فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها

( بابٌُ إذَا صَلَّى فِي ثَوْب لهُ أعْلاَمٌ وَنَظَر إِلَى عَلَمِها)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا صلى شخص وَهُوَ لابس ثوبا وَله أَعْلَام، وَنظر إِلَى أَعْلَامه، هَل يكره ذَلِك أم لَا؟.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَنظر إِلَى علمه، وَفِي بَعْضهَا: إِلَى علمهَا، والتأنيث فِيهِ بِاعْتِبَار الخميصة، وَنَقله بَعضهم عَنهُ بِالْعَكْسِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ الْكرْمَانِي فِي رِوَايَة: وَنظر إِلَى علمه، والأعلام جمع علم، بِفَتْح اللَّام.



[ قــ :369 ... غــ :373]
- حَدَّثَنَا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا إبْراهِيمُ بنُ سَعْدٍ قالَ حدّثنا ابنُ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ أنَّ النبيَّ صلَّى فِي خمِيصةٍ لَها أعْلاَمٌ فَنَظَرَ إِلَى أعْلاَمِها نَظْرَةً فَلَمَّا انْصَرَف قالَ اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أبي جَهْمٍ وأتُونِي بأنْبِجانِيَّةِ أبي جَهْمٍ فإِنَّهَا ألْهَتْنِي آنِفاً عنْ صَلاَتي.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

( ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة.
وَأحمد بن عبد ابْن يُونُس وينسب إِلَى جده، وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون ومدنيون.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره.
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهِ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل بِهِ.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو النَّاقِد، وَزُهَيْر بن حَرْب، وَأبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان.
وَأخرجه ابْن ماجة فِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ.

ذكر لغاته ومعانيه: قَوْله: ( فِي خميصة) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم وبالصاد الْمُهْملَة: وَهِي كسَاء أسود مربع لَهُ علمَان أَو أَعْلَام، وَيكون من خَز أَو صوف، وَلَا يُسمى خميصة إلاَّ أَن تكون سَوْدَاء معلمة، سميت بذلك للينها ورقتها وَصغر حجمها إِذا طويت، مَأْخُوذ من الخمص وَهُوَ: ضمور الْبَطن.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب فِي ( شرح الْمُوَطَّأ) : الخميصة كسَاء صوف أَو مَرْعَزِيٌّ معلم الصَّنْعَة.
قَوْله: ( لَهَا أَعْلَام) جملَة وَقعت صفة لخميصة، والأعلام جمع: علم، بِفتْحَتَيْنِ، وَقد فسرناه عَن قريب.
قَوْله: ( فَلَمَّا انْصَرف) ، أَي: من صلَاته واستقبال الْقبْلَة.
قَوْله: ( إِلَى أبي جهم) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْهَاء: واسْمه عَامر بن حُذَيْفَة الْعَدوي الْقرشِي الْمدنِي الصَّحَابِيّ.
وَقيل: اسْمه عبيد، أسلم يَوْم الْفَتْح وَكَانَ مُعظما فِي قُرَيْش وعالماً بِالنّسَبِ، شهد بُنيان الْكَعْبَة مرَّتَيْنِ، مَاتَ فِي آخر خلَافَة مُعَاوِيَة، وَهُوَ غير أبي جهيم، المصغر الْمَذْكُور فِي الْمُرُور.

قَوْله: ( بأنبجانية أبي جهم) ، قد اخْتلفُوا فِي ضبط هَذَا اللَّفْظ وَمَعْنَاهُ، فَقيل: بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْجِيم وَبعد النُّون يَاء النِّسْبَة.
.

     وَقَالَ  ثَعْلَب: يُقَال كَبْش إنبجاني، بِكَسْر الْيَاء وَفتحهَا إِذا كَانَ ملتفاً كثير الصُّوف، وَكسَاء أنبجاني، كَذَلِك.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى منبج فتحت الْبَاء فَقلت: كسَاء منبجاني، أَخْرجُوهُ مخرج: مخبراني ومنظراني،.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم فِي ( لحن الْعَامَّة) : لَا يُقَال: كسَاء أنبجاني، وَهَذَا مِمَّا تخطىء فِيهِ الْعَامَّة، وَإِنَّمَا يُقَال: منبجاني، بِفَتْح الْمِيم وَالْبَاء.
قَالَ: وَقلت للأصمعي: لِمَ فتحت الْبَاء وَإِنَّمَا نسب إِلَى منبح بِالْكَسْرِ؟ قَالَ: خرج مخرج: منظراني ومخبراني.
قَالَ: وَالنّسب مِمَّا يُغير الْبناء،.

     وَقَالَ  الْقَزاز فِي ( الْجَامِع) : والنباج مَوضِع تنْسب إِلَيْهِ الثِّيَاب المنبجانية.
وَفِي ( الجمهرة) : ومنبج مَوضِع أعجمي، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب ونسبوا إِلَيْهِ الثِّيَاب المنبجانية.
وَفِي ( الْمُحكم) أَن منبج مَوضِع، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: الْمِيم، فِيهِ زَائِدَة بِمَنْزِلَة: الْألف، لِأَنَّهَا إِنَّمَا كثرت مزيدة أَولا، فموضوع زيادتها كموضع الْألف وَكَثْرَتهَا ككثرتها إِذا كَانَت أَولا فِي الِاسْم وَالصّفة، وَكَذَلِكَ النباج، وهما نباجان: نباج نَبْتَل ونباج بن عَامر، و: كسَاء منبجاني، مَنْسُوب إِلَيْهِ على غير قِيَاس.
وَفِي ( المغيث) : الْمَحْفُوظ كسر بَاء الأنبجانية،.

     وَقَالَ  ابْن الْحصار فِي ( تقريب المدارك) : من زعم أَنه مَنْسُوب إِلَى منبج فقد وهم.
قلت: منبج، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره جِيم: بَلْدَة من كور قنسرين بناها بعض الأكاسرة الَّذِي غلب على الشَّام، وسماها: مُنَبّه، وَبنى بهَا بَيت نَار ووكل بهَا رجلا، فعربت فَقيل: منبج، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: منبجي، على الأَصْل: ومنبجاني على غير قِيَاس، وَالْبَاء تفتح فِي النِّسْبَة كَمَا يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَى: صدف، بِكَسْر الدَّال: صدفي بِفَتْحِهَا.
وَمن هَذَا قَالَ ابْن قرقول: نِسْبَة إِلَى منبج، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْبَاء وَيُقَال: نِسْبَة إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ: أنبجان، وَعَن هَذَا قَالَ ثَعْلَب: يُقَال كسَاء أنبجاني، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَب إِلَى الصَّوَاب فِي لفظ الحَدِيث، وَأما تَفْسِيرهَا، فَقَالَ عبد الْملك بن حبيب فِي ( شرح الْمُوَطَّأ) : هِيَ كسَاء غليظ تشبه الشملة يكون سداه قطناً غليظاً أَو كتاناً غليظاً، وَلحمَته صوف لَيْسَ بالمبرم، فِي فتله لين، غليظ يلتحف بِهِ فِي الْفراش، وَقد يشْتَمل بهَا فِي شدَّة الْبرد.
وَقيل: هِيَ من أدوان الثِّيَاب الغليظة تتَّخذ من الصُّوف، وَيُقَال: هُوَ كسَاء غليظ لَا علم لَهُ، فَإِذا كَانَ للكساء علم فَهُوَ خميصة، وَإِن لم يكن فَهُوَ أنبجانية.

قَوْله: ( ألهتني) أَي: أشغلتني، وَهُوَ من: الإلهاء، وثلاثيه: لهي الرجل عَن الشَّيْء يلهى عَنهُ إِذا غفل، وَهُوَ من بابُُ: يعلم، وَأما: لَهَا يلهو إِذا لعب فَهُوَ من بابُُ: نصر ينصر.
وَفِي ( الموعب) : وَقد لهى يلهو والتهى وألهاني عَنهُ، كَذَا ... أَي أنساني وشغلني.
قَوْله: ( آنِفا) أَي: قَرِيبا، واشتقاقه من الائتلاف بالشَّيْء أَي: الِابْتِدَاء بِهِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْنَاف، وَمِنْه أنف كل شَيْء وَهُوَ أَوله.
وَيُقَال: قلت آنِفا وسالفاً، وانتصابه على الظَّرْفِيَّة، قَالَ ابْن الْأَثِير: قلت: الشَّيْء آنِفا فِي أول وَقت يقرب مني.
قَوْله: ( عَن صَلَاتي) أَي: عَن كَمَال الْحُضُور فِيهَا وتدبير أَرْكَانهَا وأذكارها، وَالِاسْتِقْصَاء فِي التَّوَجُّه إِلَى جناب الجبروت.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام فِيهِ: جَوَاز لبس الثَّوْب الْمعلم وَجَوَاز الصَّلَاة فِيهِ.
وَفِيه: أَن اشْتِغَال الْفِكر الْيَسِير فِي الصَّلَاة غير قَادِح فِيهَا، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَفِيه أَن الصَّلَاة تصح وَإِن حصل فِيهَا فكر مِمَّا لَيْسَ مُتَعَلقا بِالصَّلَاةِ، وَالَّذِي حُكيَ عَن بعض السّلف أَنه مِمَّا يضر غير مُعْتَد بِهِ.
وَفِيه: طلب الْخُشُوع فِي الصَّلَاة والإقبال عَلَيْهَا وَنفي كل مَا يشغل الْقلب ويلهي عَنهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا: الْمُسْتَحبّ أَن يكون نظره إِلَى مَوضِع سُجُوده، لِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّعْظِيم من إرْسَال الطّرف يَمِينا وَشمَالًا.
وَفِيه: الْمُبَادرَة إِلَى ترك كل مَا يلهي ويشغل الْقلب عَن الطَّاعَة والإعراض عَن زِينَة الدُّنْيَا والفتنة بهَا.
وَفِيه: منع النّظر وَجمعه عَمَّا لَا حَاجَة بالشخص إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا، وَقد كَانَ السّلف لَا يخطىء أَحدهمَا مَوضِع قَدَمَيْهِ، إِذا مَشى.
وَفِيه: تكنية الْعَالم لمن دونه، وَكَذَلِكَ الإِمَام.
وَفِيه: كَرَاهَة تزويق الْمِحْرَاب فِي الْمَسْجِد وحائطه ونقشه وَغير ذَلِك من الشاغلات.
وَفِيه: قبُول الْهَدِيَّة من الْأَصْحَاب والإرسال إِلَيْهِم، وَاسْتدلَّ بِهِ الْبَاجِيّ على صِحَة المعاطاة فِي الْعُقُود بِعَدَمِ ذكر الصِّيغَة،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: إِنَّمَا أرسل إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ أهداها إِيَّاه، فَلَمَّا ألهاه علمهَا أَي: شغله إِيَّاه عَن الصَّلَاة بِوُقُوع نظره على نقوش الْعلم، ردهَا، أَو تفكر فِي أَن مثل ذَلِك الرعونة الَّتِي لَا تلِيق بِهِ، ردهَا إِلَيْهِ واستبدل مِنْهُ أنبجانية كَيْلا يتَأَذَّى قلبه بردهَا إِلَيْهِ.
وَفِيه: كَرَاهِيَة الْأَعْلَام الَّتِي يتعاطاه النَّاس على أردانهم.
وَفِيه: أَن لصور الْأَشْيَاء الظَّاهِرَة تَأْثِيرا فِي النُّفُوس الطاهرة والقلوب الزكية.

الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: كَيفَ بعث بِشَيْء يكرههُ لنَفسِهِ إِلَى غَيره؟ وَأجِيب: بِأَن بعثها إِلَى أبي جهم لم يكن لما ذكر، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا كَانَت سَبَب غفلته وشغله عَن الْخُشُوع وَعَن ذكر ا، كَمَا قَالَ: أخرجُوا عَن هَذَا الْوَادي الَّذِي أَصَابَكُم فِيهِ الْغَفْلَة، فَإِنَّهُ وَاد بِهِ شَيْطَان، أَلا ترى إِلَى قَوْله لعَائِشَة فِي الضَّب: ( إِنَّا لَا نتصدق بِمَا لَا نَأْكُل) وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أقوى خلق الرّفْع الوسوسة، وَلَكِن كرهها لدفع الوسوسة.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَأما بَعثه بالخميصة إِلَى أبي جهم وَطلب أنبجانيته فَهُوَ من بابُُ الإدلال عَلَيْهِ لعلمه بِأَنَّهُ يفرح بِهِ.

وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه تعْيين أبي جهم فِي الْإِرْسَال إِلَيْهِ؟ وَأجِيب بِأَن أَبَا جهم هُوَ الَّذِي أهداها لَهُ، فَلذَلِك ردهَا عَلَيْهِ.
وروى الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي قَالَ: حدّثنا مَالك عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه عَن عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، قَالَت: ( أهْدى أَبُو جهم إِلَى النَّبِي خميصة شامية لَهَا علم، فَشهد فِيهَا النَّبِي الصَّلَاة، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: ردي هَذِه الخميصة إِلَى أبي جهم فَإِنَّهَا كَادَت تفتنني) .

وَمِنْهَا مَا قيل: أَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِير خاطره بِالرَّدِّ عَلَيْهِ؟ وَأجِيب: بِمَا ذَكرْنَاهُ الْآن عَن ابْن بطال، وَالْأولَى من هَذَا مَا دلّت عَلَيْهِ رِوَايَة أبي مُوسَى الْمدنِي: ردوهَا عَلَيْهِ وخذوا أنبجانيته، لِئَلَّا يُؤثر رد الْهَدِيَّة فِي قلبه.
وَعند أبي دَاوُد.
( شغلني أَعْلَام هَذِه، وَأخذ كرديا كَانَ لأبي جهم، فَقيل: يَا رَسُول االخميصة كَانَت خيرا من الْكرْدِي) .

وَمِنْهَا مَا قيل: أَلَيْسَ فِيهِ إِشَارَة إِلَى اسْتِعْمَال أبي جهم إِيَّاهَا فِي الصَّلَاة؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ ذَلِك، وَمثله قَوْله فِي حلَّة عُطَارِد، حَيْثُ بعث بهَا إِلَى عمر: إِنِّي لم أبْعث بهَا إِلَيْك لتلبسها، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ الِانْتِفَاع بهَا من جِهَة بيع أَو إكساء لغيره من النِّسَاء.
فَإِن قلت: لَيست قَضِيَّة أبي جهم مثل قَضِيَّة عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَم أبْعث بهَا إِلَيْك لكذا وَكَذَا، وَهِي إِذا ألهت سيد الْخلق مَعَ عصمته فَكيف لَا تلهي أَبَا جهم، على أَنه قيل: إِنَّه كَانَ أعمى فالإلهاء مَفْقُود عَنهُ.
قلت: لَعَلَّه علم أَنه لَا يُصَلِّي فِيهَا، وَيحْتَمل أَن يكون خَاصّا بالشارع، كَمَا قَالَ: ( كل فإنني أُنَاجِي من لَا تناجي) .

وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ يخَاف الافتتان من لَا يلْتَفت إِلَى الأكوان { مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى} ( النَّجْم: 71) وَأجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة خَارِجا عَن طباعه فَأشبه ذَلِك نظره من وَرَائه، فَأَما إِذا رد إِلَى طبعه البشري فَإِنَّهُ يُؤثر فِيهِ مَا يُؤثر فِي الْبشر.

وَمِنْهَا مَا قيل: إِن المراقبة شغلت خلقا من أَتْبَاعه حَتَّى إِنَّه وَقع السّقف إِلَى جَانب مُسلم بن يسَار وَلم يعلم.
وَأجِيب: بِأَن أُولَئِكَ يؤخذون عَن طباعهم فيغيبون عَن وجودهم، وَكَانَ الشَّارِع يسْلك طَرِيق الْخَواص وَغَيرهم، فَإِذا سلك طَرِيق الْخَواص غير الْكل، فَقَالَ: ( لست كأحدكم) ، وَإِذا سلك طَرِيق غَيرهم، قَالَ: ( إِنَّمَا أَنا بشر) ، فَرد إِلَى حَالَة الطَّبْع، فَنزع الخميصة لَيْسَ بِهِ من ترك كل شاغل.

وقالَ هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عَن عائِشَةَ قالَ النَّبيُّ كنْتُ أنْظُرُ إِلَى عَلَمِها وَأَنا فِي الصَّلاَةِ فأخَافُ أنْ تَفْتِنَنِي.

قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا عطف على قَوْله: قَالَ ابْن شهَاب، وَهُوَ من جملَة شُيُوخ إِبْرَاهِيم، وَيحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا.
قلت: هَذَا رَوَاهُ مُسلم فِي ( صَحِيحه) : عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن هِشَام، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبيد اعن معَاذ عَن أَبِيه عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَنهُ، وَرَوَاهُ أَبُو معمر فَقَالَ: عمْرَة عَن عَائِشَة قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَلَعَلَّه غلط مِنْهُ، وَالصَّحِيح: عُرْوَة، وَلم يذكر أَبُو مَسْعُود هَذَا التَّعْلِيق، وَذكره خلف.
قَوْله: ( وَأَنا فِي الصَّلَاة) جملَة حَالية.
قَوْله: ( أَن تفتنني) ، بِفَتْح التَّاء من: فتن يفتن من بابُُ: ضرب يضْرب، وَيجوز أَن تكون بِالْإِدْغَامِ، وَأَن تكون بِضَم التَّاء من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ يُقَال: فتنه وأفتنه، وَأنْكرهُ الْأَصْمَعِي.

وَاعْلَم أَن فِي هَذِه الرِّوَايَة لم يَقع لَهُ شَيْء من الْخَوْف من الإلهاء لِأَنَّهُ قَالَ: ( فَأَخَاف) وَهَذَا مُسْتَقْبل، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا رِوَايَة مَالك: ( فكاد يفتنني) ، فَهَذَا يدل على أَنه لم يَقع، وَالرِّوَايَة الأولى تدل على أَنه قد وَقع لِأَنَّهُ صرح بقوله: ( فَإِنَّهَا ألهتني) والتوفيق بَينهمَا يُمكن بِأَن يُقَال: للنَّبِي حالتان: حَالَة بشرية وَحَالَة تخْتَص بهَا خَارِجَة عَن ذَلِك، فبالنظر إِلَى الْحَالة البشرية قَالَ: ( ألهتني) ، وبالنظر إِلَى الْحَالة الثَّانِيَة لم يجْزم بِهِ، بل قَالَ: ( أَخَاف) ، وَلَا يلْزم من ذَلِك الْوُقُوع.
وَأَيْضًا فِيهِ تَنْبِيه لأمته ليحترزوا عَن مثل ذَلِك فِي صلَاتهم، لِأَن الصَّلَاة الْمُعْتَبرَة أَن يكون فِيهَا خشوع، وَمَا يلهي الْمُصَلِّي يُنَافِي الْخُشُوع والخضوع.