فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، وذكر القبلة

( بابُُ عِظَةِ الإمامِ النَّاسَ فِي إتْمَامِ الصَّلاةِ وذِكْرِ القِبْلَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان وعظ الإِمَام النَّاس بِأَن يتموا صلَاتهم وَلَا يتْركُوا مِنْهَا شَيْئا، والعظة على وزن: عِلّة، مصدر من: وعظ يعظ وعظاً وعظة وموعظة، وأصل: عظة: وعظ، فَلَمَّا حذفت مِنْهُ الْوَاو عوضت مِنْهَا التَّاء فِي آخِره، أما الْحَذف فلوجوده فِي فعله، وَأما كسر الْعين فَمن الْوَاو.
فَافْهَم.
والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، وَيُقَال: وعظته فاتعظ أَي: قبل الموعظة.

وَجه الْمُنَاسبَة فِي ذكر هَذَا الْبابُُ عقيب الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة من حَيْثُ إِنَّه كَانَ فِيهَا أَمر وَنهي وَتَشْديد فيهمَا، وَهِي كلهَا وعظ ونصح، وَهَذَا الْبابُُ أَيْضا فِي الْوَعْظ والنصح.
قَوْله: ( وَذكر الْقبْلَة) بِالْجَرِّ عطف على: ( عظة) أَي: وَفِي بَيَان الْقبْلَة.



[ قــ :410 ... غــ :418]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّه بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أَن رَسُول الله قَالَ ( هلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي ههُنا فَوَا مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشوُعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ إنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ ورَاءِ ظِهْرِي) .
( الحَدِيث 814 طرفه فِي: 147) .


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي هَذَا الحديبث وعظاً لَهُم وتذكيراً وتنبيهاً لَا يخفى عَلَيْهِ ركوعهم وسجودهم، يظنون أَنه لَا يراهم لكَونه مستدبراً لَهُم، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، لِأَنَّهُ يرى من خَلفه مثل مَا يرى من بَين يَدَيْهِ.

ذكر رِجَاله: وَقد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد اللَّه بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا هَهُنَا عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( هَل ترَوْنَ قِبْلَتِي؟) اسْتِفْهَام على سَبِيل إِنْكَار مَا يلْزمه مِنْهُ، الْمَعْنى، أَنْتُم تحسبون قِبْلَتِي هَهُنَا، وإنني لَا أرى إلاَّ مَا فِي هَذِه الْجِهَة، فوا إِن رؤيتي لَا تخْتَص بِجِهَة قِبْلَتِي هَذِه، فَإِنِّي أرى من خَلْفي كَمَا أرى من جِهَة قِبْلَتِي، ثمَّ الْعلمَاء اخْتلفُوا هَهُنَا فِي موضِعين: الأول: فِي معنى هَذِه الرُّؤْيَة، فَقَالَ قوم: المُرَاد بهَا الْعلم إِمَّا بطرِيق أَنه كَانَ يُوحى إِلَيْهِ بَيَان كَيْفيَّة فعلهم، وَإِمَّا بطرِيق الإلهام، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك بطرِيق الْعلم مَا كَانَت فَائِدَة فِي التَّقْيِيد بقوله: ( من وَرَاء ظَهْري) ،.

     وَقَالَ  قوم: المُرَاد بِهِ أَنه يرى من عَن يَمِينه وَمن عَن يسَاره، مِمَّن تُدْرِكهُ عينه مَعَ الْتِفَات يسير فِي بعض الْأَحْوَال وَهَذَا أَيْضا لَيْسَ بِشَيْء، وَهُوَ ظَاهر.
.

     وَقَالَ  الْجُمْهُور، وَهُوَ الصَّوَاب: إِنَّه من خَصَائِصه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِن إبصاره إِدْرَاك حَقِيقِيّ انخرقت لَهُ فِيهِ الْعَادة، وَلِهَذَا أخرجه البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي عَلَامَات النُّبُوَّة، وَفِيه دلَالَة للأشاعرة حَيْثُ لَا يشترطون فِي الرُّؤْيَة مُوَاجهَة وَلَا مُقَابلَة، وجوزوا إبصار أعمى الصين بقْعَة أندلس قلت: هُوَ الْحق عِنْد أهل السّنة: إِن الرُّؤْيَة لَا يشْتَرط لَهَا عقلا عُضْو مَخْصُوص، وَلَا مُقَابلَة وَلَا قرب، فَلذَلِك حكمُوا بِجَوَاز رُؤْيَة اتعالى فِي الدَّار الْآخِرَة خلافًا للمعتزلة فِي الرُّؤْيَة مُطلقًا، وللمشبهة والكرامية فِي خلوها عَن المواجهة وَالْمَكَان، فَإِنَّهُم إِنَّمَا جوزوا رُؤْيَة اتعالى لاعتقادهم كَونه تَعَالَى فِي الْجِهَة وَالْمَكَان، وَأهل السّنة أثبتوا رُؤْيَة اتعالى بِالنَّقْلِ وَالْعقل، كَمَا ذكر فِي مَوْضِعه، وبينوا بالبرهان على أَن تِلْكَ الرُّؤْيَة مبرأة عَن الانطباع والمواجهة واتصال الشعاع بالمرئي.
الْموضع الثَّانِي: اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة رُؤْيَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من خلف ظَهره، فَقيل: كَانَت لَهُ عين خلف ظَهره يرى بهَا من وَرَائه دَائِما، وَقيل: كَانَت لَهُ بَين كَتفيهِ عينان مثل سم الْخياط، يَعْنِي: مثل خرق الإبرة يبصر بهما لَا يحجبهما ثوب وَلَا غَيره.
وَقيل: بل كَانَت صورهم تنطبع فِي حَائِط قبلته كَمَا تنطبع فِي الْمرْآة أمثلتهم فِيهَا، فيشاهد بذلك أفعالهم.
قَوْله: ( لَا يخفى عَليّ ركوعكم وَلَا خُشُوعكُمْ) يَعْنِي: إِذا كنت فِي الصَّلَاة مستدبراً لكم؛ وَيجوز أَن يكون المُرَاد من الْخُشُوع السُّجُود لِأَنَّهُ غَايَة الْخُشُوع، وَقد صرح فِي رِوَايَة مُسلم بِالسُّجُود، وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ أَعم من ذَلِك.
فَيتَنَاوَل جَمِيع أفعالهم فِي صلَاتهم.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْخُشُوع بِمَعْنى الْأَعَمّ يتَنَاوَل الرُّكُوع أَيْضا، فَمَا فَائِدَة ذكره، قلت: لكَونه من أكبر عمد الصَّلَاة، وَذَلِكَ لِأَن الرجل مَا دَامَ فِي الْقيام لَا يتَحَقَّق أَنه فِي الصَّلَاة، فَإِذا ركع تحقق أَنه فِي الصَّلَاة، وَيكون فِيهِ عطف الْعَام على الْخَاص.
قَوْله: ( فوا) ، قسم مِنْهُ وَجَوَابه قَوْله: ( لَا يخفى) .
وَقَوله: ( إِنِّي لأَرَاكُمْ) إِمَّا بَيَان وَإِمَّا بدل.
قَوْله: ( ركوعكم) بِالرَّفْع فَاعل ( لَا يخفى) وَقَوله: ( وَلَا خُشُوعكُمْ) ، عطف عَلَيْهِ، أَي: لَا يخفى عَليّ خُشُوعكُمْ، والهمزة فِي لأَرَاكُمْ مَفْتُوحَة، وَاللَّام للتَّأْكِيد.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ أَنه يَنْبَغِي للْإِمَام إِذا رأى أحدا مقصراً فِي شَيْء من أُمُور دينه أَو نَاقِصا للكمال مِنْهُ أَن ينهاه عَن فعله، ويحضه على مَا فِيهِ جزيل الْحَظ.
أَلا ترى أَنه كَيفَ وبخ من نقص كَمَال الرُّكُوع وَالسُّجُود، ووعظهم فِي ذَلِك بِأَنَّهُ يراهم من وَرَاء ظَهره كَمَا يراهم من بَين يَدَيْهِ؟ وَفِي تَفْسِير سنيد: حدّثنا حجاج عَن ابْن أبي ذِئْب حدّثنا يحيى بن صَالح حدّثنا فليح عَن هِلَال ابْن عَليّ عَن أنس قَالَ: ( صلى لنا رَسُول الله صَلَاة، ثمَّ رقى الْمِنْبَر فَقَالَ، فِي الصَّلَاة وَفِي الرُّكُوع إِنِّي لأَرَاكُمْ من ورائي كَمَا أَرَاكُم) .
وَفِي لفظ: ( أُقِيمَت الصَّلَاة فَأقبل علينا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أقِيمُوا صفوفكم وتراصوا، فَإِنِّي أَرَاكُم من وَرَاء ظَهْري) .
وَفِي لفظ: ( أقِيمُوا الرُّكُوع وَالسُّجُود فوا إِنِّي لأَرَاكُمْ من بعدِي، وَرُبمَا قَالَ: من بعد ظَهْري، إِذا رَكَعْتُمْ وَإِذا سجدتم) .
وَعند مُسلم: ( صلى بِنَا ذَات يَوْم، فَلَمَّا قضى صلَاته أقبل علينا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَيهَا النَّاس: إِنِّي إمامكم فَلَا تسبقوني بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُود وَلَا بالانصراف، فَإِنِّي أَرَاكُم أَمَامِي وَمن خَلْفي، ثمَّ قَالَ.
وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ، لَو رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْت لضحكتم قَلِيلا ولبكيتم كثيرا.
قَالُوا: وَمَا رَأَيْت يَا رَسُول ا؟ قَالَ رَأَيْت: الْجنَّة وَالنَّار)
.




[ قــ :411 ... غــ :419]
- ( حَدثنَا يحيى بن صَالح قَالَ حَدثنَا فليح بن سُلَيْمَان عَن هِلَال بن عَليّ عَن أنس بن مَالك قَالَ صلى بِنَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاة ثمَّ رقي الْمِنْبَر فَقَالَ فِي الصَّلَاة وَفِي الرُّكُوع إِنِّي لأَرَاكُمْ من ورائي كَمَا أَرَاكُم) مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث الَّذِي قبله.
( ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة.
يحيى بن صَالح الوحاظي بِضَم الْوَاو الثَّانِي فليح بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة وَقد مر ذكره الثَّالِث اهلال بن عَليّ وَيُقَال هِلَال بن أبي هِلَال بن عَليّ وَيُقَال ابْن أُسَامَة الفِهري الْمَدِينِيّ مَاتَ فِي آخر خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك الرَّابِع أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
( ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان عَن فليح وَأخرجه فِي الرقَاق عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن فليح عَن أَبِيه بِهِ.
( ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " صلى لنا " أَي صلى لأجلنا قَوْله " صَلَاة " بالتنكير للإبهام قَوْله " ثمَّ رقي الْمِنْبَر " بِكَسْر الْقَاف وَيجوز فتحهَا على لُغَة طَيء قَوْله " فَقَالَ فِي الصَّلَاة " فِيهِ حذف تَقْدِيره فَقَالَ فِي شَأْن الصَّلَاة وَفِي أمرهَا أَو يكون متعلقها محذوفا تَقْدِيره أَرَاكُم فِي الصَّلَاة.

     وَقَالَ  بَعضهم هُوَ مُتَعَلق بقوله بعد لأَرَاكُمْ ( قلت) هَذَا غلط لِأَن مَا فِي حيّز ان لَا يتَقَدَّم عَلَيْهَا قَوْله " وَفِي الرُّكُوع " إِنَّمَا أفرده بِالذكر وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي الصَّلَاة للاهتمام بِشَأْنِهِ إِمَّا لِأَنَّهُ أعظم أَرْكَانهَا بِدَلِيل أَن الْمَسْبُوق لَو أدْرك الرُّكُوع أدْرك تِلْكَ الرَّكْعَة بِتَمَامِهَا وَإِمَّا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم أَنهم قصروا فِي حَال الرُّكُوع فَذكره لزِيَادَة التَّنْبِيه قَوْله " من ورائي " وَفِي بعض الرِّوَايَات " من وَرَاء " حذفت الْيَاء مِنْهُ وَاكْتفى بالكسرة عَنْهَا.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي ( فَإِن قلت) الرُّؤْيَة من الوراء كَانَت مَخْصُوصَة بِحَال الصَّلَاة أم هِيَ عَامَّة لجَمِيع الْأَحْوَال ( قلت) اللَّفْظ سِيمَا فِي الحَدِيث السَّابِق يَقْتَضِي الْعُمُوم والسياق يَقْتَضِي الْخُصُوص ( قلت) نقل عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ فِي جَمِيع أَحْوَاله قَوْله " كَمَا أَرَاكُم " أَي كَمَا أَرَاكُم من أَمَامِي وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة أُخْرَى كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي رِوَايَة مُسلم " إِنِّي لَأبْصر من ورائي كَمَا أبْصر من بَين يَدي " وَعَن بَقِي بن مخلد أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يبصر فِي الظلمَة كَمَا يبصر فِي الضَّوْء وَالْكَاف فِي كَمَا أَرَاكُم للتشبيه فالمشبه بِهِ الرُّؤْيَة الْمقيدَة بالوراء وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت فِي الحَدِيث السَّابِق