فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل استقبال القبلة

( بابُ فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ)
لما فرغ من بَيَان أَحْكَام ستر الْعَوْرَة بأنواعها شرع فِي بَيَان اسْتِقْبَال الْقبْلَة على التَّرْتِيب، لِأَن الَّذِي يُرِيد الشُّرُوع فِي الصَّلَاة يحْتَاج أَولا إِلَى ستر الْعَوْرَة، ثمَّ إِلَى اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَذكر مَا يتبعهَا من أَحْكَام الْمَسَاجِد.
يَسْتَقْبِلُ بِأطْرَافِ رِجْلَيْهِ قالَهُ أبُو حُمَيْدٍ عنِ النبيِّ.
أَي: يسْتَقْبل الْمُصَلِّي برؤوس أَصَابِع رجلَيْهِ نَحْو الْقبْلَة، هَذَا تَعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل فِي صفة الصَّلَاة، رَوَاهُ أَبُو حميد عَن النَّبِي، وخرجه البُخَارِيّ مُسْندًا فِيمَا بعد فِي بَاب سنة الْجُلُوس فِي التَّشَهُّد، وَجعل هَذِه الْقطعَة تَرْجَمَة لباب آخر فِيمَا بعد، حَيْثُ قَالَ: بَاب يسْتَقْبل الْقبْلَة بأطراف رجلَيْهِ، قَالَ أَبُو حميد عَن النَّبِي، وَاسم أبي حميد: عبد الرَّحْمَن بن سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، قيل: اسْمه الْمُنْذر، غلبت عَلَيْهِ كنيته، مَاتَ فِي آخر زمن مُعَاوِيَة.
فَإِن قلت: مَا مُطَابقَة هَذِه الْقطعَة للتَّرْجَمَة؟ قلت: إِذا عرف فرض الِاسْتِقْبَال وَعرف فَضله عرفت الْمُطَابقَة؛ أما فَرْضه فَهُوَ توجه الْمُصَلِّي بكليته إِلَى الْقبْلَة، وَأما فَضله فَهُوَ استقباله بِجَمِيعِ مَا يُمكن من أَعْضَائِهِ حَتَّى بأطراف أَصَابِع رجلَيْهِ فِي التَّشَهُّد، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ، فَقَالَ: الِاسْتِقْبَال بأطراف أَصَابِع الْقدَم الْقبْلَة عِنْد الْقعُود للتَّشَهُّد، ثمَّ روى حَدِيث عبد ابْن عمر رَضِي اتعالى عَنْهُمَا، قَالَ: من سنة الصَّلَاة أَن تنصب الْقدَم الْيُمْنَى، واستقباله بأصابعها الْقبْلَة وَالْجُلُوس على الْيُسْرَى.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَرَادَ بِذكرِهِ بَيَان مَشْرُوعِيَّة الِاسْتِقْبَال بِجَمِيعِ مَا يُمكن من الْأَعْضَاء.
قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن التَّرْجَمَة فِي فضل الِاسْتِقْبَال لَا فِي مشروعيته، على مَا لَا يخفى.

[ قــ :387 ... غــ :391]
- حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدّثنا ابنُ مَهْدِيَ قَالَ حدّثنا مَنْصُورُ بنُ سَعْدٍ عنْ مَيْمُونِ بنِ سِيَاهٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ قَالَ رسولُ اللَّهِ ( مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وأكَلَ ذَبيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) .
( الحَدِيث 193 طرفاه فِي: 293، 393) .

مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( واستقبل قبلتنا) ، بَيَانه أَنه أفرد بِذكر اسْتِقْبَال الْقبْلَة بعد قَوْله: ( من صلى صَلَاتنَا) مَعَ كَونه دَاخِلا فِيهَا، لِأَنَّهُ من شرائطها، وَذَلِكَ للتّنْبِيه على تَعْظِيم شَأْن الْقبْلَة وَعظم فضل استقبالها، وَهُوَ غير مقتصر على حَالَة الصَّلَاة، بل أَعم من ذَلِك على مَا لَا يخفى.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِالْوَاو: ابْن عَبَّاس، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: أَبُو عُثْمَان الْأَهْوَازِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بن حسان أَبُو سعيد الْبَصْرِيّ اللؤْلُؤِي.
الثَّالِث: مَنْصُور بن سعد، وَهُوَ صَاحب اللؤْلُؤِي الْبَصْرِيّ.
الرَّابِع: مَيْمُون بن سياه، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف هَاء، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ: الْأسود، وَيجوز فِيهِ الصّرْف وَمنعه، أما مَنعه فللعلمية والعجمة، وَأما صرفه فلعدم شَرط الْمَنْع، وَهُوَ أَن يكون علما فِي الْعَجم.
وَلَفظ: سياه، لَيْسَ بِعلم فِي الْعَجم، فَلذَلِك يكون صرفه أولى.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَهُوَ فَارسي، وَقيل: عَرَبِيّ.
قلت: قَوْله: وَقيل عَرَبِيّ، غير صَحِيح لعدم تصرف وُجُوه الِاشْتِقَاق فِيهِ.
الْخَامِس: أنس بن مَالك.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.

ذكر من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان عَن حَفْص بن عمر عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ.

ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ وَإِعْرَابه.
قَوْله: ( من صلى صَلَاتنَا) أَي: صلى كَمَا نصلي، وَلَا يُوجد إلاَّ من معترف بِالتَّوْحِيدِ والنبوة، وَمن اعْترف بنبوة مُحَمَّد فقد اعْترف بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ عَن اتعالى، فَلهَذَا جعل الصَّلَاة علما لإسلامه، وَلم يذكر الشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا داخلتان فِي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا ذكر اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَالصَّلَاة متضمنة لَهُ مَشْرُوطَة بِهِ، لِأَن الْقبْلَة أعرف من الصَّلَاة، فَإِن كل أحد يعرف قبلته وَإِن كَانَ لَا يعرف صلَاته، وَلِأَن من أَعمال صَلَاتنَا مَا هُوَ يُوجد فِي صَلَاة غَيرنَا: كالقيام وَالْقِرَاءَة، واستقبال قبلتنا مَخْصُوص بِنَا، ثمَّ لما ذكر من الْعِبَادَات مَا يُمَيّز الْمُسلم من غَيره أعقبه بِذكر مَا يميزه عَادَة وَعبادَة: فَقَالَ: ( وَأكل ذبيحتنا) ، فَإِن التَّوَقُّف عَن أكل الذَّبَائِح كَمَا هُوَ من الْعَادَات، فَكَذَلِك هُوَ من الْعِبَادَات الثَّابِتَة فِي كل مِلَّة.
قَالَ الطَّيِّبِيّ: وَأَقُول، وَا أعلم، إِذا أجري الْكَلَام على الْيَهُود سهل تعَاطِي عطف الِاسْتِقْبَال على الصَّلَاة بعد الدُّخُول فِيهَا، ويعضده اخْتِصَاص ذكر الذَّبِيحَة، لِأَن الْيَهُود خُصُوصا يمتنعون من أكل ذبيحتنا، وهم الَّذين حِين تحولت الْقبْلَة شنعوا بقَوْلهمْ: { مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} ( الْبَقَرَة: 241) أَي: صلوا صَلَاتنَا وَتركُوا الْمُنَازعَة فِي أَمر الْقبْلَة والامتناع عَن أكل الذَّبِيحَة، لِأَنَّهُ من بابُُ عطف الْخَاص على الْعَام، فَلَمَّا ذكر الصَّلَاة عطف مَا كَانَ الْكَلَام فِيهِ وَمَا هُوَ مهتم بِشَأْنِهِ عَلَيْهَا، كَمَا أَنه يجب عَلَيْهِم أَيْضا عِنْد الدُّخُول فِي الْإِسْلَام أَن يقرُّوا بِبُطْلَان مَا يخالفون بِهِ الْمُسلمين فِي الِاعْتِقَاد بعد إقرارهم بِالشَّهَادَتَيْنِ.

قَوْله: ( صَلَاتنَا) ، مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، وَهُوَ فِي نفس الْأَمر صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: من صلى صَلَاة كصلاتنا، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: ( فَذَلِك الْمُسلم) ، جَوَاب الشَّرْط، وَذَلِكَ، مُبْتَدأ وَخَبره: الْمُسلم، وَقَوله: ( الَّذِي) صفته، وَقَوله: ( ذمَّة ا) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره.
هُوَ قَوْله: لَهُ، وَالْجُمْلَة صلَة الْمَوْصُول.
قَوْله: ( ذمَّة ا) ، الذِّمَّة: الْأمان والعهد، وَمَعْنَاهُ فِي أَمَان اوضمانه، وَيجوز أَن يُرَاد بهَا الذمام وَهُوَ الْحُرْمَة.
وَيُقَال: الذِّمَّة الْحُرْمَة أَيْضا.
قَالَ الْقَزاز: الذمام كل حُرْمَة تلزمك مِنْهَا مذمة، تَقول: ألزمني لفُلَان ذمام وَذمَّة ومذمة، هَذَا بِكَسْر الذَّال، وَكَذَا لزمتني لَهُ ذمَامَة، مَفْتُوح الأول.
وَفِي ( الْمُحكم) : الذمام والمذمة: الْحق، وَالْجمع: أذمة، والذمة: الْعَهْد وَالْكَفَالَة، وَالْجمع: ذمم، وَفِي ( الغريبين) : قَالَ ابْن عَرَفَة: الذِّمَّة الضَّمَان وَبِه سمي أهل الذِّمَّة لدخولهم فِي ضَمَان الْمُسلمين.
قَالَ الْأَزْهَرِي فِي قَوْله تَعَالَى: { إلاًّ وَلَا ذمَّة} أَي: وَلَا أَمَانًا.
قَوْله: ( فَلَا تخفروا ا) ، قَالَ ثَعْلَب فِي ( فصيحه) : خفرت الرجل إِذا أجرته وأخفرته إِذا نقضت عَهده.
.

     وَقَالَ  كرَاع فِي ( الْمُجَرّد) وَابْن القطاع فِي كتاب ( الْأَفْعَال) أخفرته بعثت مَعَه خفيراً،.

     وَقَالَ  الْقَزاز، خفر فلَان بفلان وأخفره إِذا غدر بِهِ،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: خفره خفراً وخفراً وأخفره: نقض عَهده وغدره، وأخفر الذِّمَّة: لم يَفِ بهَا.
قلت: لَا تخفروا، بِضَم التَّاء من الإخفار، والهمزة فِيهِ للسلب، أَي: لسلب الْفَاعِل عَن الْمَفْعُول أصل الْفِعْل نَحْو أشكيته، أَي: أزلت شكايته، وَكَذَلِكَ: أخفرته، أَي: أزلت خفارته.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: فَلَا تخفروا ا، مَعْنَاهُ: وَلَا تخونوا افي تَضْييع حق من هَذَا سَبيله، وَإِنَّمَا اكْتفى فِي النَّهْي بِذِمَّة اوحده، وَلم يذكر الرَّسُول كَمَا ذكر أَولا، لِأَنَّهُ ذكر الأَصْل لحُصُول الْمَقْصُود بِهِ ولاستلزامه عدم إخفاره ذمَّة الرَّسُول، وَأما ذكره أَولا فللتأكيد وَتَحْقِيق عصمته مُطلقًا، وَالضَّمِير فِي ذمَّته يرجع إِلَى الْمُسلم أَو إِلَى اتعالى، فَافْهَم.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: أَن أُمُور النَّاس مَحْمُولَة على الظَّاهِر دون بَاطِنهَا، فَمن أظهر شَعَائِر الدّين أجريت عَلَيْهِ أَحْكَام أَهله مَا لم يظْهر مِنْهُ خلاف ذَلِك، فَإِذا دخل رجل غَرِيب فِي بلد من بِلَاد الْمُسلمين بدين أَو مَذْهَب فِي الْبَاطِن غير أَنه عَلَيْهِ زِيّ الْمُسلمين حمل على ظَاهر أمره على أَنه مُسلم حَتَّى يظْهر خلاف ذَلِك.
وَفِيه: مَا يدل على تَعْظِيم شان الْقبْلَة، وَهِي من فَرَائض الصَّلَاة، وَالصَّلَاة أعظم قربات الدّين، وَمن ترك الْقبْلَة مُتَعَمدا فَلَا صَلَاة لَهُ، وَمن لَا صَلَاة لَهُ فَلَا دين لَهُ.
وَفِيه: أَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة شَرط للصَّلَاة مُطلقًا، إلاَّ فِي حَالَة الْخَوْف، ثمَّ من كَانَ بِمَكَّة شرفها اتعالى فالفرض فِي حَقه إِصَابَة عينهَا سَوَاء كَانَ بَين الْمُصَلِّي وَبَين الْكَعْبَة حَائِل بجدار أَو لم يكن، حَتَّى لَو اجْتهد وَصلى فَبَان خَطؤُهُ، فَقَالَ الرَّازِيّ: يُعِيد، وَنقل ابْن رستم عَن مُحَمَّد بن الْحسن: لَا يُعِيد إِذا بَان خَطؤُهُ بِمَكَّة أَو بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَهُوَ الأقيس لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وَسعه، وَذكر أَبُو الْبَقَاء أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وضع محراب رَسُول الله مسامت الْكَعْبَة، وَقيل: كَانَ ذَلِك بالمعاينة، بِأَن كشف الْحَال وأزيلت الحوائل، فَرَأى رَسُول الله الْكَعْبَة فَوضع قبْلَة مَسْجده عَلَيْهَا، وَأما من كَانَ غَائِبا عَن الْكَعْبَة ففرضه جِهَة الْكَعْبَة لَا عينهَا، وَهُوَ قَول الْكَرْخِي وَأبي بكر الرَّازِيّ وَعَامة مَشَايِخ الْحَنَفِيَّة.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبد االجرجاني، شيخ أبي الْحسن الْقَدُورِيّ الْفَرْض إِصَابَة عينهَا فِي حق الْحَاضِر وَالْغَائِب، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي.
قَالَ النوووي: الصَّحِيح عَن الشَّافِعِي فرض الْمُجْتَهد مطلوبية عينهَا.
وَفِي تعلم أَدِلَّة الْقبْلَة ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه فرض كِفَايَة.
الثَّانِي: فرض عين وَلَا يَصح.
الثَّالِث: فرض كِفَايَة إلاَّ أَن يُرِيد سفرا.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ فِي ( الْمعرفَة) : وَالَّذِي رُوِيَ مَرْفُوعا: ( الْكَعْبَة قبْلَة من يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَالْمَسْجِد الْحَرَام قبْلَة أهل مَكَّة مِمَّن يُصَلِّي فِي بَيته أَو فِي الْبَطْحَاء، وَمَكَّة قبْلَة أهل الْحرم، وَالْحرم قبْلَة لأهل الْآفَاق) .
فَهُوَ حَدِيث ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ.
وَفِيه: أَن من جملَة الشواهد بِحَال الْمُسلم أكل ذَبِيحَة الْمُسلمين، وَذَلِكَ أَن طوائف من الكتابيين والوثنيين يتحرجون من أكل ذَبَائِح الْمُسلمين، والوثني الَّذِي يعبد الوثن أَي الصَّنَم.





[ قــ :388 ... غــ :39]
- حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ قَالَ حدّثنا ابنُ المبارَك عِنْ حُمَيْدِ الطَّوِيل عنْ أنسَ بن مالكٍ قَالَ قَالَ رَسُول الله أَمرتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولوا لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فإِذَا قالُوها وصَلَّوْا صَلاَتَنا واسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَليْنا دِماؤُهُمْ وأمْوالُهُمْ إلاَّ بِحَقِّها وحسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ.
.

حَدِيث أنس هَذَا أخرجه البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبابُُ من ثَلَاثَة أوجه.
الأول: مُسْند عَن عَمْرو بن عَبَّاس الخ، وَقد مر.
وَالثَّانِي: فِيهِ خلاف بَين الروَاة من أَرْبَعَة أوجه.
الأول: حَدثهُ البُخَارِيّ عَن نعيم بن حَمَّاد الْخُزَاعِيّ، ونعيم خرجه مُعَلّقا من حَيْثُ قَالَ: قَالَ ابْن الْمُبَارك، وَهُوَ عبد ابْن الْمُبَارك، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُور فِي نسختنا.
الثَّانِي: قَالَ ابْن شَاكر رَاوِي البُخَارِيّ عَنهُ: قَالَ نعيم بن حَمَّاد: فَالْبُخَارِي علقه.
وَالثَّالِث: رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، قَالَ ابْن الْمُبَارك بِغَيْر ذكر نعيم: فَالْبُخَارِي أَيْضا علقه.
وَالرَّابِع: وَقع مُسْندًا حَيْثُ قَالَ فِي بعض النّسخ: حدّثنا نعيم حدّثنا ابْن الْمُبَارك ... الخ.
وَالثَّالِث من الْأَوْجه: الَّتِي ذكرهَا البُخَارِيّ: مُعَلّق مَوْقُوف على مَا يَأْتِي عَن قريب.

وَأخرج أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث فِي الْجِهَاد وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن سعيد بن يَعْقُوب عَن ابْن الْمُبَارك.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك.

قَوْله: ( أمرت) أَي: أَمرنِي اتعالى، وَإِنَّمَا طوى ذكر الْفَاعِل لشهرته ولتعظيمه.
قَوْله: ( أَن أقَاتل النَّاس) أَي: بِأَن أقَاتل، وكملة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَأَرَادَ بِالنَّاسِ: الْمُشْركين.
قَوْله: ( حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إلاَّ ا) ، إِنَّمَا اكْتفى بِذكر هَذَا الشَّرْط من غير انضمام: مُحَمَّد رَسُول ا، لِأَنَّهُ عبر على طَرِيق الْكِنَايَة عَن الْإِقْرَار برسالته بِالصَّلَاةِ والاستقبال وَالذّبْح، لِأَن هَذِه الثَّلَاثَة من خَواص دينه، لِأَن الْقَائِلين: لَا إِلَه إِلَّا ا، كاليهود فصلاتهم بِدُونِ الرُّكُوع، وقبلتهم غير الْكَعْبَة، وذبيحتهم لَيست كذبيحتنا.
وَقد يُجَاب بِأَن هَذَا الشَّرْط الأول من كلمة الشَّهَادَة شعار لمجموعها، كَمَا يُقَال قَرَأت: { ألم ذَلِك الْكتاب} ( الْبَقَرَة: 1 ) وَالْمرَاد كل السُّورَة، لَا يُقَال: فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى الْأُمُور الثَّلَاثَة، لِأَن مُجَرّد هَذِه الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ شعار الْإِسْلَام مُحرمَة للدماء وَالْأَمْوَال، لأَنا نقُول: الْغَرَض مِنْهُ بَيَان تَحْقِيق القَوْل بِالْفِعْلِ وتأكيد أمره، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا قالوها وحققوا مَعْنَاهَا بموافقة الْفِعْل لَهَا فَتكون مُحرمَة.
وَأما تَخْصِيص هَذِه الثَّلَاثَة من بَين سَائِر الْأَركان وواجبات الدّين فلكونها أظهرها وَأَعْظَمهَا وأسرعها علما بهَا، إِذْ فِي الْيَوْم الأول من الملاقاة مَعَ الشَّخْص يعلم صلَاته وَطَعَامه، غَالِبا، بِخِلَاف نَحْو الصَّوْم فَإِنَّهُ لَا يظْهر الامتياز بَيْننَا وَبينهمْ بِهِ وَنَحْو الْحَج فَإِنَّهُ قد يتَأَخَّر إِلَى شهور وسنين، وَقد لَا يجب عَلَيْهِ أصلا.
قَوْله: ( وذبحوا ذبيحتنا) أَي: ذَبَحُوا الْمَذْبُوح مثل مذبوحنا، والذبيحة على وزن: فعيلة بِمَعْنى: الْمَذْبُوح.
فَإِن قلت: فعيل: إِذا كَانَ بِمَعْنى الْمَفْعُول يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث فَلَا تدخله التَّاء.
قلت: لما زَالَ عَنهُ معنى الوصفية وغلبت الإسمية عَلَيْهِ واستوى فِيهِ الْمُذكر والمؤنث فدخله التَّاء، وَقد يُقَال: إِن الاسْتوَاء فِيهِ عِنْد ذكر الْمَوْصُوف مَعَه، وَأما إِذا انْفَرد عَنهُ فَلَا.
قَوْله: ( إِلَّا بِحَقِّهَا) .
أَي: إلاَّ بِحَق الدِّمَاء وَالْأَمْوَال، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: ( فَإِذا فعلوا ذَلِك عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إلاَّ بِحَق الْإِسْلَام) .
قَوْله: ( وحسابهم على ا) ، على سَبِيل التَّشْبِيه أَي: هُوَ كالواجب على افي تحقق الْوُقُوع، وإلاَّ فَلَا يجب على اشيء، وَكَانَ الأَصْل فِيهِ أَن يُقَال: وحسابهم أَو إِلَى ا، وَقد مر تَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا الْبابُُ مُسْتَوفى فِي بابُُ { فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} ( التَّوْبَة: 5، 11) .

وقالَ عَلِيُّ بنُ عبْدِ اللَّهِ حدّثنا خالِدُ بنُ الْحَارِثِ قَالَ حدّثنا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلَ مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ أنَسَ بْنَ مالِكٍ قَالَ يَا أَبَا حَمْزَةَ وَمَا يُحَرِّمُ دَمَ الْعَبْدِ ومالَهُ فَقَالَ مَنْ شَهِدَ أنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلاَتَنا وأكَلَ ذَبِيحَتَنا فَهْوَ الْمُسْلِمُ لهُ مَا لِلْمُسْلِمِ وعلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ.

هَذَا مُعَلّق وَمَوْقُوف أما التَّعْلِيق فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ عَليّ بن عبد اهو ابْن الْمَدِينِيّ.
وفاعل قَالَ الأول: هُوَ: البُخَارِيّ، وفاعل قَالَ الثَّانِي: ظَاهر وَهُوَ شَيْخه عَليّ بن الْمَدِينِيّ.
وَأما الْوَقْف فَإِن أنسا لم يرفعهُ.
قَوْله: ( يَا با حَمْزَة) أَصله: يَا أَبَا حَمْزَة، فحذفت الْهمزَة للتَّخْفِيف، وَأَبُو حَمْزَة كنية أنس.
قَوْله: ( وَمَا يحرم؟) ، بِالتَّشْدِيدِ من التَّحْرِيم، وَكلمَة: مَا، استفهامية.
فَإِن قلت: و: مَا يحرم، عطف على: مَاذَا؟ قلت: على شَيْء مَحْذُوف كَأَنَّهُ سَأَلَ عَن شَيْء قبل هَذَا، ثمَّ قَالَ: وَمَا يحرم، وَلم تقع: الْوَاو، فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: الْوَاو استئنافية.
قلت: الِاسْتِئْنَاف كَلَام مُبْتَدأ فعلى هَذَا لَا يبْقى مقول لقَالَ، فَيحْتَاج إِلَى تَقْدِير.
فَإِن قلت: الْجَواب: يَنْبَغِي أَن يكون مطابقاً للسؤال، وَالسُّؤَال هُنَا عَن سَبَب التَّحْرِيم، فَالْجَوَاب كَيفَ يطابقه؟ قلت: الْمُطَابقَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله: من شهد، الخ هُوَ الْجَواب وَزِيَادَة، لِأَنَّهُ لما ذكر الشَّهَادَة وَمَا عطف عَلَيْهَا علم أَن الَّذِي يفعل هَذَا هُوَ الْمُسلم، وَالْمُسلم يحرم دَمه وَمَاله إِلَّا بِحقِّهِ.
قَوْله: ( لَهُ) أَي: من النَّفْع، و: ( عَلَيْهِ) أَي: من الْمضرَّة، والتقديم يُفِيد الْحصْر أَي: لَهُ ذَلِك لَا لغيره.

( 393) قَالَ ابنُ أبي مَرْيَمَ أخْبَرَنَا يَحْيَى قالَ حدّثنا حُمَيْدٌ قالَ حدّثنا أنَسٌ عنِ النبيِّ.

هَذَا أَيْضا مُعَلّق رَوَاهُ ابْن أبي مَرْيَم، وَهُوَ سعيد بن الحكم الْمصْرِيّ عَن يحيى بن أَيُّوب الغافقي الْمصْرِيّ عَن حميد الطَّوِيل عَن أنس بن مَالك، وَقد وَصله أَبُو نعيم: حدّثنا أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ حدّثنا، إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حدّثنا إِبْرَاهِيم بن هانىء حدّثنا عَمْرو بن الرّبيع ( ح) وحدّثنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد حدّثنا أَبُو عرُوبَة حدّثنا عمر بن الْخطاب حدّثنا ابْن أبي مَرْيَم، قَالَا: حدّثنا يحيى بن أَيُّوب أَخْبرنِي حميد سمع أنسا ... فَذكره، وَفِي هَذَا فَائِدَة وَهِي: تَصْرِيح حميد بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من أنس، وَلَكِن طعن فِيهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ.

     وَقَالَ : الحَدِيث حَدِيث مَيْمُون وَإِنَّمَا سَمعه حميد مِنْهُ، وَلَا يحْتَج بِيَحْيَى بن أَيُّوب فِي قَوْله: عَن حميد حدّثنا أنس قَالَ، وَيدل على ذَلِك مَا أخبرنَا يحيى بن مُحَمَّد بن البحتري حدّثنا عبيد ابْن معَاذ حدّثنا أبي عَن حميد عَن مَيْمُون، قَالَ: ( سَأَلت أنسا مَا يحرم مَال الْمُسلم وَدَمه؟) الحَدِيث
قلت: رِوَايَة معَاذ لَا دَلِيل فِيهَا على أَن حميدا لم يسمعهُ من أنس، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون سَمعه من أنس ثمَّ استثبت فِيهِ عَن مَيْمُون، فَكَأَنَّهُ تَارَة يحدث بِهِ عَن أنس لأجل الْعُلُوّ، وَتارَة عَن مَيْمُون للاستثبات، وَقد جرت عَادَة حميد وَغَيره بِهَذِهِ الطَّرِيقَة.
فَإِن قلت: جَاءَ عَن أبي هُرَيْرَة: ( أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا ا، فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا) .
وَجَاء عَن ابْن عمر: ( أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا اويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة، فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ) ، وَجَاء عَن أنس الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبابُُ، فَمَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات الثَّلَاث؟ قلت: إِنَّمَا اخْتلفت هَذِه الْأَلْفَاظ فزادت ونقصت لاخْتِلَاف الْأَحْوَال والأوقات الَّتِي وَقعت هَذِه الْأَقْوَال فِيهَا، وَكَانَت أُمُور الشَّرِيعَة تشرع شَيْئا فَشَيْئًا فَخرج كل قَول فِيهَا على شَرط الْمَفْرُوض فِي حِينه، فَصَارَ كل مِنْهَا فِي زَمَانه شرطا لحقن الدَّم وَحُرْمَة المَال، وَلَا مُنَافَاة بَين الرِّوَايَات وَلَا اخْتِلَاف.