: إِذا كَانَ: اللَّام، بِمَعْنى: إِلَى، يكون الْمَعْنى: إِنِّي أَقمت مقَاما بلغت فِيهِ من رفْعَة الْمحل إِلَى حَيْثُ اطَّلَعت على الكوائن، وَظهر لي مَا يُرَاد من أَمر اتعالى وتدبيره فِي خلقه، وَهَذَا هُوَ الْمُنْتَهى الَّذِي لَا يقدر أحد عَلَيْهِ.
وَيُقَال: لَام، الْغَرَض و: إِلَى، الْغَايَة يَلْتَقِيَانِ فِي الْمَعْنى.
قلت: قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، فِي قَوْله تَعَالَى: { كل يجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى} (:) فَإِن قلت: يجْرِي لأجل مُسَمّى، وَيجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى، هُوَ من تعاقب الحرفية.
قلت: كلا، وَلنْ يسْلك هَذِه الطَّرِيقَة إلاَّ بليد الطَّبْع ضيق العطن، وَلَكِن الْمَعْنيين، أَعنِي: الِانْتِهَاء والاختصاص، كل وَاحِد مِنْهُمَا ملائم لصِحَّة الْغَرَض، لِأَن قَوْلك: يجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى مَعْنَاهُ: يبلغهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ، وقولك: يجْرِي لأجل مُسَمّى، يُرِيد: يجْرِي لإدراك أجل مُسَمّى.
قَوْله: (هن خمس) الضَّمِير فِيهِ مُبْهَم يفسره الْخَبَر، كَقَوْلِه:
(هِيَ النَّفس مَا حملتها تتحمل)

قَوْله: (فَإِذا فِيهَا) .
كلمة: إِذا هَهُنَا وَإِلَى فِي قَوْله: (وَإِذا ترابها) للمفاجأة.

ذكر استنباط الْأَحْكَام والفوائد: مِنْهَا: أَن الَّذِي يفهم من تَرْتِيب البُخَارِيّ هَهُنَا أَن الْإِسْرَاء والمعراج وَاحِد، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا: كَيفَ فرضت الصَّلَاة فِي الْإِسْرَاء، ثمَّ أورد الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء) ، وَظَاهر إِيرَاده فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَقْتَضِي أَن الْإِسْرَاء غير الْمِعْرَاج، فَإِنَّهُ ترْجم للإسراء تَرْجَمَة، وَأخرج فِيهَا حَدِيثا، ثمَّ ترْجم للمعراج تَرْجَمَة وَأخرج فِيهَا حَدِيثا.
وَمِنْهَا: أَن قَوْله: (فَنزل جِبْرِيل) ، وَقَوله: (فعرج بِي إِلَى السَّمَاء) يدلان على رِسَالَة النَّبِي وعَلى خصوصيته بِأُمُور لم يُعْطهَا غَيره.
وَمِنْهَا: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هُوَ الَّذِي كَانَ ينزل على النَّبِي من عِنْد اوبأمره.
وَمِنْهَا: أَن بَعضهم اسْتدلَّ بقوله: (ثمَّ أَخذ بيَدي) على أَن الْمِعْرَاج وَقع غير مرّة، لكَون، الْإِسْرَاء إِلَى بَيت الْمُقَدّس لم يذكر هَهُنَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: يُمكن أَن يُقَال: هُوَ من بابُُ اخْتِصَار الرَّاوِي.
قلت: هَذَا غير مقنع، لِأَن الرَّاوِي لَا يختصر مَا سَمعه عمدا.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ إِثْبَات الاسْتِئْذَان وَبَيَان الْأَدَب فِيمَا إِذا اسْتَأْذن أحد بدق الْبابُُ وَنَحْوه، فَإِذا قيل لَهُ: من أَنْت؟ يَقُول: زيد، مثلا.
وَلَا يَقُول: أَنا، إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ لبَقَاء الْإِبْهَام، كَذَا قَالُوا: قلت: وَلَا يقْتَصر على قَوْله: زيد، مثلا، لِأَن الْمُسَمّى: بزيد، قد يكون كثيرا فيشتبه عَلَيْهِ، بل يذكر الشَّيْء الَّذِي هُوَ مَشْهُور بَين النَّاس بِهِ.
وَمِنْهَا: أَن رَسُول الرجل يَقُول مقَام آذنه، لِأَن الخازن لم يتَوَقَّف على الْفَتْح لَهُ على الْوَحْي إِلَيْهِ بذلك، بل عمل بِلَازِم الْإِرْسَال إِلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنه علم مِنْهُ أَن للسماء أبواباً حَقِيقَة وحفظة موكلين بهَا.
وَمِنْهَا: أَنه علم أَن رَسُول الله من نسل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ قَالَ: (وَالِابْن الصَّالح) ، بِخِلَاف غَيره من الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين فِيهِ، فَإِنَّهُم قَالُوا: الْأَخ الصَّالح.
وَمِنْهَا: جَوَاز مدح الْإِنْسَان فِي وَجهه إِذا أَمن عَلَيْهِ الْإِعْجَاب وَغَيره من أَسبابُُ الْفِتَن.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ شَفَقَة الْوَالِد على وَلَده وسروره بِحسن حَاله.
وَمِنْهَا: مَا قَالَت الشَّافِعِيَّة: إِن فِيهِ عدم وجوب صَلَاة الْوتر حَيْثُ عين الْخمس.
قُلْنَا؛ نَحن أَيْضا نقُول: لم يجب الْوتر فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبه بعد ذَلِك بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (إِن ازادكم صَلَاة) .
الحَدِيث، فَلذَلِك انحطت دَرَجَته عَن الْفَرْض، لِأَن ثُبُوت الْفَرْض الْخمس بِدَلِيل قَطْعِيّ وَمِنْهَا أَن فِي ظَاهره أَن أَرْوَاح بني آدمر من أهل الْجنَّة وَالنَّار فِي دَرَجَته عَن الْفَرْض لِأَن ثُبُوت الْفَرْض الْخمس بِدَلِيل قَطْعِيّ.
وَمِنْهَا: أَن الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان.
قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: دَلِيل أَن الْجنَّة فِي السَّمَاء.
وَمِنْهَا: أَنه قد اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على جَوَاز تحلية الْمُصحف.
وَغَيره بِالذَّهَب، وَهَذَا اسْتِدْلَال بعيد، لِأَن ذَلِك كَانَ فعل الْمَلَائِكَة واستعمالهم، وَلَيْسَ بِلَازِم أَن يكون حكمهم كحكمنا، وَيحْتَاج أَيْضا إِلَى ثُبُوت كَونهم مكلفين بِمَا كلفنا بِهِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ هَذَا على أصل الْإِبَاحَة وَتَحْرِيم اسْتِعْمَال النَّقْدَيْنِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ.

وَمِنْهَا: أَن قوما استدلوا بِالنَّقْضِ على أَنه يجوز نسخ الْعِبَادَة قبل الْعَمَل بهَا، وَأنكر أَبُو جَعْفَر النّحاس هَذَا القَوْل من وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: الْبناء على أَصله ومذهبه فِي أَن الْعِبَادَة لَا يجوز نسخهَا قبل الْعَمَل بهَا، لِأَن ذَلِك عِنْده من البداء، والبداء على اسبحانه وَتَعَالَى محَال.
الثَّانِي: أَن الْعِبَادَة، وَإِن جَازَ نسخهَا قبل الْعَمَل بهَا عِنْد من يرَاهُ، فَلَيْسَ يجوز عِنْد أحد نسخهَا قبل هبوطها إِلَى الأَرْض ووصولها إِلَى المخاطبين.
قَالَ: وَإِنَّمَا ادّعى النّسخ فِيهَا القاشاني ليصحح بذلك مذْهبه فِي أَن الْبَيَان لَا يتَأَخَّر.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَهَذَا إِنَّمَا هِيَ شَفَاعَة شفعها رَسُول الله لأمته، ومراجعة رَاجعهَا ربه ليخفف عَن أمته، وَلَا يُسمى نسخا.
.

     وَقَالَ  السُّهيْلي: قَول أبي جَعْفَر: وَذَلِكَ بداء، لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن حَقِيقَة البداء أَن يَبْدُو للْآمِر رَأْي يتَبَيَّن الصَّوَاب فِيهِ بعد أَن لم يكن تبينه، وَهَذَا محَال فِي حق اتعالى، وَالَّذِي يظْهر أَنه نسخ مَا وَجب على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من أَدَائِهَا، وَرفع عَنهُ اسْتِمْرَار الْعَزْم واعتقاد الْوُجُوب، وَهَذَا نسخ على الْحَقِيقَة، نسخ عَنهُ مَا وَجب عَلَيْهِ من التَّبْلِيغ، فقد كَانَ فِي كل مرّة عَازِمًا على تَبْلِيغ مَا أَمر بِهِ ومراجعته، وشفاعته لَا تَنْفِي النّسخ، فَإِن النّسخ قد يكون عَن سَبَب مَعْلُوم، فشفاعته كَانَ سَببا للنسخ لَا مبطلة لحقيقته، وَلَكِن الْمَنْسُوخ مَا ذَكرْنَاهُ من حكم التَّبْلِيغ الْوَاجِب عَلَيْهِ قبل النّسخ، وَحكم الصَّلَوَات فِي خاصته، وَأما أمته فَلم ينْسَخ عَنْهُم حكم إِذْ لَا يتَصَوَّر نسخ الحكم قبل وُصُوله إِلَى الْمَأْمُور.

وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون هَذَا خَبرا لَا تعبداً، فَإِذا كَانَ خَبرا لَا يدْخلهُ النّسخ، وَمعنى الْخَبَر أَنه أخبرهُ ربه أَن على أمته خمسين صَلَاة، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ خَمْسُونَ، فتأولها عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على أَنَّهَا خَمْسُونَ بِالْفِعْلِ، فبينها لَهُ ربه تَعَالَى عِنْد مُرَاجعَته أَنَّهَا فِي الثَّوَاب لَا فِي الْعَمَل.
وَمِنْهَا: وجوب الصَّلَوَات الْخمس، وَالْبابُُ مَعْقُود لهَذَا،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: أَجمعُوا على أَن فرض الصَّلَاة كَانَ لَيْلَة الْإِسْرَاء.
.

     وَقَالَ  ابْن إِسْحَاق: ثمَّ إِن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، أَتَى فهمز بعقبه فِي نَاحيَة الْوَادي فانفجرت عين مَاء مزن، فَتَوَضَّأ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَمُحَمّد عَلَيْهِ السَّلَام، ينظر، فَرجع رَسُول الله فَأخذ بيد خَدِيجَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، ثمَّ أَتَى بهَا الْعين فَتَوَضَّأ كَمَا تَوَضَّأ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ صلى هُوَ وَخَدِيجَة رَكْعَتَيْنِ كَمَا صلى جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
.

     وَقَالَ  نَافِع بن جُبَير: أصبح النَّبِي، لَيْلَة الْإِسْرَاء فَنزل جِبْرِيل حِين زاغت الشَّمْس فصلى بِهِ.

     وَقَالَ  جمَاعَة: لم تكن صَلَاة مَفْرُوضَة قبلهَا، إلاَّ مَا كَانَ أَمر بِهِ من قيام اللَّيْل من غير تَحْدِيد رَكْعَات وَوقت حُضُور، وَكَانَ يقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل وَنصفه وَثلثه.
وَمِنْهَا: أَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ يصعد بهَا إِلَى السَّمَاء.
وَمِنْهَا: أَن أَعمال نَبِي آدم الصَّالِحَة تسر آدم وأعمالهم السَّيئَة تسوءه.
وَمِنْهَا: أَنه يجب أَن يرحب بِكُل أحد من النَّاس فِي حِين لِقَائِه بإكرام النَّازِل، وَأَن يلاقيه بِأَحْسَن صِفَاته، وأعمها بجميل الثَّنَاء عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَن أوَامِر اتعالى تكْتب بأقلام شَتَّى، وَأَن الْعلم يَنْبَغِي أَن يكْتب بأقلام كَثِيرَة، تِلْكَ سنة افي سمواته، فَكيف فِي أرضه؟ وَمِنْهَا: أَن مَا قَضَاهُ وأحكمه من آثَار مَعْلُومَة وآجال مَكْتُوبَة وَشبه ذَلِك مِمَّا لَا يُبدل لَدَيْهِ، وَأما مَا نسخه رفقا لِعِبَادِهِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ { يمحو اما يَشَاء وَيثبت} (الرَّعْد: 93) .

الأسئلة والأجوبة فَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه اعتناء مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِهَذِهِ الْأمة من بَين سَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، الَّذين رَآهُمْ النَّبِي لَيْلَة الْإِسْرَاء؟ وَأجِيب: لما ورد أَنه قَالَ: يَا رب اجْعَلنِي من أمة مُحَمَّد، لما رأى من كرامتهم، على رَبهم، فَكَانَ اعتناؤه بأمرهم وإشفاقه عَلَيْهِم كَمَا يعتني بالقوم من هُوَ مِنْهُم.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ؛ إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من مُوسَى لِأَنَّهُ أول من سبق إِلَيْهِ حِين فرضت الصَّلَاة، فَجعل افي قلب مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ذَلِك ليتم مَا سبق من علم اتعالى.

وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى نقص الصَّلَاة عشرا بعد عشر؟ وَأجِيب: لَيْسَ كل الْخلق يحضر قلبه فِي الصَّلَاة من أَولهَا إِلَى آخرهَا، وَقد جَاءَ أَنه يكْتب لَهُ مَا حضر قلبه مِنْهَا، وَأَنه يُصَلِّي فَيكْتب لَهُ نصفهَا وربعها حَتَّى انْتهى إِلَى عشرهَا، ووقف، فَهِيَ خمس فِي حق من يكْتب لَهُ عشرهَا، وَعشر فِي حق من يكْتب لَهُ أَكثر من ذَلِك، وَخَمْسُونَ فِي حق من كملت صلَاته بِمَا يلْزمه من تَمام خشوعها وَكَمَال سجودها وركوعها.

وَمِنْهَا مَا قيل: إِن النَّبِي كَيفَ رأى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّمَوَات ومقرهم فِي الأَرْض؟ وَأجِيب: بِأَن اتعالى شكل أَرْوَاحهم على هَيْئَة صور أَجْسَادهم.
ذكره ابْن عقيل، وَكَذَا ذكره ابْن التِّين،.

     وَقَالَ : وَإِنَّمَا تعود الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد يَوْم الْبَعْث إلاَّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ حَيّ لم يمت، وَهُوَ ينزل إِلَى الأَرْض.
قلت: الْأَنْبِيَاء أَحيَاء، فقد رَآهُمْ النَّبِي حَقِيقَة، وَقد مر على مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي قَبره، وَرَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة.

وَمِنْهَا مَا قيل: مَا الْحِكْمَة فِي أَنه عين من الْأَنْبِيَاء آدم وَإِدْرِيس وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى فِي حَدِيث هَذَا الْبابُُ، وَفِي غَيره ذكر أَيْضا: يحيى ويوسف وَهَارُون، وهم ثَمَانِيَة؟ وَأجِيب.
أما آدم فَإِنَّهُ خرج من الْجنَّة بعداوة إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة، لَهُ وتحيله، فَكَذَلِك نَبينَا خرج من مَكَّة بأذى قومه لَهُ وَلمن أسلم مَعَه، وَأَيْضًا، فَإِن اتعالى أَرَادَ أَن يعرض على نبيه نسم بنيه من أهل الْيَمين وَأهل الشمَال، ليعلم بذلك أهل الْجنَّة وَأهل النَّار.
وَأَيْضًا فَإِن آدم أَبُو الْبشر وَأول الْأَنْبِيَاء الْمُرْسلين، وكنيته أَبُو الْبشر أَيْضا.
وَقيل: أَبُو مُحَمَّد، وروى ابْن عَسَاكِر من حَدِيث عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ مَرْفُوعا: (أهل الْجنَّة لَيْسَ لَهُم كنى إلاَّ آدم فَإِنَّهُ يكنى: أَبَا مُحَمَّد) .
وَمن حَدِيث كَعْب الْأَحْبَار: (لَيْسَ لأحد من أهل الْجنَّة لحية إلاَّ آدم، فَإِن لَهُ لحية سَوْدَاء إِلَى سرته) .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ لحية فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا كَانَت اللحى بعد آدم، ثمَّ قيل: إِن اسْم آدم سرياني، وَقيل: مُشْتَقّ، فَقيل: أفعل من الأدمة.
وَقيل: من لفظ الْأَدِيم، لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم الأَرْض.
.

     وَقَالَ  النَّضر بن شُمَيْل: سمي آدم لبياضه.
وَذكر مُحَمَّد بن عَليّ: أَن الآدم من الظباء الطَّوِيل القوائم.
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِن اخلق آدم على صورته، طوله سِتُّونَ ذِرَاعا، فَكل من يدْخل الْجنَّة على صورته وَطوله، وَولد لَهُ أَرْبَعُونَ ولدا فِي عشْرين بَطنا، وَعمر ألف سنة، وَلما أهبطه من الْجنَّة هَبَط (بسر نديب) من الْهِنْد على جبل يُقَال لَهُ؛ (نوذ) وَلما حَضرته الْوَفَاة اشْتهى قطف عِنَب، فَانْطَلق بنوه ليطلبوه فلقيتهم الْمَلَائِكَة فَقَالُوا: أَيْن تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: إِن أَبَانَا اشْتهى قطفاً.
قَالُوا: ارْجعُوا فقد كفيتموه، فَرَجَعُوا فوجدوه قد قبض، فغسلوه وحنطوه وكفنوه وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَلَائِكَة خَلفه وَبَنوهُ خَلفهم، ودفنوه.
وَقَالُوا: هَذِه سنتكم فِي مَوْتَاكُم) .
وَدفن فِي غَار يُقَال لَهُ: غَار الْكَنْز، فِي أبي قبيس، فاستخرجه نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الطوفان وَأَخذه وَجعله فِي تَابُوت مَعَه فِي السَّفِينَة، فَلَمَّا نضب المَاء رده نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى مَكَانَهُ.

وَأما إِدْرِيس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ أول من كتب بالقلم وانتشر مِنْهُ بعده فِي أهل الدُّنْيَا، فَكَذَلِك نَبينَا، كتب إِلَى الْآفَاق، وَسمي بِذَاكَ لدرسه الصُّحُف الثَّلَاثِينَ الَّتِي أنزلت عَلَيْهِ، فَقيل: إِنَّه خنوخ، وَيُقَال: أَخْنُوخ، وَيُقَال: اخنخ، وَيُقَال: اهنخ بن برد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شِيث بن آدم.
.

     وَقَالَ  الْحَرَّانِي: اسْم أمه: برة، وخنوخ سرياني، وَتَفْسِيره بالعربي: إِدْرِيس، قَالَ وهب: هُوَ جد نوح، وَقد قيل: إِنَّه إلْيَاس، وَإنَّهُ لَيْسَ بجد نوح وَلَا هُوَ فِي عَمُود هَذَا النّسَب، وَنَقله السُّهيْلي عَن ابْن الْعَرَبِيّ، وَاسْتشْهدَ بِحَدِيث الْإِسْرَاء حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (مرْحَبًا بالأخ الصَّالح) ، وَلَو كَانَ فِي عَمُود هَذَا النّسَب لقَالَ لَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم: (وَالِابْن الصَّالح) ، وَذكر بَعضهم أَن إِدْرِيس كَانَ نَبيا فِي بني إِسْرَائِيل، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَا اعْتِرَاض.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَنه قَالَ تلطفاً وتأدباً، وَهُوَ أَخ، وَإِن كَانَ ابْنا وَالْأَبْنَاء أخوة، والمؤمنون أخوة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنِير: أَكثر الطّرق على أَنه خاطبه بالأخ.
قَالَ:.

     وَقَالَ  لي ابْن أبي الْفضل: صحت لي طَرِيق أَنه خاطبه فِيهَا بالإبن الصَّالح.
.

     وَقَالَ  الْمَازرِيّ: ذكر المؤرخون أَن إِدْرِيس جد نوح، فَإِن قَامَ دَلِيل على أَن إِدْرِيس أرسل، لم يَصح قَول النسابين: إِنَّه جد نوح، لإخبار نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (ائْتُوا نوحًا فَإِنَّهُ أول رَسُول بَعثه اإلى أهل الأَرْض) ، وَإِن لم يقم دَلِيل جازم، قَالَ: وَصَحَّ أَن إِدْرِيس كَانَ نَبيا وَلم يُرْسل، قَالَ السُّهيْلي: وَحَدِيث أبي ذَر الطَّوِيل يدل على أَن آدم وَإِدْرِيس رسولان.
قلت: حَدِيث أبي ذَر أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : رفع إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة، وَرَآهُ فِيهَا، وَرفع وَهُوَ ابْن ثَلَاث مائَة وَخمْس وَسِتِّينَ سنة.

وَأما إِبْرَاهِيم، فَإِن نَبينَا، رَآهُ مُسْندًا ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور، فَكَذَلِك حَال نَبينَا، كَانَ فِي حجه الْبَيْت واختتام عمره بذلك، كَانَ نَظِير لِقَائِه إِبْرَاهِيم فِي آخر السَّمَوَات، وَمعنى إِبْرَاهِيم: أَب رَحِيم، وكنيته أَبُو الضيفان.
قيل: إِنَّه ولد بغوطة دمشق ببرزة فِي جبل قاسيون، وَالصَّحِيح أَنه ولد بكوثا من إقليم بابُل من الْعرَاق، وَكَانَ بَينه وَبَين نوح عدَّة قُرُون، وَقيل: ولد على رَأس ألف سنة من خلق آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذكر الطَّبَرِيّ: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا نطق بالعبرانية حِين عبر النَّهر فَارًّا من نمْرُود، عَلَيْهِ اللَّعْنَة.
.

     وَقَالَ  نمْرُود للَّذين أرسلهم وَرَاءه فِي طلبه: إِذا وجدْتُم فَتى يتَكَلَّم بالسُّرْيَانيَّة فَردُّوهُ، فَلَمَّا أدركوه استنطقوه، فحول السانه عبرانياً، وَذَلِكَ حِين عبر النَّهر، فسميت العبرانية بذلك.
قلت: المُرَاد من هَذَا النَّهر هُوَ الْفُرَات، وَبلغ إِبْرَاهِيم مِائَتي سنة.
وَقيل: تنتقص خَمْسَة وَعشْرين.
وَدفن بالبلدة الْمَعْرُوفَة بالخليل.

وَأما مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن أمره آل إِلَى قهر الْجَبابُُِرَة وإخراجهم من أَرضهم، فَكَذَلِك نَبينَا حَاله مثل ذَلِك، حَيْثُ فتح مَكَّة وقهر المتجبرين الْمُسْتَهْزِئِينَ من قُرَيْش.
ومُوسَى: هُوَ عمرَان بن قاهث بن يصهر بن لاوي بن يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

وَأما عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن الْيَهُود راموا قَتله، فرفعه اإليه، فَكَذَلِك نَبينَا، فَإِن الْيَهُود أَرَادوا قَتله حِين سموا لَهُ الشَّاة، فَنَجَّاهُ اتعالى من ذَلِك.
وَاسم عِيسَى عبراني، وَقيل سرياني.

وَأما يحيى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن نَبينَا رَآهُ مَعَ عِيسَى فِي السَّمَاء، وَإنَّهُ رأى من الْيَهُود مَا لَا يُوصف حَتَّى ذبحوه، فَكَذَلِك نَبينَا رأى من قُرَيْش مَا لَا يُوصف، وَلَكِن اتعالى نجاه مِنْهُم.

وَأما يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ عَفا عَن إخْوَته حَيْثُ قَالَ: { لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم} (يُوسُف: 29) الْآيَة، فَكَذَلِك نَبينَا عَفا عَن قُرَيْش يَوْم فتح مَكَّة.

وَأما هَارُون، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ محبباً إِلَى بني إِسْرَائِيل، حَتَّى إِن قومه كَانُوا يؤثرونه على مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكَذَلِك كَانَ نَبينَا ثمَّ صَار محبباً عِنْد سَائِر الْخلق.

وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله فِي الحَدِيث: لم يثبت كَيفَ مَنَازِلهمْ، يُخَالِفهُ كلمة؛ ثمَّ الَّتِي للتَّرْتِيب؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِمَّا أَن أنسا لم يرو هَذَا عَن أبي ذَر، وَإِمَّا أَن يُقَال: لَا يلْزم مِنْهُ تعْيين مَنَازِلهمْ لبَقَاء الْإِبْهَام فِيهِ، لِأَن بَين آدم وَإِبْرَاهِيم ثَلَاثَة من الْأَنْبِيَاء وَأَرْبَعَة من السَّمَوَات أَو خَمْسَة، إِذْ جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاء السَّابِعَة.

وَمِنْهَا مَا قيل: قَوْله تَعَالَى: { مَا يُبدل القَوْل لدي} (ق: 92) لم لَا يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا ينقص عَن الْخمس وَلَا يُبدل الْخمس إِلَى أقل من ذَلِك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يُنَاسب لفظ: (استحييت من رَبِّي) ، فَإِن قيل: ألم يُبدل القَوْل لَدَيْهِ حَيْثُ جعل الْخمسين خمْسا؟ أُجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ لَا يُبدل الإخبارات، مثل أَن ثَوَاب الْخمس خَمْسُونَ لَا التكليفات، أَو لَا يُبدل الْقَضَاء المبرم لَا الْقَضَاء الْمُعَلق الَّذِي يمحو اما يَشَاء مِنْهُ وَيثبت مِنْهُ، أَو مَعْنَاهُ: لَا يُبدل القَوْل بعد ذَلِك.

وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الْإِسْرَاء كَانَ لَيْلًا بِالنَّصِّ، فَمَا الْحِكْمَة فِي كَونه لَيْلًا؟ وَأجِيب: بأوجه: الأول: أَنه وَقت الْخلْوَة والاختصاص ومجالسة الْمُلُوك، وَهُوَ أشرف من مجالستهم نَهَارا، وَهُوَ وَقت مُنَاجَاة الْأَحِبَّة.
الثَّانِي: أَن اتعالى أكْرم جمَاعَة من أنبيائه بأنواع الكرامات لَيْلًا، قَالَ تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام { فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل رأى كوكباً} (الْأَنْعَام: 67) وَفِي قصَّة لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، { فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل} (هود: 18، وَالْحجر: 56) وَفِي قصَّة يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: { سَوف اسْتغْفر لكم رَبِّي} (يُوسُف: 89) وَكَانَ آخر دُعَائِهِ وَقت السحر من لَيْلَة الْجُمُعَة، وَقرب مُوسَى نجياً لَيْلًا، وَذَلِكَ تَعَالَى: { إِذْ قَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا} (طه: 01، والقصص: 92).

     وَقَالَ : { وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة} (الْأَعْرَاف: 241) .
.

     وَقَالَ  لَهُ لما أمره بِخُرُوجِهِ من مصر ببني إِسْرَائِيل: { فَأسر بعبادي لَيْلًا إِنَّكُم متبعون} (الدُّخان: 32) .
وَأكْرم نَبينَا أَيْضا لَيْلًا بِأُمُور مِنْهَا: انْشِقَاق الْقَمَر، وإيمان الْجِنّ بِهِ، وَرَأى الصَّحَابَة آثَار نيرانهم كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) وَخرج إِلَى الْغَار لَيْلًا.
الثَّالِث: أَن اتعالى قدم ذكر اللَّيْل على النَّهَار فِي غير مَا آيَة فَقَالَ: { وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ} (الْإِسْرَاء: 21).

     وَقَالَ : { وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار} (يس: 04) وَلَيْلَة النَّحْر تغني عَن الْوُقُوف نَهَارا.
الرَّابِع: أَن اللَّيْل أصل، وَلِهَذَا كَانَ أول الشُّهُور، وسواده يجمع ضوء الْبَصَر وَيحد كليل النّظر ويستلذ فِيهِ بالسمر ويجتلى فِيهِ وَجه الْقَمَر.
الْخَامِس: أَنه لَا ليل إلاَّ وَمَعَهُ نَهَار، وَقد يكون نَهَار بِلَا ليل، وَهُوَ: يَوْم الْقِيَامَة الَّذِي مِقْدَاره خمسين ألف سنة.
السَّادِس: أَن اللَّيْل مَحل استجابة الدُّعَاء والغفران وَالعطَاء.
فَإِن قلت: ورد فِي الحَدِيث: (خير يَوْم طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس يَوْم عَرَفَة، أَو يَوْم الْجُمُعَة) قلت: قَالُوا ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَيَّام.
قلت: لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر، وَقد دخل فِي هَذِه اللَّيْلَة أَرْبَعَة آلَاف جُمُعَة بِالْحِسَابِ الْجملِي، فَتَأمل هَذَا الْفضل الْخَفي.
السَّابِع: أَن أَكثر أَسْفَاره كَانَ لَيْلًا،.

     وَقَالَ : (عَلَيْكُم بالدلجة فَإِن الأَرْض تطوى بِاللَّيْلِ) .
وَالثَّامِن: لينفي عَنهُ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْبُنُوَّة لما رفع نَهَارا تَعَالَى اعن ذَلِك.
التَّاسِع: لِأَن اللَّيْل وَقت الِاجْتِهَاد لِلْعِبَادَةِ، وَكَانَ قَامَ حَتَّى تورمت قدماه.
وَكَانَ قيام اللَّيْل فِي حَقه وَاجِبا.

     وَقَالَ  فِي حَقه: { يَا أَيهَا المزمل قُم اللَّيْل إلاّ قَلِيلا} (المزمل: 1 2) فَلَمَّا كَانَت عِبَادَته لَيْلًا أَكثر أكْرم بالإسراء فِيهِ، وَأمره بقوله: { وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ} (الْإِسْرَاء: 97) .
الْعَاشِر: ليَكُون أجر الْمُصدق بِهِ أَكثر، ليدْخل فِيمَن آمن بِالْغَيْبِ دون من عاينه نَهَارا.

وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه ذكر فِي هَذَا الحَدِيث أَن صَدره غسل بِمَاء زَمْزَم، وَقَلبه بالثلج؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ غسل بالثلج أَولا ليثلج الْيَقِين إِلَى قلبه، وَهَذِه لدُخُول الحضرة القدسية، وَقيل: فعل بِهِ ذَلِك فِي حَال صغره ليصير قلبه مثل قُلُوب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الانشراح.
وَالثَّانيَِة: ليصير حَاله مثل حَال الْمَلَائِكَة.

وَمِنْهَا مَا قيل: مَا كَانَت الْحِكْمَة فِي الْإِسْرَاء؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ للمناجاة، وَلِهَذَا كَانَ من غير مواعدة، وَهَذَا أوقع وَأعظم، وَكَانَ التكليم فِي مُوسَى عَن مواعدة وموافاة، فَأَيْنَ ذَلِك من هَذَا؟ وشتان مَا بَين المقامين وَبَين من كلم على الطّور، وَبَين من دعِي إِلَى أعالي الْبَيْت الْمَعْمُور، وَبَين من سخرت لَهُ الرّيح مسيرَة شهر، وَبَين من ارْتقى من الْفرش إِلَى الْعَرْش فِي سَاعَة زمانية.

وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عرج بِهِ على دَابَّة يُقَال لَهَا الْبراق، وَثَبت ذَلِك بالتواتر، وَمَا الْحِكْمَة فِي ذَلِك، وَكَانَ اقادراً على رَفعه فِي طرفَة عين بِلَا براق؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك للتأنيس بالمعتاد، وَالْقلب إِلَى ذَلِك أميل، وعرج بِهِ لكرامة الرَّاكِب على غَيره، وَلذَلِك لم ينزل عَنهُ على مَا جَاءَ فِي حَدِيث حُذَيْفَة؛ مَا زَالَ على ظهر الْبراق حَتَّى رَجَعَ، وَإِنَّمَا لم يذكر فِي الرُّجُوع للْعلم بِهِ لقَرِينَة الصعُود.
وَسمي: براقاً لسرعته تَشْبِيها ببرق السَّحَاب، وَكَانَت بغلته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَيْضَاء، أَي: شهباء، فَكَذَلِك كَانَ الْبراق، وَفِيه أسئلة.
الأول: كَون الْبراق على شكل الْبَغْل دون الْخَيل مَعَ أَن الْخَيل أفضل وَأحسن.
وَالْجَوَاب: كَانَ الرّكُوب فِي السّلم والأمن لَا فِي الْخَوْف وَالْحَرب، ولإسراعه عَادَة، ولتحقيق ثباته وَصَبره، فَلذَلِك كَانَ، ركب بغلته فِي الْحَرْب فِي قصَّة حنين لتحقيق ثباته فِي مَوَاطِن الْحَرْب، وَأما ركُوب الْمَلَائِكَة الْخَيل فَلِأَنَّهُ الْمَعْهُود بِالْخَيْلِ فِي الحروب، وَمَا لطف من البغال واستدار أحسن من الْخَيل فِي الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا.
الثَّانِي: استصعاب الْبراق لماذا كَانَ؟ وَالْجَوَاب: كَانَ تيهاً وزهواً لركوبه، وَقَول جِبْرِيل: أبمحمد تستصعب تَحْقِيق الْحَال وَقد ارفضَّ عرقاً من تيه الْجمال؟ وَقد قيل: إِنَّه رَكبه الْأَنْبِيَاء قبله أَيْضا.
وَقيل: إِن جِبْرِيل ركب مَعَه.
الثَّالِث: تشمس الْبراق حِين قدومه إِلَيْهِ للرُّكُوب، قَالَه قَتَادَة.
الْجَواب: إِن تشمسه ونفرته كَانَ لبعد عَهده من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَطول الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام.
.

     وَقَالَ : قَالَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام لمُحَمد، حِين تشمس بِهِ الْبراق: لَعَلَّك يَا مُحَمَّد مسست الصَّفْرَاء الْيَوْم، يَعْنِي الذَّهَب؟ فَأخْبر النَّبِي أَنه مامسها إلاَّ أَنه مر بهَا.
فَقَالَ: تَبًّا لمن يعبدك من دون اتعالى، وَمَا شمس إلاَّ لذَلِك ذكره السُّهيْلي.
وَسمعت من بعض أستاذي الْكِبَار، أَنه: إِنَّمَا شمس ليعد لَهُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالركوب عَلَيْهِ أَولا يَوْم الْقِيَامَة، فَلَمَّا وعد لَهُ قر.

وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى قَوْله: (وغشيها ألوان لَا أَدْرِي مَا هِيَ) ؟ .
أُجِيب: بِأَن هَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: { إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى} (النَّجْم: 61) فِي أَن الْإِبْهَام للتفخيم والتهويل، وَإِن كَانَ مَعْلُوما.
وَقيل: فرَاش من ذهب، وَقيل: لَعَلَّه مثل مَا يغشى من الْأَنْوَار الَّتِي تنبعث مِنْهَا وتتساقط على موقعها بالفراش، وَجعلهَا من الذَّهَب لصفائها وإضاءتها فِي نَفسهَا.

وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ تصور الصعُود إِلَى السَّمَوَات وَمَا فَوْقهَا، والجسم الإنساني كثيف قبل هَذَا؟ أُجِيب: بِأَن الْأَرْوَاح أَرْبَعَة أَقسَام.
الأول: الْأَرْوَاح الكدرة بِالصِّفَاتِ البشرية، وَهِي أَرْوَاح الْعَوام، غلبت عَلَيْهَا القوى الحيوانية فَلَا تقبل العروج أصلا.
وَالثَّانِي: الْأَرْوَاح الَّتِي لَهَا كَمَال الْقُوَّة النظرية للبدن باكتساب الْعُلُوم، وَهَذِه أَرْوَاح الْعلمَاء.
وَالثَّالِث: الْأَرْوَاح الَّتِي لَهَا كَمَال الْقُوَّة الْمُدبرَة للبدن باكتساب الْأَخْلَاق الحميدة، وَهَذِه أَرْوَاح المرتاضين، إِذْ كسروا قوى أبدانهم بالارتياض والمجاهدة.
وَالرَّابِع: الْأَرْوَاح الَّتِي حصل لَهَا كَمَال القوتين، فَهَذِهِ غَايَة الْأَرْوَاح البشرية، وَهِي أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء وَالصديقين، فَكلما ازدادت قُوَّة أَرْوَاحهم ازْدَادَ ارْتِفَاع أبدانهم من الأَرْض، وَلِهَذَا لما كَانَ الْأَنْبِيَاء، صلوَات اعليهم وَسَلَامه، قويت فيهم هَذِه الْأَرْوَاح، عرج بهم إِلَى السَّمَاء وأكملهم قُوَّة نَبينَا، فعرج بِهِ إِلَى قاب قوسين أَو أدنى.





[ قــ :346 ... غــ :350]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبْرنا مالِكٌ عَنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ أمِّ المُؤْمِنينَ قالَتْ فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الحَضَرِ والسَّفَر فأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الحَضَرِ.
( الحَدِيث 053 طرفاه فِي: 0901، 5393) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا، وَعبد ابْن يُوسُف التنيسِي، وَمَالك بن أنس.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني، وَهَذَا من مَرَاسِيل عَائِشَة لِأَنَّهَا لم تدْرك الْقِصَّة، وَيحْتَمل أَن تكون أخذت ذَلِك من النَّبِي أَو من صَحَابِيّ آخر، وعَلى كل حَال فَهُوَ حجَّة لِأَن هَذَا مِمَّا لَا مجَال للرأي فِيهِ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة عَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: ( فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ هَاجر النَّبِي فَفرضت أَرْبعا) .
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، أربعتهم عَن مَالك عَن صَالح بن كيسَان بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ.
قَوْله: ( فرض ا) أَي: قدر ا، وَالْفَرْض فِي اللُّغَة التَّقْدِير، هَكَذَا فسره أَبُو عمر.
قَوْلهَا: ( الصَّلَاة) أَي: الصَّلَاة الرّبَاعِيّة، وَذَلِكَ لِأَن الثَّلَاثَة وتر صَلَاة النَّهَار، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي صَالح بن كيسَان عَن عُرْوَة: إِلَى آخِره، وَفِيه: ( إلاَّ الْمغرب فَإِنَّهَا كَانَت ثَلَاثًا) : وَذكر الدَّاودِيّ أَن الصَّلَوَات زيدت فِيهَا رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وزيدت فِي الْمغرب رَكْعَة.
وَفِي سنَن الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عَامر عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة قَالَت: ( إِن أول مَا فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا قدم النَّبِي الْمَدِينَة وَاطْمَأَنَّ زَاد رَكْعَتَيْنِ، غير الْمغرب، لِأَنَّهَا وتر صَلَاة الْغَدَاة.
قَالَ: وَكَانَ إِذا سَافر صلى الصَّلَاة الأولى)
.
قَوْلهَا: ( رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) بالتكرار ليُفِيد عُمُوم التَّثْنِيَة لكل صَلَاة، لِأَن قَاعِدَة كَلَام الْعَرَب أَن تكْرَار الِاسْم المُرَاد تَقْسِيم الشَّيْء عَلَيْهِ، ولولاه لَكَانَ فِيهِ إِيهَام أَن الْفَرِيضَة فِي السّفر والحضر مَا كَانَت إلاَّ فَرد رَكْعَتَيْنِ فَقَط.
وانتصب: ( رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) على الحالية، والتكرار فِي الْحَقِيقَة عبارَة عَن كلمة وَاحِدَة نَحْو: مثنى، ونظيرها قَوْلك: هَذَا مزاي، قَائِم مقَام الحلو والحامض.
قَوْلهَا: ( وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر) ، يَعْنِي: زيدت فِيهَا حَتَّى تكملت خمْسا، فَتكون الزِّيَادَة فِي عدد الصَّلَوَات، وَيكون قَوْلهَا: فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ، أَي: قبل الْإِسْرَاء، لِأَن الصَّلَاة قبل الْإِسْرَاء كَانَت صَلَاة قبل غرُوب الشَّمْس، وَصَلَاة قبل طُلُوعهَا.
وَيشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى: { وَسبح بالْعَشي والأبكار} ( آل عمرَان: 14) قَالَه أَبُو إِسْحَاق الْحَرْبِيّ وَيحيى بن سَلام،.

     وَقَالَ  بَعضهم: يجوز أَن يكون معنى: ( فرضت الصَّلَاة) ، أَي لَيْلَة الْإِسْرَاء حِين فرضت الصَّلَاة الْخمس فرضت رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ زيد فِي صَلَاة الْحَضَر بعد ذَلِك، فَتكون الزِّيَادَة فِي عدد الرَّكْعَات، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيّ عَن بعض رُوَاة هَذَا الحَدِيث عَن عَائِشَة، وَمِمَّنْ رَوَاهُ هَكَذَا الْحسن وَالشعْبِيّ أَن الزِّيَادَة فِي الْحَضَر كَانَت بعد الْهِجْرَة بعام، أَو نَحوه.
وَقد ذكر البُخَارِيّ من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، قَالَت: ( فرضت الصَّلَاة) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب،.

     وَقَالَ  بَعضهم؛ فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ، يَعْنِي: إِن اخْتَار الْمُسَافِر أَن يكون فَرْضه رَكْعَتَيْنِ فَلهُ ذَلِك، وَإِن اخْتَار أَن يكون أَرْبعا فَلهُ ذَلِك.
وَقيل: يحْتَمل أَن تُرِيدُ بقولِهَا: فرضت الصَّلَاة، أَي: قدرت، ثمَّ تركت صَلَاة السّفر على هيئتها فِي الْمِقْدَار لَا فِي الْإِيجَاب.

وَالْفَرْض فِي اللُّغَة: التَّقْدِير،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: يَعْنِي فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ لمن أَرَادَ الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا، فزيد فِي صَلَاة الْحَضَر رَكْعَتَانِ على سَبِيل التحتيم، وأقرت صَلَاة السّفر على جَوَاز الِاقْتِصَار، وَاحْتج أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث، أَعنِي: قَول عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، المكذور فِي هَذَا الْبابُُ، على أَن الْقصر فِي السّفر عَزِيمَة لَا رخصَة، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: ( فرض االصلاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة) .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي ( مُعْجَمه) بِلَفْظ: ( افْترض رَسُول ا، رَكْعَتَيْنِ فِي السّفر كَمَا افْترض فِي الْحَضَر أَرْبعا) .
وَبِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن ماجة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، قَالَ: ( صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ، تَمام غير قصر على لِسَان نَبِيكُم مُحَمَّد) .
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَلم يقدحه بِشَيْء.
فَإِن قلت: قَالَ النَّسَائِيّ: فِيهِ انْقِطَاع لِأَن ابْن أبي ليلى لم يسمعهُ من عمر.
قلت: حكم مُسلم فِي مُقَدّمَة كِتَابه بِسَمَاع ابْن أبي ليلى من عمر، وَصرح فِي بعض طرقه فَقَالَ: عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب.
فَذكره وَيُؤَيّد ذَلِك مَا أخرجه أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي مُسْنده: عَن الْحُسَيْن بن وَاقد عَن الْأَعْمَش.
عَن حبيب بن أبي ثَابت أَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى حَدثهُ، قَالَ: خرجت مَعَ عمر بن الْخطاب.
فَذكره.

وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد: الْقصر رخصَة.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أخرجه أَبُو دادو بِإِسْنَادِهِ عَن يعلى بن أُميَّة قَالَ: قلت: لعمر بن الْخطاب: عجبت من اقْتِصَار النَّاس الصَّلَاة الْيَوْم، وَإِنَّمَا قَالَ اتعالى: { إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} ( النِّسَاء: 101) فقد ذهب ذَلِك الْيَوْم.
فَقَالَ: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَذكرت ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ: ( صَدَقَة تصدق ابها عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته) .
وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان.
وَبِمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن عمر بن سعيد عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن عَائِشَة رَضِي اعنها أَن النَّبِي: ( كَانَ يقصر فِي الصَّلَاة وَيتم وَيفْطر ويصوم) .
.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح، وَقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن طَلْحَة بن عَمْرو ودلهم بن صَالح والمغيرة بن زِيَاد، وثلاثتهم ضعفاء عَن عَطاء عَن عَائِشَة.
قَالَ: وَالصَّحِيح عَن عَائِشَة مَوْقُوف.

وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث الأول أَنه حجَّة لنا لِأَنَّهُ أَمر بِالْقبُولِ، فَلَا يبْقى خِيَار الرَّد شرعا، إِذْ الْأَمر للْوُجُوب.
فَإِن قلت: الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ يكون مُخْتَارًا فِي قبُول الصَّدَقَة كَمَا فِي الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ من الْعباد.
قلت: معنى قَوْله: ( تصدق ابها عَلَيْكُم) حكم عَلَيْكُم، لِأَن التَّصَدُّق من افيما لَا يحْتَمل التَّمْلِيك يكون عبارَة عَن الْإِسْقَاط كالعفو من ا.
وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث الثَّانِي: أَنه معَارض بِحَدِيث آخر أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن حَفْص بن عَاصِم عَن ابْن عمر قَالَ: ( صَحِبت رَسُول الله فِي السّفر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه ا، وصحبت أَبَا بكر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه اتعالى، وصحبت عُثْمَان فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه اتعالى) ، وَقد قَالَ اتعالى: { لقد كَانَ لكم فِي رَسُول اأسوة حَسَنَة} ( الْأَحْزَاب: 1) وَإِلَيْهِ ذهب عُلَمَاء أَكثر السّلف وفقهاء الْأَمْصَار، أَي: إِلَى أَن الْقصر وَاجِب، وَهُوَ قَول عمر وَعلي وَابْن عمر وَجَابِر وَابْن عَبَّاس، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَقَتَادَة.

     وَقَالَ  حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان: يُعِيد من صلى فِي السّفر أَرْبعا.
وَعَن مَالك: يُعِيد مَا دَامَ فِي الْوَقْت.
.

     وَقَالَ  أَحْمد: السّنة رَكْعَتَانِ.
.

     وَقَالَ  مرّة أُخْرَى: أَنا أحب الْعَافِيَة من هَذِه الْمَسْأَلَة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: وَالْأولَى أَن يقصر الْمُسَافِر الصَّلَاة لأَنهم أَجمعُوا على جَوَازهَا إِذا قصر، وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا أتم، وَالْإِجْمَاع مقدم على الِاخْتِلَاف، وَسقط بِهَذَا كُله مَا قَالَه بَعضهم: وَيدل على أَنه أَي الْقصر رخصَة أَيْضا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( صَدَقَة تصدق ابها عَلَيْكُم) .
.

     وَقَالَ  أَيْضا؛ احْتج مخالفهم أَي: مُخَالف الْحَنَفِيَّة بقوله تَعَالَى: { فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} ( النِّسَاء: 101) .
لِأَن الْقصر إِنَّمَا يكون من شَيْء أطول مِنْهُ.

قلت: الْجَواب عَنهُ أَن المُرَاد من الْقصر الْمَذْكُور فِيهَا هُوَ الْقصر فِي الْأَوْصَاف من ترك الْقيام إِلَى الْقعُود، أَو ترك الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَى الْإِيمَاء لخوف الْعَدو بِدَلِيل أَنه علق ذَلِك بالخوف، إِذْ قصر الأَصْل غير مُتَعَلق بالخوف بِالْإِجْمَاع، بل مُتَعَلق بِالسَّفرِ، وَعِنْدنَا قصر الْأَوْصَاف مُبَاح لَا وَاجِب، مَعَ أَن رفع الْجنَاح فِي النَّص لدفع توهم النُّقْصَان فِي صلَاتهم بِسَبَب دوامهم على الْإِتْمَام فِي الْحَضَر، وَذَلِكَ مَظَنَّة توهم النُّقْصَان، فَرفع ذَلِك عَنْهُم.
.

     وَقَالَ  هَذَا الْقَائِل أَيْضا، والزموا الْحَنَفِيَّة على قاعدتهم فِيمَا إِذا عَارض رَأْي الصَّحَابِيّ رِوَايَته، فَالْعِبْرَة بِمَا رُوِيَ بِأَنَّهُ ثَبت عَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تتمّ فِي السّفر.
قلت: قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة على أَصْلهَا، وَلَا يلْزم من إتْمَام عَائِشَة فِي السّفر النَّقْض على الْقَاعِدَة، لِأَن عَائِشَة كَانَت ترى الْقصر جَائِزا والإتمام جَائِزا، فَأخذت بِأحد الجائزين، وَإِنَّمَا يرد على قاعدتنا مَا ذكره أَن لَو كَانَت عَائِشَة تمنع الْإِتْمَام، وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي إتْمَام عُثْمَان رَضِي اتعالى عَنهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره الْمُحَقِّقُونَ فِي تأويلهما.
وَقيل: لِأَن عُثْمَان إِمَام الْمُؤمنِينَ وَعَائِشَة أمّهم فكأنهما كَانَا فِي منازلهما، وأبطل بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ أولى بذلك مِنْهُمَا.
وَقيل: لِأَن عُثْمَان تأهل بِمَكَّة وأبطل بِأَنَّهُ سَافر بأزواجه وَقصر، وَقيل: فعل ذَلِك من أجل الْأَعْرَاب الَّذين حَضَرُوا مَعَه لِئَلَّا يظنون أَن فرض الصَّلَاة رَكْعَتَانِ أبدا سفرا وحضراً، وأبطل بِأَن هَذَا الْمَعْنى إِنَّمَا كَانَ مَوْجُودا فِي زمن النَّبِي، بل اشْتهر أَمر الصَّلَاة فِي زمن عُثْمَان أَكثر مِمَّا كَانَ، وَقيل: لِأَن عُثْمَان نوى الْإِقَامَة بِمَكَّة بعد الْحَج، وأبطل بِأَن الْإِقَامَة بِمَكَّة حرَام على المُهَاجر فَوق ثَلَاث، وَقيل: كَانَ لعُثْمَان أَرض بمنى، وأبطل بِأَن ذَلِك لَا يَقْتَضِي الْإِتْمَام وَالْإِقَامَة.