فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء

(بابُُ القَضاء واللِّعَانِ فِي المَسْجِدِ بَيْنَ الرِّجال والنِّساء)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الْقَضَاء، وَهُوَ: الحكم وَحكم اللّعان فِي الْمَسْجِد، وَعطف اللّعان على الْقَضَاء من عطف الْخَاص على الْعَام، لِأَن الْقَضَاء أَعم من أَن يكون فِي اللّعان أَو غَيره، وَاللّعان مصدر: لَا عَن من: اللَّعْن، وَهُوَ الطَّرْد والإبعاد، وَسمي بِهِ لما فِيهِ من لعن نَفسه فِي الْخَامِسَة، وَهِي من تَسْمِيَة الْكل باسم الْبَعْض، كَالصَّلَاةِ تسمى رُكُوعًا وسجوداً.
وَاللّعان، عندنَا: شَهَادَات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن قَائِمَة مقَام الْقَذْف فِي حَقه، ومقام حد الزِّنَا فِي حَقّهَا، وَعند الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد: هُوَ أَيْمَان مؤكدات بِلَفْظ الشَّهَادَة بِشَرْط أهليه الْيَمين، وَصفَة اللّعان مَا نطق بِهِ نَص الْقُرْآن فِي سُورَة النُّور، وَهُوَ أَن يبتدىء القَاضِي بِالزَّوْجِ فَيشْهد أَربع شَهَادَات يَقُول فِي كل مرّة أشهد با أَنِّي لمن الصَّادِقين فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا، يُشِير إِلَيْهَا فِي كل مرّة، وَيَقُول فِي الْخَامِسَة: لعنة اعليه إِن كَانَ من الْكَاذِبين، فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا، ثمَّ تشهد الْمَرْأَة أَربع شَهَادَات تَقول فِي كل مرّة أشهد با أَنه لمن الْكَاذِبين فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا، وَتقول فِي الْخَامِسَة: غضب اعليها إِن كَانَ من الصَّادِقين فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا.
قَوْله: (بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء) ، حَشْو، وَلِهَذَا لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.



[ قــ :415 ... غــ :423]
- حدّثنا يَحْيَى قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ شِهابٍ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدِ أنَ رَجُلاً قَالَ يَا رسولَ اأرَأيَتَ رَجُلاً وجَدَ مَعَ امْرأتِهِ رَجُلاً أيقْتُلُهُ فَتَلاَعَنَا فِي المَسْجِدِ وَأَنا شاهِدٌ.
(الحَدِيث 324 أَطْرَافه فِي: 5474، 6474، 9525، 8035، 9035، 4586، 5617، 6617، 4037) .


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَيَقْتُلُهُ) ، لِأَنَّهُ لَو لم ير مُبَاشرَة تَامَّة لما سَأَلَ رَسُول اعن جَوَاز قتل الرجل، وَإِلَّا فمجرد وجدان الرجل مَعَ امْرَأَته من غير مُبَاشرَة لَا يَقْتَضِي سُؤال الْقَتْل فِيهِ، فَفِي الْجُمْلَة لَيْسَ فِيهِ إِشْعَار بِالزِّنَا، وَلَا يَقْتَضِيهِ إلاَّ مَا يفهم من قَوْله: أَيَقْتُلُهُ؟ .

ذكر رِجَاله: خَمْسَة: الأول: يحيى بن مُوسَى أَبُو زَكَرِيَّا، يعرف بالخت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق.
الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام الصَّنْعَانِيّ.
الثَّالِث: عبد الْملك بن جريج.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: سهل بن سعد بن مَالك بن خَالِد الخزرجي السَّاعِدِيّ، أَبُو الْعَبَّاس، وَقيل: أَبُو يحيى.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: حَدَّثَنَا يحيى مُجَردا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يحيى بن مُوسَى.
.

     وَقَالَ  ابْن السكن: هُوَ يحيى بن مُوسَى، وَقيل: هُوَ يحيى بن جَعْفَر البيكندي.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ: يحيى بن معِين، لِأَنَّهُ سمع من عبد الرَّزَّاق قلت: الْأَصَح مَا قَالَه ابْن السكن.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي وصنعاني ومكي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّه، وَفِي التَّفْسِير عَن عبد اللَّه بن يُوسُف، كِلَاهُمَا عَن مَالك، وَفِي الِاعْتِصَام عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب، وَفِي الْأَحْكَام، وَفِي الْمُحَاربين عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن سُفْيَان، وَفِي التَّفْسِير عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن فليح، وَعَن إِسْحَاق عَن الْفرْيَابِيّ عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَفِي الطَّلَاق أَيْضا عَن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق.
وَأخرجه مُسلم فِي اللّعان عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك، وَعَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن مَالك مطولا، وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي بِبَعْضِه، وَعَن مُسَدّد ووهب بن بَيَان وَأحمد بن عَمْرو بن السَّرْح وَعَمْرو بن عُثْمَان، وَعَن مَحْمُود بن خَالِد، وَعَن أَحْمد بن صَالح، وَعَن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْوَركَانِي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان.

ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ: قَوْله: (أَن رجلا) اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: إِنَّه هِلَال بن أُميَّة وَقيل: عَاصِم بن عدي، وَقيل: عُوَيْمِر الْعجْلَاني.
قلت: روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ: (عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ أَن عويمراً جَاءَ إِلَى عَاصِم ابْن عدي فَقَالَ: أَرَأَيْت رجلا وجد مَعَ امْرَأَته رجلا فَقتله أتقتلونه؟ سل يَا عَاصِم رَسُول ا)
الحَدِيث، وَفِي حَدِيث أنس، رَضِي اتعالى عَنهُ، هِلَال بن أُميَّة، روى الطَّحَاوِيّ عَن حَدِيث ابْن سِيرِين: (عَن أنس بن مَالك أَن هِلَال بن أُميَّة قذف شريك ابْن سمحاء بامرأته، فَرفع ذَلِك إِلَى رَسُول الله فَقَالَ: (ائْتِ بأَرْبعَة شُهَدَاء، وإلاَّ فحد فِي ظهرك)
الحَدِيث.
وَفِيه: (فَنزلت آيَة اللّعان) ، وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: عُوَيْمِر الْعجْلَاني: (أَن رَسُول الله لَا عَن بَين الْعجْلَاني وَامْرَأَته)
الحَدِيث، وَرَاه الطَّحَاوِيّ وَأحمد فِي (مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) وَوَقع فِي حَدِيث عبد اللَّه بن مَسْعُود: وَكَانَ رجلا من الْأَنْصَار جَاءَ إِلَى رَسُول الله فلاعن امْرَأَته.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: الصَّحِيح أَن الْقَاذِف: عُوَيْمِر، وَالَّذِي ذكر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس من قَوْله الْعجْلَاني هُوَ عُوَيْمِر، وَكَذَا فِي قَول عبد اللَّه بن مَسْعُود، وَكَانَ رجلا، وهلال بن أُميَّة خطأ، وَأَظنهُ غَلطا من هِشَام بن حسان، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا قصَّة وَاحِدَة، وَالدَّلِيل على ذَلِك توقفه فِيهَا حَتَّى نزلت الْآيَة الْكَرِيمَة، وَلَو أَنَّهُمَا قضيتان لم يتَوَقَّف على الحكم فِي الثَّانِيَة بِمَا نزل عَلَيْهِ فِي الأولى.
قلت: كَأَنَّهُ تبع فِي هَذَا الْكَلَام مُحَمَّد بن جرير، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (التَّهْذِيب) : يستنكر قَوْله فِي الحَدِيث: هِلَال بن أُميَّة، وَإِنَّمَا الْقَاذِف عُوَيْمِر بن الْحَارِث بن زيد بن الْجد بن عجلَان.
وَفِيمَا قَالَاه نظر لِأَن قَضِيَّة هِلَال وقذفه زَوجته بِشريك ثَابِتَة فِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي موضِعين: الشَّهَادَات وَالتَّفْسِير وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أنس.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: الصَّحِيح أَن هلالاً لَا عَن قبل عُوَيْمِر،.

     وَقَالَ  الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي.
الْأَكْثَرُونَ على أَن قصَّة هِلَال أسبق من قصَّة عُوَيْمِر، وَفِي (الشَّامِل) لِابْنِ الصّباغ قصَّة هِلَال، تبين أَن الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِيهِ أَولا.

قَوْله: (أَرَأَيْت رجلا؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، أَي: أَخْبرنِي بِحكمِهِ فِي أَنه هَل يجوز قَتله أَو لَا؟ قَوْله: (فَتَلَاعَنا) ، فِيهِ حذف كثير وَقد بَين ذَلِك فِي غَيره من الْأَحَادِيث الَّتِي أخرجهَا البُخَارِيّ مكررة، كَمَا ذكرنَا، والمحذوف بعد قَوْله: (أَيَقْتُلُهُ) أم كَيفَ يفعل؟ فَأنْزل افي شَأْنه مَا ذكر فِي الْقُرْآن من أَمر المتلاعنين، فَقَالَ النَّبِي: قد قضى فِيك وَفِي امْرَأَتك، قَالَ: فَتَلَاعَنا فِي الْمَسْجِد وَأَنا شَاهد، فَلَمَّا فرغا قَالَ: كذبت عَلَيْهَا يَا رَسُول اإن أَمْسَكتهَا، فَطلقهَا ثَلَاثًا قبل أَن يإمره رَسُول الله حِين فرغا من التلاعن، ففارقها عِنْد النَّبِي فَقَالَ: (ذَاك تَفْرِيق بَين كلا متلاعنين)
الحَدِيث وَسَيَأْتِي أَحْكَام اللّعان مستقصاة فِي كتاب اللّعان، وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا لأجل جَوَاز الْقُضَاة فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ جَائِز عِنْد عَامَّة الْعلمَاء،.

     وَقَالَ  مَالك: جُلُوس القَاضِي فِي الْمَسْجِد للْقَضَاء من الْأَمر الْقَدِيم الْمَعْمُول بِهِ،.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: وَكَانَ من مضى من الْقَضَاء لَا يَجْلِسُونَ إلاَّ فِي رحاب الْمَسَاجِد خَارِجا.
.

     وَقَالَ  أَشهب: لَا بَأْس أَن يقْضِي فِي بَيته أَو حَيْثُ أحب، وَاسْتحبَّ بَعضهم الرحاب، وَفِي (المعونة) : الأولى أَن يقْضِي فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ شُرَيْح وَابْن أبي ليلى يقضيان فِيهِ، وَرُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب كَرَاهِيَة ذَلِك، قَالَ: لَو كَانَ لي من الْأَمر شَيْء مَا تركت اثْنَيْنِ يختصمان فِي الْمَسْجِد.
وَعَن الشَّافِعِي كراهيته فِي الْمَسْجِد إِذا أعده لذَلِك دون مَا إِذا انفقت لَهُ حُكُومَة فِيهِ، إِذْ فِيهِ حَدِيث: (جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ رفع أَصْوَاتكُم وَخُصُومَاتكُمْ) ، وَلَا يعْتَرض على هَذَا بِاللّعانِ لِأَنَّهَا أَيْمَان وَيُرَاد بهَا التَّرْهِيب ليرْجع الْمُبْطل.

قلت: قَالَ أَصْحَابنَا جَمِيعًا: وَالْمُسْتَحب أَن يجلس فِي مجْلِس الحكم فِي الْجَامِع، فَإِن كَانَ مَسْجِدا بِجنب دَاره فَلهُ ذَلِك، وَإِن قضى فِي دَاره جَازَ، وَالْجَامِع أرْفق الْمَوَاضِع بِالنَّاسِ وأجدر أَن لَا يخفى على أحد جُلُوسه وَلَا يَوْم حكمه، وَقد كَانَ الشّعبِيّ يقْضِي فِي الْجَامِع، وَشُرَيْح يقْضِي فِي الْمَسْجِد ويخطب بِالسَّوَادِ، وَقد قضى النَّبِي فِي مَسْجده بَين الْأَنْصَار فِي مَوَارِيث تقادمت، وَكَانَت الْأَئِمَّة يقضون فِي الْمَسَاجِد، وَعُثْمَان، رَضِي اتعالى عَنهُ فِي الْحر يُقيم فِي الْمَسْجِد وَقضى بَين سقا وخصم لَهُ فِي الْمَسْجِد، وَإِن حضر فِي الْمَسْجِد لغير الحكم فَحَضَرَ خصمان لم يكره لَهُ أَن يحكم بَينهمَا، وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز: لَا يقْعد القَاضِي فِي الْمَسْجِد يدْخل فِيهِ الْمُشْركُونَ، فَإِنَّهُم نجس، وتلا الْآيَة.
وَكَانَ يحيى بن يعمر فِي الطَّرِيق، وقصده رجل إِلَى منزله فَقَالَ: القَاضِي لَا يُؤْتى فِي منزله.