فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب التوجه نحو القبلة حيث كان

( بابُُ التَّوَجُّهِ نَحْوَ القِبْلَةِ حَيْث كانَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان التَّوَجُّه إِلَى جِهَة الْقبْلَة حَيْثُ كَانَ الْمُصَلِّي، أَي: حَيْثُ وجد فِي سفر أَو حضر، وَكَانَ، تَامَّة فَلذَلِك: اقْتصر على اسْمه، وَالْمرَاد بِهِ: فِي صَلَاة الْفَرِيضَة، وَذَلِكَ لقَوْله تَعَالَى: { وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} ( الْبَقَرَة: 441، 051) .

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ ظَاهِرَة.

وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَكَبِّرْ) .

هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة الْمُسِيء فِي صلَاته، سَاقه البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ فِي كتاب الاسْتِئْذَان.



[ قــ :393 ... غــ :399]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَجاءٍ قَالَ حدّثنا إسْرَائِيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ رَضِي اعنهما قَالَ كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّة عَشَرَ أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْراً وكانَ رسولُ اللَّهِ يُحِبُّ أنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعبَةِ فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ قدْ نَرَى تقَلَبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكعْبَةِ.

     وَقَالَ  السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ اليَهُودُ مَا وَلاَّهُمْ عنْ قِبْلَتِهمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَصَلَّى مَعَ النبيِّ رَجلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَما صَلَّى فَمَرَّ عَلى قَوْمٍ مِنَ الأنْصارِ فِي صَلاَةِ العَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ فقالَ هُوَ يَشْهَدُ أنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسولِ اللَّهِ وَأنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ القَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الكَعْبَةِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَتوجه نَحْو الْكَعْبَة الَّتِي اسْتَقَرَّتْ قبْلَة أبدا) فِي أَي حَالَة كَانَ الْمُصَلِّي صَلَاة الْفَرْض.

ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد ابْن رَجَاء، بتَخْفِيف الْجِيم: الغداني، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة.
الثَّانِي: إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق.
الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، جد إِسْرَائِيل واسْمه: عَمْرو بن عبد االكوفي.
الرَّابِع: الْبَراء بن عَازِب رَضِي اتعالى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بابُُ الصَّلَاة من الْإِيمَان عَن عَمْرو بن خَالِد عَن زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء، وَأخرجه فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن أبي نعيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن يحيى عَن وَكِيع.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَأبي بكر بن خَلاد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَقد ذكرنَا جَمِيع ذَلِك فِي بابُُ الصَّلَاة من الْإِيمَان.

ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: ( صلى نَحْو بَيت الْمُقَدّس) أَي: بِالْمَدِينَةِ، صلى جِهَة بَيت الْمُقَدّس ( سِتَّة عشر شهرا أَو سَبْعَة عشر شهرا) فالشك من الْبَراء، وَكَذَا وَقع الشَّك عِنْد البُخَارِيّ فِي رِوَايَة زُهَيْر وَأبي نعيم، وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي ( صَحِيحه) : من رِوَايَة أبي نعيم، فَقَالَ: سِتَّة عشر، من غير شكّ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم رِوَايَة الْأَحْوَص، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة.
وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ، عَن ابْن عَبَّاس: سَبْعَة عشر، وَنَصّ النَّوَوِيّ على صِحَة سِتَّة عشر، وَالْقَاضِي على صِحَة سَبْعَة عشر وَهُوَ قَول أبي إِسْحَاق وَابْن الْمسيب وَمَالك بن أنس؛ وَالْجمع بَينهمَا أَن من جزم بِسِتَّة عشر أَخذ من شهر الْقدوم وَشهر التَّحْوِيل شهرا، وألغى الْأَيَّام الزَّائِدَة فِيهِ، وَمن جزم بسبعة عشر عدهما مَعًا، وَمن شكّ تردد فيهمَا، وَذَلِكَ أَن قدوم النَّبِي الْمَدِينَة كَانَ فِي شهر ربيع الأول بِلَا خلاف، وَكَانَ التَّحْوِيل فِي نصف شهر رَجَب فِي السّنة الثَّانِيَة على الصَّحِيح، وَبِه جزم الْجُمْهُور.

وَجَاءَت فِيهِ رِوَايَات أُخْرَى: فَفِي ( سنَن) أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه: ثَمَانِيَة عشر شهرا، وَحكى الْمُحب الطَّبَرِيّ: ثَلَاثَة عشر شهرا، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى سنتَيْن، وَأغْرب مِنْهُمَا: تِسْعَة أشهر، وَعشرَة أشهر، وهما شَاذان.
قَوْله: ( أَن يُوَجه) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( وَصلى مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رجل) واسْمه: عباد بن بشر، قَالَه ابْن بشكوال.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: عباد بن نهيك، بِفَتْح النُّون وَكسر الْهَاء، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: ( فصلى مَعَ النَّبِي رجال) ، بِالْجمعِ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فعلى هَذِه الرِّوَايَة إِلَى مَا يرجع الضَّمِير فِي قَوْله: ( ثمَّ خرج) ؟ قلت: إِلَى مَا دلّ عَلَيْهِ؛ رجال، وَهُوَ مُفْرد، أَو مَعْنَاهُ: ثمَّ خرج خَارج.
قلت: مَعْنَاهُ على هَذَا: ثمَّ خرج خَارج مِنْهُم، فَيكون الْفَاعِل محذوفاً.
قَوْله: ( بَعْدَمَا صلى) كَلمه: مَا، إِمَّا مَصْدَرِيَّة وَإِمَّا مَوْصُولَة.
قَوْله: ( فِي صَلَاة الْعَصْر نَحْو بَيت الْمُقَدّس) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( فِي صَلَاة الْعَصْر يصلونَ نَحْو بَيت الْمُقَدّس) ، أَي: جِهَته.
قَوْله: ( فَقَالَ) أَي: الرجل.

قَوْله: ( وَهُوَ يشْهد) أَرَادَ بِهِ نَفسه، وَلَكِن عبر عَنْهَا بِلَفْظ الْغَيْبَة على سَبِيل التَّجْرِيد، أَو على طَريقَة الِالْتِفَات، أَو نقل كَلَامه بِالْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة فِي بابُُ الْإِيمَان من الصَّلَاة بِلَفْظ: أشهد، وَوَقع هُنَا صَلَاة الْعَصْر، وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عمر فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ: صَلَاة الصُّبْح، والتوفيق بَينهمَا أَن هَذَا الْخَبَر وصل إِلَى قوم كَانُوا يصلونَ فِي نفس الْمَدِينَة صَلَاة الْعَصْر، ثمَّ وصل إِلَى أهل قبا فِي صبح الْيَوْم الثَّانِي، لأَنهم كَانُوا خَارِجين عَن الْمَدِينَة، لِأَن قبا من جملَة سوادها، وَفِي حكم رساتيقها، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي بابُُ الصَّلَاة من الْإِيمَان.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز نسخ الْأَحْكَام عِنْد الْجُمْهُور إلاَّ طَائِفَة لَا يَقُولُونَ بِهِ وَلَا يعبأ بهم.
وَفِيه: الدَّلِيل على نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ عِنْد الْجُمْهُور، وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ.
وَفِيه: دَلِيل على قبُول خبر الْوَاحِد.
وَفِيه: وجوب الصَّلَاة إِلَى الْقبْلَة وَالْإِجْمَاع على أَنَّهَا الْكَعْبَة.
وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة الْوَاحِدَة إِلَى جِهَتَيْنِ.
وَفِيه: أَن النّسخ لَا يثبت فِي حق الْمُكَلف حَتَّى يبلغهُ، وَفِي هَذَا الْبابُُ أبحاث طَوِيلَة، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا فَعَلَيهِ بالمراجعة إِلَى مَا ذكرنَا فِي شرح بابُُ الصَّلَاة من الْإِيمَان.





[ قــ :394 ... غــ :400]
- حدّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدّثنا هِشَامٌ قَالَ حدّثنا يَحْيَى بنْ أبي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْد الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كانَ رسولُ اللَّهِ يُصَلِّي عَلى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ فإِذَا أرَادَ الفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ.
( الحَدِيث 004 أَطْرَافه فِي: 4901، 9901، 0414) .


مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَاسْتقْبل الْقبْلَة) .

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم القصاب، الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي.
الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير، بالثاء الْمُثَلَّثَة.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان العامري الْمدنِي.
الْخَامِس: جَابر بن عبد االأنصاري.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: ذكر مُسلم شيخ البُخَارِيّ غير مَنْسُوب وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ مُسلم بن إِبْرَاهِيم.
وَفِيه: ذكر هِشَام أَيْضا غير مَنْسُوب، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: هِشَام بن أبي عبد ا.
وَفِيه: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح عَن جَابر غير هَذَا الحَدِيث، وَفِي طبقته: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن نَوْفَل، وَلم يخرج لَهُ البُخَارِيّ عَن جَابر شَيْئا.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ويماني ومدني.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي تَقْصِير الصَّلَاة عَن معَاذ بن فضَالة عَن هِشَام، وَعَن أبي نعيم عَن شَيبَان عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن عُثْمَان بن عبد ابْن سراقَة عَن جَابر رَضِي اتعالى عَنهُ.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: ( رَأَيْت رَسُول الله يُصَلِّي على حمَار وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى خَيْبَر) .
وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث جَابر: ( بَعَثَنِي النَّبِي فِي حَاجَة فَجئْت وَهُوَ يُصَلِّي على رَاحِلَته نَحْو الْمشرق، السُّجُود أَخفض) ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.
وَفِي الْبابُُ عَن أنس عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( غرائب مَالك) وعامر بن أبي ربيعَة عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم وَأبي سعيد عِنْد .

ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: ( على رَاحِلَته) ، الرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل، وَكَذَلِكَ الرحول، وَيُقَال: الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى.
قَوْله: ( حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ) ، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: ( تَوَجَّهت) بِدُونِ لَفْظَة: بِهِ.
قَوْله: ( فَإِذا أَرَادَ الْفَرِيضَة) أَي: إِذا أَرَادَ أَن يُصَلِّي صَلَاة الْفَرْض نزل عَن الرَّاحِلَة واستقبل الْقبْلَة.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على عدم ترك اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الْفَرِيضَة، وَهُوَ إِجْمَاع، وَلَكِن رخص فِي شدَّة الْخَوْف، وَفِي خُلَاصَة الفتاوي، أما صَلَاة الْفَرْض على الدَّابَّة بالعذر فجائزة، وَمن الْأَعْذَار: الْمَطَر، وَعَن مُحَمَّد: إِذا كَانَ الرجل فِي السّفر فأمطرت السَّمَاء فَلم يجد مَكَانا يَابسا ينزل للصَّلَاة، فَإِنَّهُ يقف على الدَّابَّة مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَيُصلي بِالْإِيمَاءِ إِذا أمكنه إيقاف الدَّابَّة، فَإِن لم يُمكنهُ يُصَلِّي مستدبر الْقبْلَة وَهَذَا إِذا كَانَ الطين بِحَال يغيب وَجهه، فَإِن لم يكن بِهَذِهِ المثابة لَكِن الأَرْض ندية صلى هُنَالك، ثمَّ قَالَ: هَذَا إِذا كَانَت الدَّابَّة تسير بِنَفسِهَا، أما إِذا سيَّرها صَاحبهَا فَلَا يجوز التَّطَوُّع وَلَا الْفَرْض، فَمن الْأَعْذَار كَون الدَّابَّة جموحاً لَو نزل لَا يُمكنهُ الرّكُوب.
وَمِنْهَا: اللص وَالْمَرَض وَكَونه شَيخا كَبِيرا لَا يجد من يركبه.
وَمِنْهَا: الْخَوْف من السَّبع، وَفِي ( الْمُحِيط) : تجوز الصَّلَاة على الدَّابَّة فِي هَذِه الْأَحْوَال، وَلَا يلْزمه الْإِعَادَة بعد زَوَال الْعذر، وَهَذَا كُله إِذا كَانَ خَارج الْمصر.
وَفِي ( الْمُحِيط) : من النَّاس من يَقُول إِنَّمَا يجوز التَّطَوُّع على الدَّابَّة إِذا تَوَجَّهت إِلَى الْقبْلَة عِنْد افتتاحها ثمَّ يتْرك التَّوَجُّه وانحرف عَن الْقبْلَة، أما لَو افتتحها إِلَى غير الْقبْلَة لَا تجوز، وَعند الْعَامَّة: تجوز كَيفَ مَا كَانَ، وَصرح فِي ( الْإِيضَاح) : أَن الْقَائِل بِهِ الشَّافِعِي.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: اسْتحبَّ ابْن حَنْبَل وَأَبُو ثوران يفتتحها مُتَوَجها إِلَى الْقبْلَة، ثمَّ لَا يُبَالِي حَيْثُ تَوَجَّهت.
.

     وَقَالَ ت الشَّافِعِيَّة: الْمُنْفَرد فِي الرّكُوب على الدَّابَّة إِن كَانَت سهلة يلْزمه أَن يُدِير رَأسهَا عِنْد الْإِحْرَام إِلَى الْقبْلَة فِي أصح الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَة ابْن الْمُبَارك، ذكرهَا فِي ( جَوَامِع الْفِقْه) .
وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: لَا يلْزمه، وَفِي القطار وَالدَّابَّة الصعبة لَا يلْزمه، وَفِي الْعمادِيَّة وَفِي الْمحمل الْوَاسِع يلْزمه التَّوَجُّه كالسفينة، وَقيل: فِي الدَّابَّة يلْزمه فِي السَّلَام أَيْضا، وَالأَصَح أَن الْمَاشِي يتم رُكُوعه وَسُجُوده وَيسْتَقْبل فيهمَا وَفِي إِحْرَامه وَلَا يمشي إلاَّ فِي قِيَامه، وَمذهب أَصْحَابنَا قَول الْجُمْهُور، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن الزبير وَأبي ذَر وَأنس وَابْن عمر، وَبِه قَالَ طَاوس وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَمَالك وَاللَّيْث، وَلَا يشْتَرط أَن يكون السّفر طَويلا عِنْد الْجُمْهُور، بل لكل من كَانَ خَارج الْمصر فَلهُ الصَّلَاة على الدَّابَّة.
وَاشْترط مَالك مَسَافَة الْقصر، ويحكى هَذَا أَيْضا عَن بعض الشَّافِعِيَّة، وَمذهب ابْن عمر منع التَّنَفُّل فِي السّفر بِالنَّهَارِ جملَة.
وجوازه لَيْلًا على الأَرْض وَالرَّاحِلَة، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي ( حَوَاشِيه) .
وَأما التَّنَفُّل على الدَّابَّة فِي الْحَضَر فَلَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد والإصطخري من الشَّافِعِيَّة، وَيجوز عِنْد أبي يُوسُف.
وَعَن مُحَمَّد: يجوز وَلَكِن يكره، وَالْأَحَادِيث الدَّالَّة على جَوَاز التَّنَفُّل على الدَّابَّة وَردت فِي السّفر، فَفِي رِوَايَة جَابر: كَانَت فِي غَزْوَة أَنْمَار، وَهِي غَزْوَة ذَات الرّقاع، وَفِي رِوَايَة: ( أَرْسلنِي رَسُول الله وَهُوَ منطلق إِلَى بني المصطلق، فَأَتَيْته وَهُوَ يُصَلِّي على بعيره) .
وَفِي رِوَايَة ابْن عمر: ( بطرِيق مَكَّة) ، وَفِي رِوَايَة: ( مُتَوَجّه إِلَى الْمَدِينَة) .
وَفِي رِوَايَة: ( مُتَوَجّه إِلَى خَيْبَر) ، وَالْحَاصِل أَنَّهَا كَانَت مَرَّات كلهَا فِي السّفر.
فَإِن قلت: رُوِيَ عَن أبي يُوسُف فِي جَوَازه فِي الْمَدِينَة أَيْضا، فَقَالَ: حَدثنِي فلَان، وَرفع الْإِسْنَاد: ( أَن رَسُول الله ركب الْحمار فِي الْمَدِينَة يعود سعد بن عبَادَة وَكَانَ يُصَلِّي) .
قلت: هَذَا شَاذ، وَهُوَ فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى لَا يكون حجَّة، وَلَكِن لقَائِل أَن يَقُول: لأبي يُوسُف على مَا ذهب إِلَيْهِ أَن يحْتَج بِمَا رَوَاهُ أنس: ( أَنه صلى على حمَار فِي أَزِقَّة الْمَدِينَة يومي إِيمَاء) ، ذكره ابْن بطال.





[ قــ :395 ... غــ :401]
- حَدَّثَنَا عُثْمانُ قَالَ حدّثنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهيمَ عنْ عَلْقَمَة قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ صَلى النَّبيُّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَ أدْرِي زَادَ أوْ نَقَصَ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا رَسولَ اللَّهِ أحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ قالَ (وَمَا ذَاكَ) قالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاستَقْبَلَ القِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمَّا أقَبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ لإِنَّهُ لوْ حَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ وَلَكنْ إِنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي وَإذَا شكَّ أحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عليهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ) .
(الحَدِيث 104 أَطْرَافه فِي: 404، 61، 1766، 947) .


مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَثنى رجلَيْهِ واستقبل الْقبْلَة) لِأَنَّهُ اسْتَقْبلهَا بعد أَن سلم سَلام الْخُرُوج من الصَّلَاة.

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة.
الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة.
الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد.
الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر.
الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ.
الْخَامِس: عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ.
السَّادِس: عبد ابْن مَسْعُود، رَضِي اعنه.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون وأئمة إجلاء وَإِسْنَاده من أصح الْأَسَانِيد.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النذور عَن إِسْحَاق.
وَأخرجه مُسلم عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى وَأبي كريب وَمُحَمّد بن حَاتِم وَعبد ابْن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ وَمُحَمّد بن الْمثنى وَيحيى بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد االمخزومي وَعَن الْحسن بن إِسْمَاعِيل وَعَن سُوَيْد بن نصر وَعَن مُحَمَّد بن رَافع.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بنْدَار وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (صلى النَّبِي) هَذِه الصَّلَاة قيل: الظّهْر، وَقيل: الْعَصْر.
وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث طَلْحَة بن مصرف عَن إِبْرَاهِيم بِهِ: أَنَّهَا الْعَصْر، فنقص فِي الرَّابِعَة وَلم يجلس حَتَّى صلى الْخَامِسَة.
وَمن حَدِيث شُعْبَة عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم أَنَّهَا الظّهْر وَأَنه صلاهَا خمْسا.
قَوْله: (قَالَ إِبْرَاهِيم) أَي: النَّخعِيّ الْمَذْكُور.
قَوْله: (لَا أَدْرِي زَاد أَو نقص) مدرج، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَلَا أَدْرِي) ، أَي: فَلَا أعلم هَل زَاد النَّبِي فِي صلَاته أَو نقص، وَالْمَقْصُود أَن إِبْرَاهِيم شكّ فِي سَبَب سُجُود السَّهْو الْمَذْكُور، هَل كَانَ لأجل الزِّيَادَة أَو النُّقْصَان؟ وَهُوَ مُشْتَقّ من النَّقْص الْمُتَعَدِّي لَا من النُّقْصَان اللَّازِم، وَالصَّحِيح كَمَا قَالَ الْحميدِي: إِنَّه زَاد.
قَوْله: (أحدث؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، وَمَعْنَاهُ السُّؤَال عَن حُدُوث شَيْء من الْوَحْي يُوجب تَغْيِير حكم الصَّلَاة بِالزِّيَادَةِ على مَا كَانَت معهودة، أَو بِالنُّقْصَانِ عَنهُ.
قَوْله: (حدث) بِفَتْح الدَّال مَعْنَاهُ: وَقع، وَأما: حدث، بِضَم الدَّال فَلَا يسْتَعْمل فِي شَيْء من الْكَلَام إلاَّ فِي قَوْلهم: أَخَذَنِي مَا قدُم وَمَا حدُث، للازدواج.

قَوْله: (وَمَا ذَاك؟) سُؤال من لم يشْعر بِمَا وَقع مِنْهُ وَلَا يَقِين عِنْده وَلَا غَلَبَة ظن، وَهُوَ خلاف مَا عِنْدهم حَيْثُ قَالَ: صليت كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ إِخْبَار من يتَحَقَّق مَا وَقع.
وَقَوله: (كَذَا وَكَذَا) ، كِنَايَة عَمَّا وَقع إِمَّا زَائِدا على الْمَعْهُود أَو نَاقِصا.
قَوْله: (فَثنى) ، بتَخْفِيف النُّون، مُشْتَقّ من الثني أَي: عطف، وَالْمَقْصُود مِنْهُ: فَجَلَسَ كَمَا هوهيئة الْقعُود للتَّشَهُّد.
قَوْله: (رجله) بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والأصيلي: (رجلَيْهِ) بالتثنية.
قَوْله: (لنبأتكم بِهِ) : لأخبرتكم بِهِ، وَهَذَا من بابُُ؛ نبأ، بتَشْديد الْبَاء، وَهُوَ مِمَّا ينصب ثَلَاثَة مفاعيل، وَكَذَلِكَ: أنبأ، منبابُ أفعل، والثلاثي: نبأ، والمصدر، النبأ، مَعْنَاهُ الْخَبَر.
تَقول نبأ وأنبأ ونبأ، أَي: أخبر، وَمِنْه أَخذ النَّبِي لِأَنَّهُ أنبأ عَن اتعالى، وللام فِيهِ لَام الْجَواب.
وتفيد التَّأْكِيد أَيْضا، وَزعم بَعضهم أَن: اللَّام، بعد: لَو، جَوَاب قسم مُقَدّر.

فَإِن قلت: أَيْن المفاعيل الثَّلَاثَة هَهُنَا؟ قلت: الأول: ضمير المخاطبين، وَالثَّانِي: الْجَار وَالْمَجْرُور، أَعنِي لَفْظَة: بِهِ، وَالضَّمِير يه يرجع إِلَى الْحُدُوث الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (لَو حدث فِي الصَّلَاة شَيْء) ، كَمَا فِي قَوْله: { أعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) .
وَالثَّالِث: مَحْذُوف.
قَوْله: (وَلَكِن إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ) لَا نزاع أَن كلمة؛ إِنَّمَا، للحصر، لَكِن تَارَة تَقْتَضِي الْحصْر الْمُطلق، وَتارَة حصراً مَخْصُوصًا، وَيفهم ذَلِك بالقرائن والسياق، وَمعنى الْحصْر فِي الحَدِيث بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإطلاع على بوانط المخاطبين لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل شَيْء، فَإِن لرَسُول الله أوصافاً أخر كَثِيرَة.

قَوْله: (أنسى كَمَا تنسون) ، النسْيَان فِي اللُّغَة خلاف الذّكر ولحفظ، وَفِي الِاصْطِلَاح: النيسان غَفلَة الْقلب عَن الشَّيْء، وَيَجِيء النسْيَان بمنى التّرْك كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { نسوا افنسيهم} (وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم) (التَّوْبَة: 76، وَالْبَقَرَة: 73) .
قَوْله: (فذكروني) أَي: فِي الصَّلَاة بالتسبيح وَنَحْوه.
قَوْله: (وَإِذا شكّ أحدكُم) الشَّك فِي اللُّغَة خلاف الْيَقِين، وَفِي الِاصْطِلَاح الشَّك: مَا يَسْتَوِي فِيهِ طرف الْعلم وَالْجهل، وَهُوَ الْوُقُوف بَين الشَّيْئَيْنِ بِحَيْثُ لَا يمِيل إِلَى أَحدهمَا، فاذا قوي أَحدهمَا وترجح على الآخر، وَلم يَأْخُذ بِمَا رجح وَلم يطْرَح الآخر فَهُوَ الظَّن، وَإِذا عقد الْقلب على أَحدهمَا وَترك الآخر فَهُوَ أكبر الظَّن، وغالب الرَّأْي، فَيكون الظَّن أحد طرقي الشَّك بِصفة الرجحان.
قَوْله: (فليتحرَّ) الصَّوَاب التَّحَرِّي: الْقَصْد وَالِاجْتِهَاد فِي الطّلب والعزم على تَخْصِيص الشَّيْء بِالْفِعْلِ وَالْقَوْل، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (فَينْظر أَحْرَى ذَلِك إِلَى الصَّوَاب) .
وَفِي رِوَايَة: (فليتحر أقرب ذَلِك إِلَى الصَّوَاب) .
وَفِي رِوَايَة: (فليتحر الَّذِي يرى أَنه صَوَاب.
وَيعلم من هَذَا أَن التَّحَرِّي طلب أحد الْأَمريْنِ، وأولاهما بِالصَّوَابِ.
قَوْله: (فليتم عَلَيْهِ) أَي: فليتم بانياً عَلَيْهِ، وَلَوْلَا تضمين الْإِتْمَام معنى الْبناء لما جَازَ اسْتِعْمَاله بِكَلِمَة الاستعلاء، وَقصد الصَّوَاب فِي الْبناء على غَالب الظَّن عِنْد أبي حنيفَة وَعند الشَّافِعِي: الْأَخْذ بِالْيَقِينِ.
قَوْله: (ثمَّ يسْجد سَجْدَتَيْنِ) ، ويروى: (ثمَّ ليسجد سَجْدَتَيْنِ) يَعْنِي للسَّهْو.

ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على جَوَاز النّسخ وَجَوَاز توقع الصَّحَابَة ذَلِك، دلّ على ذَلِك استفهامهم حَيْثُ قيل لَهُ: أحدث فِي الصَّلَاة شَيْء؟ وَمِنْهَا: أَن فِيهِ جَوَاز وُقُوع السَّهْو من الْأَنْبِيَاء.
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْأَفْعَال.
.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: وَهُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء والنظار، وشذت طَائِفَة فَقَالُوا: لَا يجوز على النَّبِي السَّهْو، وَهَذَا الحَدِيث يرد عَلَيْهِم.
قلت: هم منعُوا السَّهْو عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَال البلاغية، وَأَجَابُوا عَن الوظاهر الْوَارِدَة فِي ذَلِك بِأَن السَّهْو لَا يُنَاقض النُّبُوَّة وَإِذا لم يقر عَلَيْهِ لم تحل مِنْهُ مفْسدَة بل تحصل فِيهِ فَائِدَة، وَهُوَ بَيَان أَحْكَام النَّاس وَتَقْرِير الْأَحْكَام، وَإِلَيْهِ مَال أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني،.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز السَّهْو عَلَيْهِ فِي الْأُمُور الَّتِي لَا تتَعَلَّق بالبلاغ وَبَيَان أَحْكَام الشَّرْع من أَفعاله وعاداته وأذكار قلبه، فجوزه الْجُمْهُور.
وَأما السَّهْو فِي الْأَقْوَال البلاغية فَأَجْمعُوا على مَنعه كَمَا أَجمعُوا على امْتنَاع تَعَمّده.
وَأما السَّهْو فِي الْأَقْوَال الدُّنْيَوِيَّة، وَفِيمَا لَيْسَ سَبيله الْبَلَاغ من الْكَلَام الَّذِي لَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَلَا أَخْبَار الْقِيَامَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَلَا يُضَاف إِلَى وَحي فجوزه قوم، إِذْ لَا مفْسدَة فِيهِ.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ تَرْجِيح قَول من منع ذَلِك على الْأَنْبِيَاء فِي كل خبر من الْأَخْبَار، كَمَا لَا يجوز عَلَيْهِم خلف فِي خبر لَا عمدا وَلَا سَهوا، لَا فِي صِحَة وَلَا فِي مرض، وَلَا رضى وَلَا غضب.
وَأما جَوَاز السَّهْو فِي الاعتقادات فِي أُمُور الدُّنْيَا فَغير مُمْتَنع.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ جَوَاز النسْيَان فِي الْأَفْعَال على الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَاتَّفَقُوا على أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ بل يعلمهُمْ اتعالى بِهِ.
.

     وَقَالَ  الْأَكْثَرُونَ: شَرطه تنبيهه على الْفَوْر أَي مُتَّصِلا بالحادثة، وجوزت طَائِفَة تَأْخِير مُدَّة حَيَاته.
فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين السَّهْو وَالنِّسْيَان؟ قيل: النسْيَان غَفلَة الْقلب عَن الشَّيْء، والسهو غَفلَة الشَّيْء عَن الْقلب، فَفِي هَذَا قَالَ قوم: كَانَ النَّبِي لَا يسهو وَلَا ينسى، فَلذَلِك نفى عَن نَفسه النسْيَان فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ، (بقوله: لم أنس) ، لِأَن فِيهِ غَفلَة، وَلم يغْفل.
.

     وَقَالَ  الْقشيرِي: يبعد الْفرق بَينهمَا فِي اسْتِعْمَال اللُّغَة، وَكَأَنَّهُ يتلوح من اللَّفْظ على أَن النيسان عدم الذّكر لأمر لَا يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ، والسهو عدم الذّكر لَا لأجل الْإِعْرَاض.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: لَا نسلم الْفرق، وَلَئِن سلم فقد أضَاف النسْيَان إِلَى نَفسه فِي غير مَا مَوضِع كَقَوْلِه: (إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون فَإِذا نسيت فذكروني) .
.

     وَقَالَ  القَاضِي: إِنَّمَا أنكر: نسيت الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ قد نهى عَن هَذَا بقوله: (بئْسَمَا لأحدكم أَن يَقُول: نسيت كَذَا، وَلكنه نسِّي) ، وَقد قَالَ أَيْضا: (لَا أنسى) على النَّفْي، (وَلَكِن أُنسَّى (.
وَقد شكّ بعض الروَاة فِي رِوَايَته فَقَالَ: (أنسى أَو أنسَّى) .
وَإِن: أَو، للشَّكّ أَو للتقسيم، وَإِن هَذَا يكون مِنْهُ مرّة من قبل شغله، وَمرَّة يغلب وَيجْبر عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ السَّائِل بذلك فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ أنكرهُ،.

     وَقَالَ : كل ذَلِك لم يكن، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (لم أنس وَلم تقصر) ، أما الْقصر فبيِّن، وَكَذَلِكَ: لم أنس حَقِيقَة من قبل نَفسِي، وَلَكِن اأنساني.
وسنتكلم فِي هَذَا كَمَا هُوَ الْمَطْلُوب فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ اتعالى.

وَمِنْهَا: أَن بَعضهم احْتج بِهِ على أَن كَلَام النَّاسِي لَا يبطل الصَّلَاة.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: ذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه إِلَى أَن الْكَلَام وَالسَّلَام سَاهِيا فِي الصَّلَاة لَا يُبْطِلهَا، كَقَوْل مَالك وَأَصْحَابه سَوَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهمَا أَن مَالِكًا يَقُول: لَا يفْسد الصَّلَاة تعمد الْكَلَام فِيهَا إِذا كَانَ فِي شَأْنهَا وإصلاحها، وَهُوَ قَول ربيعَة وَابْن الْقَاسِم إلاَّ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي الْمُنْفَرد، وَهُوَ قَول أَحْمد، ذكر الْأَثْرَم عَنهُ أَنه قَالَ: مَا تكلم بِهِ الْإِنْسَان فِي صلَاته لإصلاحها لم يفْسد عَلَيْهِ صلَاته، فَإِن تكلم لغير ذَلِك فَسدتْ عَلَيْهِ.
وَذكر الْخرقِيّ عَنهُ: أَن مذْهبه فِيمَن تكلم عَامِدًا أَو سَاهِيا بطلت صلَاته إلاَّ الإِمَام خَاصَّة، فَإِنَّهُ إِذا تكلم لمصْلحَة صلَاته لم تبطل صلَاته.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَمن تَابعهمْ من أَصْحَاب مَالك وَغَيرهم: إِن من تعمد الْكَلَام وَهُوَ يعلم أَنه لم يتم الصَّلَاة وَأَنه فِيهَا أفسد صلَاته، فَإِن تكلم نَاسِيا أَو تكلم وَهُوَ يظنّ أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة لَا تبطل، وَأَجْمعُوا على أَن الْكَلَام عَامِدًا إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يعملم أَنه فِي الصَّلَاة وَلم يكن ذَلِك لإِصْلَاح صلَاته أَنه يفْسد الصَّلَاة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه: من تكلم لإحياء نفس أَو مثل ذَلِك من الْأُمُور الجسام لم تفْسد بذلك صلَاته، وَهُوَ قَول ضَعِيف فِي النّظر.
وَفِي (الْمُغنِي) :.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر مَا ملخصه: إِن الْكَلَام لغير مصلحَة الصَّلَاة يَنْقَسِم خَمْسَة أَقسَام:
الأول: الْكَلَام جَاهِلا بِتَحْرِيمِهِ فِيهَا.
قَالَ القَاضِي فِي (الْجَامِع) : لَا أعرف عَن أحد نصا فِيهِ، وَيحْتَمل أَن لَا تبطل.

الثَّانِي: الْكَلَام نَاسِيا وَهُوَ على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: أَن ينسى أَنه فِي الصَّلَاة، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: لَا تبطل، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ.
وَالْأُخْرَى: تبطل، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَصْحَاب الرَّأْي.
وَالنَّوْع الآخر: أَن يظنّ أَن صلَاته تمت فيتكلم، فَإِن كَانَ سَلاما لَا تبطل رِوَايَة وَاحِدَة، وإلاَّ فالمنصوص عَن أَحْمد: إِن كَانَ لأمر الصَّلَاة لَا تبطل، وَإِن كَانَ لغير أمرهَا مثل: إسقني يَا غُلَام مَاء، تبطل.
وَعنهُ رِوَايَة ثَانِيَة أَنَّهَا تفْسد بِكُل حَال، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَاب الرَّأْي، وَفِيه رِوَايَة ثَالِثَة: أَنَّهَا لَا تبطل بالْكلَام فِي تِلْكَ الْحَال بِحَال، سَوَاء كَانَ من شَأْن الصَّلَاة أَو لم يكن، إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ.
وَتخرج رِوَايَة رَابِعَة وَهُوَ أَن الْمُتَكَلّم إِن كَانَ إِمَامًا تكلم لمصْلحَة الصَّلَاة لم تفْسد، وَإِن تكلم غَيره فَسدتْ.

الْقسم الثَّالِث: أَن يتَكَلَّم مَغْلُوبًا على الْكَلَام، وَهُوَ ثَلَاثَة: أَنْوَاع: أَحدهَا: بِأَن تخرج الْحُرُوف من فِيهِ بِغَيْر اخْتِيَاره، مثل: إِن تثاوب فَقَالَ: آه، أَو تنفس فَقَالَ: آه، أَو يسعل فينطق فِي السعلة بحرفين وَمَا أشبه هَذَا، أَو يغلط فِي الْقِرَاءَة فيعدل إِلَى كلمة من غير الْقُرْآن، أَو يَجِيئهُ بكاء فيبكي وَلَا يقدر على رده، فَهَذَا لَا تفْسد صلَاته، نَص عَلَيْهِ أَحْمد.
.

     وَقَالَ  القَاضِي: فِيمَن تثاوب فَقَالَ: آه، آه، فَسدتْ صلَاته: النَّوْع الثَّانِي: أَن ينَام فيتكلم، فقد توقف أَحْمد عَن الْجَواب فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَن لَا تبطل.
النَّوْع الثَّالِث: أَن يكره على الْكَلَام، فَيحْتَمل أَن يخرج على كَلَام النَّاسِي، وَالصَّحِيح إِن شَاءَ اأن هَذَا تفْسد صلَاته.

الْقسم الرَّابِع: أَن يتَكَلَّم بِكَلَام وَاجِب، مثل أَن يخْشَى على صبي أَو ضَرِير الْوُقُوع فِي هلكة، أَو يرى حَيَّة وَنَحْوهَا تقصد غافلاً أَو نَائِما، أَو يرى نَارا يخَاف أَن تشتعل فِي شَيْء وَنَحْو هَذَا، فَلَا يُمكنهُ التَّنْبِيه بالتسبيح، فَقَالَ أَصْحَابنَا: تبطل الصَّلَاة بِهَذَا، وَهُوَ قَول بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَيحْتَمل أَن لَا تبطل، وَهُوَ ظَاهر قَول أَحْمد، وَهَذَا ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي.

الْقسم الْخَامِس: أَن يتَكَلَّم لإِصْلَاح الصَّلَاة، وَجُمْلَته أَن من سلم من نقص فِي صلَاته يظنّ نها قد تمت، ثمَّ تكلم فَفِيهِ ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهَا: لَا تفْسد إِذا كَانَ لشأن الصَّلَاة.
وَالثَّانيَِة: تفْسد، وَهُوَ قَول الْخلال وَأَصْحَاب الرَّأْي.
وَالثَّالِثَة: صَلَاة الإِمَام لَا تفْسد، وَصَلَاة الْمَأْمُوم الَّذِي تكلم تفْسد انْتهى.

وَمذهب أَصْحَابنَا أَنه: لَا يجوز الْكَلَام فِي الصَّلَاة إلاَّ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيح والتهليل وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وَلَا يجوز أَن يتَكَلَّم فِيهَا لأجل شَيْء حدث من الإِمَام فِي الصَّلَاة، وَالْكَلَام يبطل الصَّلَاة سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا أَو جَاهِلا، وَسَوَاء كَانَ إِمَامًا أَو مُنْفَردا، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَتَادَة، وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَعبد ابْن وهب وَابْن نَافِع من أَصْحَاب مَالك، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ أخرجه مُسلم مطولا، وَفِيه: (إِن هَذِه الصَّلَاة لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَهَذَا نَص صَرِيح على تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا، لحَاجَة أَو غَيرهَا، وَسَوَاء كَانَ لمصْلحَة الصَّلَاة أَو غَيرهَا.
فَإِن احْتَاجَ إِلَى تَنْبِيه إِمَام وَنَحْوه سبح إِن كَانَ رجلا، وصفقت إِن كَانَت امْرَأَة، وَذَلِكَ لقَوْله: (من نابه شَيْء فِي الصَّلَاة فَلْيقل: سُبْحَانَ ا، وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء وَالتَّسْبِيح للرِّجَال) ، رَوَاهُ سهل بن سعد، أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ، وَأخرجه البُخَارِيّ مطولا، وَلَفظه: (أَيهَا النَّاس مَا لكم حِين نابكم شَيْء فِي الصَّلَاة أَخَذْتُم فِي التصفيق؟ وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء، من نابه شَيْء فِي صلَاته فَلْيقل: سُبْحَانَ ا، فَإِنَّهُ لَا يسمعهُ أحد حِين يَقُول: سُبْحَانَ ا، إِلَّا الْتفت) .
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.

قَوْله: (من نابه) أَي من نزل بِهِ شَيْء من الْأُمُور المهمة، وَالْمرَاد من التصفيق ضرب ظَاهر إِحْدَى يَدَيْهِ على بَاطِن الْأُخْرَى، وَقيل: بإصبعين من أَحدهمَا على صفحة الْأُخْرَى للإنذار والتنبيه.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: إِن هَذَا الحَدِيث دلّ على أَن كَلَام ذِي الْيَدَيْنِ لرَسُول الله بِمَا كَلمه بِهِ فِي حَدِيث عمرَان وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي اتعالى عَنْهُم، كَانَ قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو سَجْدَتَانِ، وَهُوَ قَول عَامَّة الْفُقَهَاء، وَحكي عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه يلْزمه لكل سَهْو سَجْدَتَانِ، وَكَذَا حُكيَ عَن ابْن أبي ليلى.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَفِيه حَدِيث ضَعِيف.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا عل أَن سَجْدَتي السَّهْو بعد السَّلَام، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي وَمن تبعه فِي أَنَّهُمَا قبل السَّلَام، وَفِي (الْمُغنِي) : السُّجُود كُله عِنْد أَحْمد قبل السَّلَام إلاَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذين ورد النَّص بسجودهما بعد السَّلَام، وهما: إِذا سلم من نقص فِي صلَاته، أَو تحرى الإِمَام فَبنى على غَالب ظَنّه، وَمَا عداهما يسْجد لَهُ قبل السَّلَام، نَص على هَذَا فِي رِوَايَة الْأَثْرَم، وَبِه قَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد وَأَبُو خَيْثَمَة وَابْن الْمُنْذر.
وَحكى أَبُو الْخطاب عَن أَحْمد رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ: إِحْدَاهمَا: إِن السُّجُود كُله قبل السَّلَام، وَالثَّانيَِة: أَنَّهَا قبل السَّلَام إِن كَانَت لنَقص، وَبعد السَّلَام إِن كَانَت لزِيَادَة، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَأبي ثَوْر، وَبِمَا قَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالْحسن الْبَصْرِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد ابْن مَسْعُود وَعبد ابْن عَبَّاس وعمار بن يَاسر وَعبد ابْن الزبير وَأنس بن مَالك، رَضِي اعنهم: فَإِن قلت: لَو سجد للسَّهْو قبل السَّلَام كَيفَ يكون حكمه عَن الْحَنَفِيَّة.
قلت: قَالَ الْقَدُورِيّ: لَو سجد للسَّهْو قبل السَّلَام جَازَ عندنَا، هَذَا فِي رِوَايَة الْأُصُول، وَرُوِيَ عَنْهُم أَنه: لَا يجوز، لِأَنَّهُ أَدَّاهُ قبل وقته.
وَفِي (الْهِدَايَة) : وَهَذَا الْخلاف فِي الْأَوْلَوِيَّة، وَكَذَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) وَابْن عبد الْبر وَغَيرهم.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الرُّجُوع إِلَى الْمَأْمُومين، وَفِيه إِشْكَال على مَذْهَب الشَّافِعِي لِأَن عِنْدهم أَنه لَا يجوز للْمُصَلِّي الرُّجُوع فِي قدر صلَاته إِلَى قَول غَيره إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَلَا يعْمل إلاَّ على يَقِين نَفسه، وَاعْتذر النَّوَوِيّ عَن هَذَا بِأَنَّهُ سَأَلَهُمْ ليتذكر، فَلَمَّا ذَكرُوهُ تذكر، فَعلم السَّهْو فَبنى عَلَيْهِ لَا أَنه رَجَعَ إِلَى مُجَرّد قَوْلهم، وَلَو جَازَ ترك يَقِين نَفسه وَالرُّجُوع إِلَى قَول غَيره لرجع ذُو الْيَدَيْنِ حِين قَالَ: (لم تقصر وَلم أنس) .
قلت: هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب مخلص لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن الرُّجُوع، سَوَاء كَانَ رُجُوعه للتذكر أَو لغيره، وَعدم رُجُوع ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ لأجل كَلَام الرَّسُول لَا لأجل يَقِين نَفسه.
فَافْهَم.
.

     وَقَالَ  ابْن الْقصار: اخْتلفت الرِّوَايَة فِي هَذَا عَن مَالك، فَمرَّة قَالَ: يرجع إِلَى قَوْلهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، لِأَنَّهُ قَالَ: يبْنى على غَالب ظَنّه.
.

     وَقَالَ  مرّة أُخْرَى: يعْمل على يقينه وَلَا يرجع إِلَى قَوْلهم، كَقَوْل الشَّافِعِي.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على أَن الْبَيَان لَا يُؤَخر عَن وَقت الْحَاجة لقَوْله: (لَو حدث فِي الصَّلَاة شَيْء لنبأتكم بِهِ) .

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ حجَّة لأبي حنيفَة وَلغيره من أهل الْكُوفَة على أَن: من شكّ فِي صلَاته فِي عدد ركعاتها تحرى لقَوْله: (فليتحر الصَّوَاب) ، وَيَبْنِي على غَالب ظَنّه وَلَا يلْزمه الِاقْتِصَار على الْأَقَل، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي وَمن تبعه فِي قَوْلهم فِيمَن شكّ: هَل صلى ثَلَاثًا أم أَرْبعا مثلا؟ لزمَه الْبناء على الْيَقِين، وَهُوَ الْأَقَل فَيَأْتِي بِمَا بَقِي وَيسْجد للسَّهْو.
فَإِن قلت: أَمر الشَّارِع بِالتَّحَرِّي وَهُوَ الْقَصْد بِالصَّوَابِ، وَهُوَ لَا يكون إلاَّ بِالْأَخْذِ بِالْأَقَلِّ الَّذِي هُوَ الْيَقِين، على مَا بَينه فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول ا: (إِذا صلى أحدكُم فَلم يدر أَثلَاثًا صلى أم أَرْبعا فليبن على الْيَقِين ويدع الشَّك) الحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة.
قلت: هَذَا مَحْمُول على مَا إِذا تحرى وَلم يَقع تحريه على شَيْء، فَفِي هَذَا نقُول: يَبْنِي على الْأَقَل لِأَن حَدِيثه ورد فِي الشَّك، وَهُوَ مَا اسْتَوَى طرفاه وَلم يتَرَجَّح لَهُ أحد الطَّرفَيْنِ، فَفِي هَذَا يبْنى على الْأَقَل بِالْإِجْمَاع، فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ فِي دفع هَذَا: إِن تَفْسِير الشَّك هَكَذَا اصْطِلَاح طَار للأصوليين، وَأما فِي اللُّغَة فالتردد بَين وجود الشَّيْء وَعَدَمه كُله يُسمى شكا، سَوَاء المستوي وَالرَّاجِح والمرجوح، والْحَدِيث يحمل على اللُّغَة مَا لم يكن هُنَاكَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة، أَو عرفية، فَلَا يجوز حمله على مَا يطْرَأ للمتأخرين من الِاصْطِلَاح.
قلت: هَذَا غير مجدٍ وَلَا دافعٍ، لِأَن المُرَاد الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة، وَهِي أَن: الشَّك مَا اسْتَوَى طرفاه، وَلَئِن سلمنَا أَن يكون المُرَاد مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ فَلَيْسَ معنى الشَّك فِي اللُّغَة مَا ذكره، لِأَن صَاحب (الصِّحَاح) فسر الشَّك فِي بابُُ: الْكَاف، فَقَالَ: الشَّك خلاف الْيَقِين، ثمَّ فسر الْيَقِين فِي بابُُ: النُّون، فَقَالَ: الْيَقِين الْعلم، فَيكون الشَّك ضد الْعلم، وضد الْعلم الْجَهْل، وَلَا يُسمى المتردد بَين وجود الشَّيْء وَعَدَمه جَاهِلا، بل يُسمى شاكاً، فَعلم، أَن قَوْله: وَأما فِي اللُّغَة فالتردد بَين وجود الشَّيْء وَعَدَمه يُسمى شكا هُوَ الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة لَا اللُّغَوِيَّة.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو يتداخل وَلَا يَتَعَدَّد بِتَعَدُّد أَسبابُُه، فَإِن النَّبِي تكلم بعد أَن سَهَا، وَاكْتفى فِيهِ بسجدتين، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء، وَمِنْهُم من قَالَ: يَتَعَدَّد السُّجُود بِتَعَدُّد السَّهْو.

وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو فِي آخر الصَّلَاة: لِأَنَّهُ لم يَفْعَله إلاَّ كَذَلِك، وَقيل: فِي حكمته: إِنَّه أخر لاحْتِمَال سَهْو آخر فَيكون جَابِرا للْكُلّ، وَفرع الْفُقَهَاء على أَنه لَو سجد ثمَّ تبين أَنه لم يكن آخر الصَّلَاة لزمَه إِعَادَته فِي آخرهَا، وصوروا ذَلِك فِي صُورَتَيْنِ.
إِحْدَاهمَا: أَن يسْجد للسَّهْو فِي الْجُمُعَة ثمَّ يخرج الْوَقْت وَهُوَ فِي السُّجُود الْأَخير فَيلْزمهُ إتْمَام الظّهْر وَيُعِيد السُّجُود.
وَالثَّانيَِة: أَن يكون مُسَافِرًا فَيسْجد للسَّهْو وَتصل بِهِ السَّفِينَة إِلَى الوطن أَو يَنْوِي الْإِقَامَة فَيتم ثمَّ يُعِيد السُّجُود.

الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قَوْله: (وَسجد سَجْدَتَيْنِ) دَلِيل على أَنه لم ينقص شَيْئا من الرَّكْعَات وَلَا من السجدات وَإِلَّا لتداركها فَكيف صَحَّ أَن يَقُول إِبْرَاهِيم: لَا أَدْرِي؟ بل تعين أَنه زَاد إِذْ النُّقْصَان لَا يجْبر بالسجدتين، بل لَا بُد من الْإِتْيَان بالمتروك أَيْضا؟ قلت: كل نُقْصَان لَا يسْتَلْزم الْإِتْيَان بِهِ بل كثير مِنْهُ ينجبر بِمُجَرَّد السَّجْدَتَيْنِ، وَلَفظ: نقص، لَا يُوجب النَّقْص فِي الرَّكْعَة وَنَحْوهَا.
قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى عَن الْحميدِي أَنه قَالَ: بل زَاد، وَكَانَت زِيَادَته أَنه صلى الظّهْر خمْسا.
كَمَا ذكره الطَّبَرَانِيّ، فحينئذٍ كَانَ سُجُوده لتأخير السَّلَام ولزيادته من جنس الصَّلَاة، وَقَوله: إِذْ النُّقْصَان لَا ينجبر بالسجدتين، غير مُسلم، لِأَن النُّقْصَان إِذا كَانَ فِي الْوَاجِبَات أَو فِي تَأْخِيرهَا عَن محلهَا أَو فِي تَأْخِير ركن من الْأَركان ينجبر بالسجدتين.
وَقَوله: بل لَا بُد من الْإِتْيَان بالمتروك، إِنَّمَا يجب إِذا كَانَ الْمَتْرُوك ركنا، وَأما إِذا كَانَ من الْوَاجِبَات وَمن السّنَن الَّتِي هِيَ فِي قُوَّة الْوَاجِب فَلَا يلْزمه الْإِتْيَان بِمثلِهِ، وَإِنَّمَا ينجبر بالسجدتين.

وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا: فَإِن قلت: الصَّوَاب غير مَعْلُوم، وإلاَّ لما كَانَ ثمَّة شكّ، فَكيف يتحَرَّى الصَّوَاب؟ قلت: المُرَاد مِنْهُ: المتحقق والمتيقن، أَي: فليأخذ بِالْيَقِينِ.
قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه بِنَاء على مَذْهَب إِمَامه، فَإِنَّهُ فسر الصَّوَاب بِالْأَخْذِ بِالْيَقِينِ، وَأما عِنْد أبي حنيفَة: المُرَاد مِنْهُ الْبناء على غَالب الظَّن وَالْيَقِين فِي أَيْن هَهُنَا؟ وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا.
فَإِن قلت: كَيفَ رَجَعَ إِلَى الصَّلَاة بانياً عَلَيْهَا وَقد تكلم بقوله: وَمَا ذَاك؟ قلت: إِنَّه كَانَ قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، أَو أَنه كَانَ خطابا للنَّبِي وجواباً، وَذَلِكَ لَا يبطل الصَّلَاة، أَو كَانَ قَلِيلا وَهُوَ فِي حكم الساهي أَو النَّاسِي، لِأَنَّهُ كَانَ يظنّ أَنه لَيْسَ فِيهَا.
قلت: مَذْهَب إِمَامه أَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة إِذا كَانَ نَاسِيا أَو سَاهِيا لَا يُبْطِلهَا، فَلَا فَائِدَة حينئذٍ فِي قَوْله: إِنَّه كَانَ قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: لَا يمشي بعد النَّبِي.
وَالْجَوَاب الثَّالِث: غير موجه لِأَنَّهُ قَوْله: (وَمَا ذَاك؟) غير قَلِيل على مَا لَا يخفى.

وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا.
فَإِن قيل: كَيفَ رَجَعَ النَّبِي إِلَى قَول غَيره، وَلَا يجوز للْمُصَلِّي الرُّجُوع فِي حَال صلَاته إلاَّ إِلَى علمه ويقين نَفسه؟ فَجَوَابه: أَن النَّبِي سَأَلَهُمْ ليتذكر، فَلَمَّا ذَكرُوهُ تذكر فَعلم السَّهْو فَبنى عَلَيْهِ، لَا أَنه رَجَعَ إِلَى مُجَرّد قَول الْغَيْر، أَو أَن قَول السَّائِل أحدث شكا عِنْد رَسُول الله فَسجدَ بِسَبَب حُصُول الشَّك لَهُ، فَلَا يكون رُجُوعا إِلَّا إِلَى حَال نَفسه قلت: هَذَا كَلَام فِيهِ تنَاقض، لِأَن قَوْله: سَأَلَهُمْ إِلَى قَوْله: فَبنى عَلَيْهِ، رُجُوع إِلَى الْغَيْر بِلَا نزاع، وَقَوله: لَا أَنه رَجَعَ إِلَى مُجَرّد قَول الْغَيْر، يُنَاقض ذَلِك.
وَقَوله: فَسجدَ بِسَبَب حُصُول الشَّك، غير مُسلم، لِأَن سُجُوده إِنَّمَا كَانَ للزِّيَادَة لَا للشَّكّ الْحَاصِل من كَلَامهم، لِأَنَّهُ لَو شكّ لَكَانَ تردداً، إِذْ مُقْتَضى الشَّك التَّرَدُّد، فحين سمع قَوْلهم: صليت كَذَا وَكَذَا ثنى رجلَيْهِ واستقبل الْقبْلَة وَسجد سَجْدَتَيْنِ.

وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا.
فَإِن قلت: آخر الحَدِيث يدل على سُجُود السَّهْو بعدالسلام وأوله على عَكسه.
قلت: مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه يسن قبل السَّلَام، وَتَأَول آخر الحَدِيث بِأَنَّهُ قَول، وَالْأول فعل، وَالْفِعْل مقدم على القَوْل لِأَنَّهُ أدل على الْمَقْصُود، أَو أَنه أَمر بِأَن يسْجد بعد السَّلَام بَيَانا للْجُوَاز، وَفعل نَفسه قبل السَّلَام لِأَنَّهُ أفضل.
قلت: لَا نسلم أَن الْفِعْل مقدم على القَوْل، لِأَن مُطلق القَوْل يدل على الْوُجُوب، على أَنا نقُول: يحْتَمل أَن يكون سلم قبل أَن يسْجد سَجْدَتَيْنِ، ثمَّ سلم سَلام سُجُود السَّهْو، فالراوي اخْتَصَرَهُ، وَلِأَن فِي السُّجُود بعد السَّلَام تضَاعف الْأجر، وَهُوَ الْأجر الْحَاصِل من سَلام الصَّلَاة وَمن سَلام سُجُود السَّهْو، وَلِأَنَّهُ شرع جبرا للنقص أَو للزِّيَادَة الَّتِي فِي غير محلهَا وَهِي أَيْضا نقص كالإصبع الزَّائِدَة، والجبر لَا يكون إلاَّ بعد تَمام المجبور، وَمَا بَقِي عَلَيْهِ سَلام الصَّلَاة، فَهُوَ فِي الصَّلَاة.

وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا.
فَإِن قلت: لم عدل عَن لفظ الْأَمر إِلَى الْخَبَر وَغير أسلوب الْكَلَام؟ قلت: لَعَلَّ السَّلَام وَالسُّجُود كَانَا ثابتين يومئذٍ، فَلهَذَا أخبر عَنْهُمَا، وَجَاء بِلَفْظ الْخَبَر بِخِلَاف التَّحَرِّي والإتمام، فَإِنَّهُمَا ثبتا بِهَذَا الْأَمر، أَو للإشعار بِأَنَّهُمَا ليسَا بواجبين كالتحري والإتمام.
قلت: الفصاحة من التفنن فِي أساليب الْكَلَام، وَالنَّبِيّ أفْصح النَّاس لَا يجارى فِي فَصَاحَته، وَقَوله: أَو للإشعار بِأَنَّهُمَا ليسَا بواجبين، غير مُسلم، بل هما واجبان لمقْتَضى الْأَمر الْمُطلق، وَهُوَ قَوْله: (من شكّ فِي صلَاته فليسجد سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يسلم) ، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب هُوَ الْوُجُوب، ذكره فِي (الْمُحِيط) و (الْمَبْسُوط) و (الذَّخِيرَة) و (الْبَدَائِع) وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَعند الْكَرْخِي من أَصْحَابنَا: أَنه سنة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
وعَلى رِوَايَة: (فليتحر الصَّوَاب فليتم عَلَيْهِ ثمَّ ليسلم ثمَّ ليسجد سَجْدَتَيْنِ) ، لَا يرد هَذَا السُّؤَال فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب.

وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا.
فَإِن قلت: السَّجْدَة مُسلم أَنَّهَا لَيست بواجبة، لَكِن السَّلَام وَاجِب.
قلت: وُجُوبه بِوَصْف كَونه قبل السَّجْدَتَيْنِ مَمْنُوع، وَأما نفس وُجُوبه فمعلوم من مَوضِع آخر.
قلت: قَوْله: مُسلم، غير مُسلم لما ذكرنَا الْآن، وَقَوله: مَمْنُوع، غير مَمْنُوع أَيْضا لِأَن مَحل السَّلَام الَّذِي هُوَ للصَّلَاة فِي آخرهَا مُتَّصِلا بهَا فَوَجَبَ بِهَذَا الْوَصْف، وَلَا يمْتَنع أَن يكون الشَّيْء وَاجِبا من جِهَتَيْنِ.

وَمِنْهَا مَا قيل: إِن التَّحَرِّي فِي حَدِيث الْبابُُ مَحْمُول على الْأَخْذ بِالْأَقَلِّ الَّذِي هُوَ الْيَقِين، لِأَن التَّحَرِّي هُوَ الْقَصْد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: { تحروا رشدا} (الْجِنّ: 41) وَمعنى قَوْله (فليتحر الصَّوَاب) : فليتقصد الصَّوَاب فليعمل بِهِ، وَقصد الصَّوَاب هُوَ مَا بَينه فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ مُسلم، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته فَلَا يدْرِي كم صلى ثَلَاثًا أم أَرْبعا؟ فليطرح الشَّك وليبن على الْيَقِين) الحَدِيث.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ مَحْمُول على مَا إِذا تحرى وَلم يَقع تحريه على شَيْء، فحينئذٍ نقُول: إِنَّه يَبْنِي على الْأَقَل، وَلَا يُخَالف هَذَا لما قُلْنَا.

وَمِنْهَا مَا قيل: الْمصير إِلَى التَّحَرِّي لضَرُورَة، وَلَا ضَرُورَة هَهُنَا، لِأَنَّهُ يُمكنهُ إِدْرَاك الْيَقِين بِدُونِهِ بِأَن يَبْنِي على الْأَقَل.
فَلَا حَاجَة إِلَى التَّحَرِّي؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ قد يتَعَذَّر عَلَيْهِ الْوُصُول إِلَى مَا اشْتبهَ عَلَيْهِ بِدَلِيل من الدَّلَائِل، والتحري عِنْد عدم الْأَدِلَّة مَشْرُوع كَمَا فِي أَمر الْقبْلَة.
فَإِن قيل: يسْتَقْبل.
قلت: لَا وَجه لذَلِك لِأَنَّهُ عَسى أَن يَقع لَهُ ثَانِيًا.
وَثَانِيا إِلَى مَا لَا يتناهى، فَإِن قلت: يبنيه على الْأَقَل.
قلت: لَا وَجه لذَلِك أَيْضا، لِأَن ذَلِك لَا يوصله إِلَى مَا عَلَيْهِ، فَلَا يَبْنِي على الْأَقَل إلاّ عِنْد عدم وُقُوع تحريه على شَيْء، كَمَا ذكرنَا.