فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قبلة أهل المدينة وأهل الشأم والمشرق «

( بابُُ قِبْلَةِ أهْلِ المَدِينةِ وأهْلِ الشَّأَمِ والمَشْرِقِ لَيْسَ فِي المَشْرِقِ ولاَ فِي المَغْرِبِ قِبْلَة)

هَذَا الْموضع يحْتَاج إِلَى تَحْرِير قوي، فَإِن أَكثر من تصدى لشرحه لم يغنِ شَيْئا بل بَعضهم ركب البعاد وخرط القتاد، فَنَقُول، وبا التَّوْفِيق: إِن قَوْله: بابُُ، إِمَّا أَن يُضَاف إِلَى مَا بعده أَو يقطع عَنهُ، وَإِن لَفْظَة: قبْلَة، بعد قَوْله: وَلَا فِي الْمغرب، إِمَّا أَن تكون مَوْجُودَة أَو لَا، وَلكُل وَاحِد من ذَلِك وَجه.

فَفِي الْقطع وَعدم وجود لَفْظَة: قبْلَة، يكون لَفْظَة.
بابُُ، منوناً على تَقْدِير: هَذَا بابُُ.
وَيجوز أَن يكون سَاكِنا مثل تعداد الْأَسْمَاء لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بِالْعقدِ والتركيب، وَيكون قَوْله: قبْلَة أهل الْمَدِينَة، الَّذِي هُوَ كَلَام إضافي مُبْتَدأ، أَو، قَوْله: وَأهل الشَّام، بِالْجَرِّ عطفا على الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله: والمشرق، بِالْجَرِّ.
وَقَوله: لَيْسَ فِي الْمشرق، خبر الْمُبْتَدَأ.
وَلَكِن لَا بُد فِيهِ من تقديرين: أَحدهمَا: أَن يقدر لفظ: قبْلَة، الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأ بِلَفْظ: مُسْتَقْبل أهل الشَّام، لوُجُوب التطابق بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر فِي التَّذْكِير والتأنيث.
وَالثَّانِي: أَن يؤول لفظ: الْمشرق، بالتشريق، وَلَفظ: الْمغرب، بالتغريب، وَالْعرب تطلق الْمشرق وَالْمغْرب لِمَعْنى التَّشْرِيق والتغريب، قَالَه ثَعْلَب وَأنْشد.

أبعد مغربهم بَغْدَاد ساحتها
وَقَالَ ثَعْلَب: مَعْنَاهُ أبعد تغريبهم؟ فَإِن قلت: لم لم يذكر: الْمغرب، بعد قَوْله: والمشرق، مَعَ أَن الْعلَّة فيهمَا مُشْتَركَة؟ قلت: اكْتفى بذلك عَنهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { سرابيل تقيكم الْحر} ( النَّحْل: 18) أَي: وَالْبرد، وَأما تَخْصِيص الْمشرق فَلِأَن أَكثر بِلَاد الْإِسْلَام فِي جِهَة الْمشرق.

وَأما فِي الْإِضَافَة، وَتَقْدِير وجود لفظ: قبْلَة، بعد قَوْله: وَلَا فِي الْمغرب، فتقديره؛ هَذَا بابُُ فِي بَيَان قبْلَة أهل الْمَدِينَة وقبلة أهل الشَّام وقبلة أهل الْمشرق، ثمَّ بَين ذَلِك بِالْجُمْلَةِ الاستئنافية، وَهِي قَوْله: لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب قبْلَة، وَلِهَذَا ترك العاطف، وَالْجُمْلَة الاستئنافية فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، وَهُوَ أَنه: لما قَالَ: بابُُ قبْلَة أهل الْمَدِينَة وَأهل الشَّام والمشرق، انتصب سَائل فَقَالَ: كَيفَ قبْلَة هَذِه الْمَوَاضِع؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب قبْلَة.
.

     وَقَالَ  السفاقسي: يُرِيد أَن قبْلَة هَؤُلَاءِ الْمُسلمين لَيست فِي الْمشرق مِنْهُم وَلَا فِي الْمغرب، بِدَلِيل أَن النَّبِي، أَبَاحَ لَهُم قَضَاء الْحَاجة فِي جِهَة الْمشرق مِنْهُم وَالْمغْرب.
قلت: مَعْنَاهُ: الْقبْلَة مَا بَينهمَا، لما روى التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ النَّبِي: ( مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة) .
ثمَّ قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي: مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة، مِنْهُم عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس،.

     وَقَالَ  ابْن عمر: ( إِذا جعلت الْمغرب عَن يَمِينك والمشرق عَن يسارك فَمَا بَينهمَا قبْلَة إِذا اسْتقْبلت الْقبْلَة) وَقَوله: ( مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة) ، لَيْسَ عَاما فِي سَائِر الْبِلَاد، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة، وَمَا وَافق قبلتها،.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ فِي ( الخلافيات) : وَالْمرَاد، وَا أعلم، أهل الْمَدِينَة.
وَمن كَانَت قبلته على سمت أهل الْمَدِينَة.
.

     وَقَالَ  أَحْمد بن خَالِد الذَّهَبِيّ: قَول عمر بن الْخطاب، رَضِي اتعالى عَنهُ: مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة، قَالَه بِالْمَدِينَةِ، فَمن كَانَت قبلته مثل قبْلَة الْمَدِينَة فَهُوَ من سَعَة مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، ولسائر الْبلدَانِ من السعَة فِي الْقبْلَة مثل ذَلِك بَين الْجنُوب وَالشمَال، وَنَحْو ذَلِك؛.

     وَقَالَ  ابْن بطال: تَفْسِير هَذِه التَّرْجَمَة يَعْنِي: وقبلة مشرق الأَرْض كلهَا إلاَّ مَا قَابل مشرق مَكَّة من الْبِلَاد الَّتِي تكون تَحت الْخط الْمَار عَلَيْهَا من الْمشرق إِلَى الْمغرب، فَحكم مشرق الأَرْض كلهَا كَحكم مشرق أهل الْمَدِينَة وَالشَّام فِي الْأَمر بالانحراف عِنْد الْغَائِط، لأَنهم إِذا شرقوا أَو غربوا لم يستقبلوا الْقبْلَة وَلم يستدبروها.
قَالَ: وَأما مَا قَابل مشرق مَكَّة من الْبِلَاد الَّتِي تكون تَحت الْخط الْمَار عَلَيْهَا من مشرقها، إِلَى مغْرِبهَا فَلَا يجوز لَهُم اسْتِعْمَال هَذَا الحَدِيث، وَلَا يَصح لَهُم أَن يشرقوا.
وَلَا أَن يغربوا لأَنهم إِذا شرقوا استدبروا الْقبْلَة، وَإِذا غربوا استقبلوها، وَكَذَلِكَ من كَانَ موازياً بمغرب مَكَّة إِن غرب استدبر الْقبْلَة، وَإِن شَرق اسْتَقْبلهَا، وَإِنَّمَا ينحرف إِلَى الْجنُوب أَو الشمَال، فَهَذَا هُوَ تغريبه وتشريقه.

قَالَ: وَتَقْدِير التَّرْجَمَة: بابُُ قبْلَة أهل الْمَدِينَة وَأهل الشَّام والمشرق وَالْمغْرب لَيْسَ فِي التَّشْرِيق وَلَا فِي التَّغْرِيب يَعْنِي أَنهم عِنْد الانحراف للتشريق والتغريب لَيْسُوا مواجهين للْقبْلَة وَلَا مستدبرين لَهَا.

لقوْلِ النَّبيِّ ( لاَ تسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ بِغَائِطٍ أوْ بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا) .
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ النَّسَائِيّ مَوْصُولا.
فَقَالَ: أخبرنَا مَنْصُور، قَالَ: حدّثنا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَن النَّبِي، قَالَ: ( لَا تستقبلوا الْقبْلَة بغائط وَلَا بَوْل وَلَكِن شرقوا أَو غربوا) .
وَاحْتج البُخَارِيّ بِعُمُوم هَذَا الحَدِيث، وَسوى بَين الصَّحَارِي والأبنية، وَجعله دَلِيلا للتَّرْجَمَة الَّتِي وَضعهَا، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن فِي نفس حَدِيثه الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد فِي ( سنَنه) وَالْبُخَارِيّ أَيْضا على مَا يَجِيء الْآن، مَا يدل على عكس مَا أَرَادَهُ وَذَلِكَ أَن أَبَا أَيُّوب رَضِي اتعالى عَنهُ، قَالَ فِي حَدِيثه، ( فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد بنيت نَحْو الْكَعْبَة، لَكنا ننحرف عَنْهَا، ونستغفر اعز وَجل) .
قلت: لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا أصلا لِأَن الْمَنْع لأجل تَعْظِيم الْقبْلَة وَهُوَ مَوْجُود فِي الصَّحرَاء والبنيان، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو أَيُّوب: ( لَكنا ننحرف عَنْهَا ونستغفر اعز وَجل) ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، وَذهب الشَّافِعِي وَمَالك إِلَى أَنه يحرم اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الصَّحرَاء بالبول وَالْغَائِط، وَلَا يحرم ذَلِك فِي الْبُنيان، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْوضُوء.



[ قــ :389 ... غــ :394]
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا سُفْيانُ قَالَ حدّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ عَطاءِ بنِ يَزِيدَ عنْ أبي أيُّوب الأَنْصارِيِّ أنَّ النبيَّ قَالَ: ( إِذَا أَتَيْتُمُ الْغائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبلوا القِبْلَةَ ولاَ تَسْتَدْبِرُوها ولَكنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا) قَالَ أبُو أيُّوبَ فَقَدِمْنا الشَّأَمَ فَوَجَدْنا مَراحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ القِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى.
( انْظُر الحَدِيث 441) .


مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( شرقوا أَو غربوا) لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب قبْلَة، فَإِذا لم تكن فيهمَا قبْلَة يتَوَجَّه المستنجي إِلَيْهَا إِمَّا يشرق وَإِمَّا يغرب.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: عَليّ بن عبد االمديني، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَاسم أبي أَيُّوب خَالِد بن زيد رَضِي اتعالى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه مُسلم فِيهَا عَن يحيى بن يحيى وَزُهَيْر وَابْن نمير، وَأَبُو دَاوُد فِيهَا أَيْضا عَن مُسَدّد، وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، خمستهم عَن سُفْيَان بِهِ، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَابْن مَاجَه كَذَلِك عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ نَحوه.

ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: ( الْغَائِط) ، اسْم للْأَرْض المطمئنة لقَضَاء الْحَاجة.
قَوْله: ( فقدمنا الشَّام) ، وَهُوَ إقليم مَشْهُور يذكر وَيُؤَنث، وَيُقَال مهموزاً ومسهلاً، وَسميت بسام بن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ أول من نزلها، فَجعلت السِّين شيناً مُعْجمَة تغييراً للفظ الأعجمي، وَقيل: سميت بذلك لِكَثْرَة قراها وتداني بَعْضهَا من بعض فشبهت بالشامات.
قَوْله: ( مراحيض) ، بِفَتْح الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: جمع مرحاض، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ الْبَيْت الْمُتَّخذ لقَضَاء حَاجَة الْإِنْسَان، أَي: التغوط، قَوْله: ( قبل الْكَعْبَة) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، أَي: مقابلها.
قَوْله: ( فننحرف) أَي: عَن جِهَة الْقبْلَة من الانحراف.
ويروى: ( فنتحرف) من التحرف.
قَوْله: ( ونستغفر اتعالى) ، قيل: نَسْتَغْفِر الْمَنّ بناها فَإِن الاسْتِغْفَار للمذنبين سنة.
وَقيل: نَسْتَغْفِر امن الِاسْتِقْبَال، وَقيل: نَسْتَغْفِر امن ذنُوبه.
وَيُقَال: لَعَلَّ أَبَا أَيُّوب لم يبلغهُ حَدِيث ابْن عمر فِي ذَلِك وَلم يره مُخَصّصا.
وَحمل مَا رَوَاهُ على الْعُمُوم، وَهَذَا الاسْتِغْفَار لنَفسِهِ لَا للنَّاس على هَذِه الْهَيْئَة.
فَإِن قلت: الغالط والساهي لم يفعل إِثْمًا فَلَا حَاجَة فِيهِ إِلَى الاسْتِغْفَار.
قلت: أهل الْوَرع والمناصب الْعلية فِي التَّقْوَى قد يَفْعَلُونَ مثل هَذَا بِنَاء على نسبتهم التَّقْصِير إِلَى أنفسهم فِي التحفظ ابْتِدَاء، وَقد مر مَا يستنبط مِنْهُ فِيمَا مضى فِي كتاب الْوضُوء.

وعنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عَطاءٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أيُّوبَ عنِ النبيِّ مِثْلَهُ.

قَوْله: ( وَعَن الزُّهْرِيّ) عطف على قَوْله: ( حدّثنا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ) يَعْنِي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد الْمَذْكُور، سَمِعت أَبَا أَيُّوب.
وَفَائِدَة ذكره مكرراً أَن فِي الطّرق الأول عنعن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء عَن أبي أَيُّوب، وَفِي هَذَا الطَّرِيق صرح عَطاء بِالسَّمَاعِ عَن أبي أَيُّوب، وَالسَّمَاع أقوى من العنعنة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: السماع أقوى من العنعنة.
وَهِي أقوى من أَن، لَكِن فِيهِ ضعف من جِهَة التَّعْلِيق عَن الزُّهْرِيّ.
قلت: الظَّاهِر مَعَ الْكرْمَانِي، وَلَكِن الحَدِيث بِهَذَا الطَّرِيق مُسْندًا فِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن سُفْيَان.
إِلَى آخِره.
وَا أعلم.