فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب فيه

( بابُُ مَنْ دَعا لِطَعَامٍ فى المَسْجِدِ وَمَنْ أجابَ مِنه)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم من دعى إِلَى آخِره، وَقَوله: ( فِي الْمَسْجِد) يتَعَلَّق بقوله: ( دَعَا) ، لَا بقوله: ( لطعام) .
فَإِن قلت: صلَة: دَعَا، بِكَلِمَة: إِلَى، نَحْو: { وَا يدعوا إِلَى دَار السَّلَام} ( يُونُس: 52) وبالباء فِي نَحْو: ( دَعَا هِرقل بِكِتَاب رَسُول اصلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم) ، و: اللَّام، للاختصاص، فَمَا وَجه هَذَا؟ قلت: تخْتَلف صلات الْفِعْل بِحَسب اخْتِلَاف الْمعَانِي، فَإِذا قصد بَيَان الِانْتِهَاء جِيءَ بِكَلِمَة: إِلَى، وَإِذا قصد معنى الطّلب جِيءَ: بِالْبَاء، وَإِذا قصد معنى الِاخْتِصَاص جِيءَ: بِاللَّامِ، وَهَهُنَا قصد معنى الِاخْتِصَاص.
قَوْله: ( وَمن أجَاب مِنْهُ) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( وَمن أجَاب إِلَيْهِ) .
فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: كلمة: من، فِي رِوَايَة: مِنْهُ للابتداء، وَالضَّمِير يعود على: الْمَسْجِد، وَفِي رِوَايَة: إِلَى، يعود الضَّمِير إِلَى الطَّعَام.
فَإِن قلت: مَا قصد البُخَارِيّ من هَذَا التَّبْوِيب؟ قلت: الْإِشَارَة إِلَى أَن هَذَا من الْأُمُور الْمُبَاحَة، وَلَيْسَ من اللَّغْو وَالَّذِي يمْنَع فِي الْمَسَاجِد.

فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسب بَين هَذَا الْبابُُ وَالَّذِي قبله؟ قلت: من قَوْله: بابُُ حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد، إِلَى قَوْله: بابُُ ستْرَة الإِمَام، خَمْسَة وَخَمْسُونَ بابُُا كلهَا فِيمَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الْمَسَاجِد، فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر وَجه الْمُنَاسبَة بَينهَا على الْخُصُوص.



[ قــ :414 ... غــ :422]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ إسْحاقَ بن عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَ أنَساً قَالَ وجَدْتُ النَّبيَّ فِي المَسْجِدِ مَعَهُ ناسٌ فَقُمْتُ فقالِ لِي أرْسَلَكَ أبُو طَلْحَةَ.

قُلْتُ نَعَمْ فقالَ لِطَعَامٍ.

قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا فانْطَلَقَ وانْطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ.
( الحَدِيث 224 أَطْرَافه فِي: 8753، 1835، 0545، 8866) .


مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة كلهَا ظَاهِرَة، أما الشق الأول: فلأنَّا قد ذكرنَا أَن: فِي الْمَسْجِد، يتَعَلَّق بقوله: دَعَا، لَا بقوله: لطعام، فَحصل الدُّعَاء إِلَى الطَّعَام فِي الْمَسْجِد.
وَأما الشق الثَّانِي: فَهُوَ إِجَابَة النَّبِي بقوله لمن حوله: قومُوا، فَبِهَذَا التَّقْرِير ينْدَفع اعْتِرَاض من يَقُول: إِن الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة فِي الشق الثَّانِي فَقَط فَافْهَم.

وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم، إِسْحَاق بن عبد اللَّه، ابْن أخي أنس من جِهَة الْأُم.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وفرقهما.
وَأخرجه أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة مطولا، وَفِي الْأَطْعِمَة وَالْإِيمَان وَالنُّذُور.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى، وَفِي الْأَطْعِمَة.
وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن عِيسَى، وَفِي المناقب وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة كلهم عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه فِي الْوَلِيمَة أَيْضا.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( وجدت) أَي: أصبت، وَلِهَذَا اكْتفى بمفعول وَاحِد.
قَوْله: ( فِي الْمَسْجِد) ، حَال من النَّبِي وَقَوله: ( وَمَعَهُ نَاس) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا.
قَوْله: ( أرسلك) ، ويروي: ( أأرسلك) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام.
قَوْله: ( أَبُو طَلْحَة) ، هُوَ: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ أحد نقباء الْعقبَة، شهد الْمشَاهد كلهَا، رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَتسْعُونَ حَدِيثا، مِنْهَا للْبُخَارِيّ ثَلَاثَة، وَهُوَ زوج أم أنس، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ على الْأَصَح.
قَوْله: ( قَالَ لطعام) ، ويروى: ( للطعام) .
قَوْله: ( قَالَ لمن حوله) مَنْصُوب بالظرفية أَي: لمن كَانَ حوله.
قَوْله: ( فَانْطَلق) أَي: إِلَى بَيت أبي طَلْحَة، وَفِي بعض النّسخ: ( فَانْطَلقُوا) أَي: انْطلق النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَمن كَانَ مَعَه.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الحجابة، وَهُوَ أَن يتَقَدَّم بعض الخدام بَين يَدي الإِمَام وَنَحْوه.
وَفِيه: الدُّعَاء إِلَى الطَّعَام وَإِن لم يكن وَلِيمَة.
وَفِيه: أَن الدُّعَاء إِلَى ذَلِك من الْمَسْجِد وَغَيره سَوَاء، لِأَن ذَلِك من أَعمال الْبر، وَلَيْسَ ثَوَاب الْجُلُوس فِي الْمَسْجِد بِأَقَلّ من ثَوَاب الْإِطْعَام.
وَفِيه: دُعَاء السُّلْطَان إِلَى الطَّعَام الْقَلِيل.
وَفِيه: أَن الرجل الْكَبِير إِذا دعِي إِلَى طَعَام، وَعلم أَن صَاحبه لَا يكره أَن يجلب مَعَه غَيره ان الطَّعَام يكفيهم انه لَا بَأْس بِأَن يحمل مَعَه من حَضَره وانما حملهمْ النَّبِي بأصلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، إِلَى طَعَام، أبي طَلْحَة، وَهُوَ قَلِيل، لعلمه أَنه يَكْتَفِي جَمِيعهم ببركته وَمَا خصّه اتعالى بِهِ من الْكَرَامَة والفضيلة، وَهُوَ من عَلَامَات النُّبُوَّة.