فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد

( بابٌ هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الجَاهِليَّةِ وَيُتَّخَذُ مَكانُهَا مَسَاجِدَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ نبش قُبُور الْمُشْركُونَ الَّذين هَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيَّة، يَعْنِي: يجوز ذَلِك لما صرح بِهِ فِي حَدِيث الْبَاب فَإِن قلت: كَيفَ يُفَسر كَذَلِك وَفِيه كلمة: هَل، للاستفهام؟ قلت: هَل هُنَا للاستفهام التقريري، وَلَيْسَ بإستفهام حَقِيقِيّ صرح بذلك جمَاعَة من الْمُفَسّرين، وَقَوله تَعَالَى: { هَل أَتَى على الْإِنْسَان} ( الْإِنْسَان: 1) وَيَأْتِي: هَل، أَيْضا بِمَعْنى: قد كَذَا فسر الْآيَة جمَاعَة، مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَالْكسَائِيّ وَالْفراء والمبرد، وَذكر فى ( المقتضب) هَل للاستفهام نَحْو: هَل جَاءَ زيد؟ وَتَكون بِمَنْزِلَة: قد، نَحْو قَوْله تَعَالَى: { هَل اتى على الْإِنْسَان} ( الْإِنْسَان: 1) وَقد بَالغ الزَّمَخْشَرِيّ فَزعم أَنَّهَا أبدا بِمَعْنى: قد وَإِنَّمَا الِاسْتِفْهَام مُسْتَفَاد من همزَة مقدرَة مَعهَا، وَنَقله فِي ( الْمفصل) عَن سِيبَوَيْهٍ،.

     وَقَالَ  فِي ( الْكَشَّاف) : { هَل أَتَى} ( الْإِنْسَان: 1) أَي: قد أَتَى، على معنى التَّقْرِير والتقريب فِيهِ جَمِيعًا، وَمن عكس الزَّمَخْشَرِيّ هَهُنَا فقد عكس نَفسه: ( إِذا قَالَت حذام فصدقوها ... فَإِن القَوْل مَا قَالَت حذام) وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا أحسن من الَّذِي يُقَال: إِن ذكر كلمة: هَل، هَهُنَا لَيْسَ لَهُ مَحل، لِأَن عَادَته إِنَّمَا يذكر: هَل، إِذا كَانَ حكم الْبَاب فِيهِ خلاف، وَلَيْسَ هَهُنَا خلاف، وَلم أَرَ شارحاً هُنَا شفى العليل وَلَا أروى الغليل، وَقد فسر بَعضهم بَاب: هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة؟ بقوله: أَي: دون غَيرهَا من قُبُور الْأَنْبِيَاء وأتباعهم، قلت: هَذَا تَفْسِير عَجِيب مُسْتَفَاد من سوء التَّصَرُّف، لِأَن مَعْنَاهُ ظَاهر، وَهُوَ جَوَاز نبش قُبُور الْمُشْركين لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُم فيستفاد مِنْهُ عدم جَوَاز نبش قُبُور غَيرهم سَوَاء كَانَت قُبُور الْأَنْبِيَاء أَو قُبُور غَيرهم من الْمُسلمين لما فِيهِ من الإهانة لَهُم، فَلَا يجوز ذَلِك، لِأَن حُرْمَة الْمُسلم لَا تَزُول حَيا وَمَيتًا، فَإِن كَانَ هَذَا الْقَائِل اعْتمد فِي هَذَا التَّفْسِير على حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب، فَلَيْسَ فِيهِ ذكر النبش وَهُوَ ظَاهر، وانما فِيهِ أَنهم إِذا مَاتَ فيهم رجل صَالح يبنون على قَبره مَسْجِدا ويصورون فِيهِ تصاوير، وَلَا يلْزم من ذَلِك النبش، لِأَن بِنَاء الْمَسْجِد على الْقَبْر من غير نبش مُتَصَوّر.
قَوْله: ( ويتخذ مَكَانهَا مَسَاجِد) عطف على قَوْله: ( تنبش) و: ( مَكَانهَا) مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة.
و: ( مَسَاجِد) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَهَذَا الْوَجْه إِذا جعل الإتخاذ مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد، وَأما إِذا جعل مُتَعَدِّيا إِلَى مفعولين على مَا هُوَ الأَصْل، لِأَنَّهُ من أَفعَال التصيير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَاتخذ اإبراهيم خَلِيلًا} ( النِّسَاء: 521) فَيكون أحد المفعولين: مَكَانهَا، فحينئذٍ يرفع على أَنه مفعول بِهِ قَامَ مقَام الْفَاعِل، بِخِلَاف الْوَجْه الأول فَإِنَّهُ فِيهِ مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة، كَمَا ذكرنَا، وَالْمَفْعُول الثَّانِي هُوَ: مَسَاجِد بِالنّصب.
فَإِنَّهُم.
فَإِن الْكرْمَانِي ذكر فِيهِ مَا لَا يَخْلُو عَن نظر وَتَأمل.
لَقْولِ النبيِّ: ( لَعَنَ االيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أْنبِيَائِهمْ مَسَاجِدَ) هَذَا تَعْلِيل قَوْله: ( ويتخذ مَكَانهَا مَسَاجِد) ، خَاصَّة لِأَن التَّرْجَمَة شَيْئَانِ وَالتَّعْلِيل للشق الثَّانِي.
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن الْيَهُود لما خصوا باللعنة باتخاذهم قُبُور الْأَنْبِيَاء مَسَاجِد علم جَوَاز اتِّخَاذ قُبُور غَيرهم وَمن هم فِي حكمهم من الْمُسلمين.
فَإِن قلت: أَلَيْسَ فِي اتِّخَاذ قُبُور الْمُشْركين مَسَاجِد تَعْظِيم لَهُم؟ قلت: لَا يسْتَلْزم ذَلِك، لِأَنَّهُ إِذا نبشت قُبُورهم ورميت عظامهم تصير الأَرْض طَاهِرَة، مِنْهُم، وَالْأَرْض كلهَا مَسْجِد، لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي آخر كتاب الْجَنَائِز فِي بَاب مَا جَاءَ فِي قبر النَّبِي، حدّثنا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حدّثنا أَبُو عوَانَة عَن هِلَال عَن عُرْوَة: ( عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله فِي مَرضه الَّذِي لم يقم مِنْهُ: لعن االيهود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد) ، الحَدِيث.
وَأخرجه أَيْضا فِي مَوَاضِع أخر فِي الْجَنَائِز، وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد.
ومَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاَةِ فِي القُبُورِ هَذَا عطف على قَوْله: ( هَل تنبش) ، لَا يُقَال: إِن هَذِه جملَة خبرية وَقَوله: هَل تنبش، طلبية، فَكيف يَصح عطفها عَلَيْهَا؟ لأَنا نقُول: قد ذكرنَا أَن: هَل اسْتِفْهَام تقريري، وَهُوَ فِي حكم الْجُمْلَة الخبرية الثبوتية مثلهَا، وَقَوله هَذَا يتَنَاوَل مَا إِذا صلى على الْقَبْر أَو إِلَيْهِ أَو بَينهمَا، وَفِيه حَدِيث أبي مرْثَد، واسْمه كناز بن الْحصين.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: بِلَفْظ: ( لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا إِلَيْهَا) ، وروى التِّرْمِذِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: ( الأَرْض كلهَا مَسْجِد إلاَّ الْمقْبرَة وَالْحمام) .
وَرَأى عُمَرُ أنَسَ بنَ مالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْر فَقَالَ القَبْرَ القَبْرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِعادَةِ.
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ وَكِيع بن الْجراح فِي مُصَنفه فِيمَا حَكَاهُ ابْن حزم عَن سُفْيَان بن سعيد عَن حميد ( عَن أنس قَالَ: رَآنِي عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، أُصَلِّي إِلَى قبر، فنهاني، فَقَالَ: الْقَبْر أمامك) .
قَالَ: وَعَن معمر عَن ثَابت ( عَن أنس قَالَ: رَآنِي عمر أُصَلِّي عِنْد قبر فَقَالَ لي: الْقَبْر، لَا تصلي إِلَيْهِ.
قَالَ ثَابت: فَكَانَ أنس يَأْخُذ بيَدي إِذا أَرَادَ أَن يُصَلِّي فيتنحى عَن الْقُبُور)
.
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم شيخ البُخَارِيّ عَن حُرَيْث بن السَّائِب، قَالَ: سَمِعت الْحسن يَقُول: ( بَينا أنس، رَضِي اتعالى عَنهُ، يُصَلِّي إِلَى قبر فناداه عمر: الْقَبْر الْقَبْر، وَظن أَنه يَعْنِي الْقَمَر، فَلَمَّا رأى أَنه يَعْنِي الْقَبْر تقدم وَصلى وَجَاز الْقَبْر) .
قَوْله: ( الْقَبْر الْقَبْر) ، مَنْصُوب على التحذير، يجب حذف عَامله وَهُوَ: إتق، أَو اجْتنب.
وَفِي بعض الرِّوَايَة بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام.
أَي: أَتُصَلِّي عِنْد الْقَبْر؟ قَوْله: ( وَلم يَأْمُرهُ بِالْإِعَادَةِ) أَي: لم يَأْمر عمر أنسا بِإِعَادَة صلَاته تِلْكَ، فَدلَّ على أَنه يجوز وَلَكِن يكره.
وَاعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي جَوَاز الصَّلَاة على الْمقْبرَة، فَذهب أَحْمد إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَلم يفرق بَين المنبوشة وَغَيرهَا، وَلَا بَين أَن يفرش عَلَيْهَا شَيْء يَقِيه من النَّجَاسَة أم لَا، وَلَا بَين أَن تكون بَين الْقُبُور أَو فِي مَكَان مُنْفَرد عَنْهَا، كالبيت والعلو،.

     وَقَالَ  أَبُو ثَوْر: لَا يصلى فِي حمام وَلَا مَقْبرَة على ظَاهر الحَدِيث، يَعْنِي قَوْله: ( الأَرْض كلهَا مَسْجِد إِلَّا الْمقْبرَة وَالْحمام) .
وَذهب الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَفرق الشَّافِعِي بَين الْمقْبرَة المنبوشة، وَغَيرهَا فَقَالَ: إِذا كَانَت مختلطة التُّرَاب بلحوم الْمَوْتَى وصديدهم وَمَا يخرج مِنْهَا لم يجز الصَّلَاة فِيهَا للنَّجَاسَة، فَإِن صلى رجل فِي مَكَان طَاهِر مِنْهَا أَجْزَأته صلَاته.
.

     وَقَالَ  الرَّافِعِيّ: أما الْمقْبرَة فَالصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة بِكُل حَال، وَلم ير مَالك بِالصَّلَاةِ فِي الْمقْبرَة بَأْسا، وَحكى أَبُو مُصعب عَن مَالك كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة كَقَوْل الْجُمْهُور، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، سَوَاء كَانَت مَقَابِر الْمُسلمين أَو الْكفَّار، وَحكى ابْن حزم عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة النَّهْي عَن ذَلِك وهم: عمر وَعلي وَأَبُو هُرَيْرَة وَأنس وَابْن عَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنْهُم.
.

     وَقَالَ : مَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، وَحَكَاهُ عَن جمَاعَة من التَّابِعين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَنَافِع بن جُبَير بن مطعم وَطَاوُس وَعَمْرو بن دِينَار وخيثمة وَغَيرهم.
قلت: قَوْله: لَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، معَارض بِمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ فِي ( معالم السّنَن) عَن عبد اللَّه بن عمر أَنه رخص فِي الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَحكي أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه صلى فِي الْمقْبرَة.
وَفِي ( شرح التِّرْمِذِيّ) : حكى أَصْحَابنَا اخْتِلَافا فِي الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، فَقيل: الْمَعْنى فِيهِ مَا تَحت مُصَلَّاهُ من النَّجَاسَة، وَقد قَالَ الرَّافِعِيّ: لَو فرش فِي المجزرة والمزبلة شَيْئا وَصلى عَلَيْهِ صحت صلَاته، وَبقيت الْكَرَاهِيَة لكَونه مُصَليا على نَجَاسَة وَإِن كَانَ بَينهمَا حَائِل،.

     وَقَالَ  القَاضِي حُسَيْن: إِنَّه لَا كَرَاهَة مَعَ الْفرش على النَّجَاسَة مُطلقًا.
وَحكى ابْن الرّفْعَة فِي ( الْكِفَايَة) : أَن الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كَلَام القَاضِي: أَن الْكَرَاهَة لحُرْمَة الْمَوْتَى، وعَلى كل تَقْدِير من هذَيْن الْمَعْنيين، فَيَنْبَغِي أَن تقيد الْكَرَاهَة بِمَا إِذا حَاذَى الْمَيِّت، أما إِذا وقف بَين الْقُبُور بِحَيْثُ لَا يكون تَحْتَهُ ميت وَلَا نَجَاسَة فَلَا كَرَاهَة، إِلَّا أَن ابْن الرّفْعَة بعد أَن حكى الْمَعْنيين السَّابِقين قَالَ: لَا فرق فِي الْكَرَاهَة بَين أَن يُصَلِّي على الْقَبْر أَو بجانبه.
أَو إِلَيْهِ، قَالَ: وَمِنْه يُؤْخَذ أَنه: تكره الصَّلَاة بِجَانِب النَّجَاسَة وَخَلفهَا

[ قــ :419 ... غــ :427] حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرنِي أبي عنْ عائِشَةَ أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا ذَلِكَ للنَّبيِّ فَقَالَ إنَّ أُولَئِكِ إذَا كانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً وَصَوَّرُوا فيهِ تَلْكَ الصُّوَرَ فأُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ ايَوْمَ القِيَامَةِ.
( الحَدِيث 724 أَطْرَافه فِي: 434، 1431، 8783) .
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( لعن االيهود) ، من حَيْثُ إِنَّه يُوَافقهُ، وَذَلِكَ أَنه لعن الْيَهُود لكَوْنهم اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، وَفِي هَذَا الحَدِيث ذمّ النَّصَارَى بِشَيْء أعظم من اللَّعْن فِي كَونهم كَانُوا إِذا مَاتَ الرجل الصَّالح فيهم بنوا على قَبره مَسْجِدا وصوروا فِيهِ تصاوير.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِفَتْح النُّون الْمُشَدّدَة بعد الثَّاء الْمُثَلَّثَة.
الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان.
الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة.
الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه: أَخْبَرتنِي عَائِشَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأَيْضًا أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَالنَّسَائِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى بن سعيد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( أَن أم حَبِيبَة) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة أم الْمُؤمنِينَ اسْمهَا: رَملَة، بِفَتْح الرَّاء على الْأَصَح بنت أبي سُفْيَان صَخْر الأموية، هَاجَرت مَعَ زَوجهَا عبد اللَّه بن جحش، بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء الْمُهْملَة إِلَى الْحَبَشَة، فَتوفي هُنَاكَ فَتَزَوجهَا رَسُول الله وَهِي هُنَاكَ سنة سِتّ من الْهِجْرَة، وَكَانَ النَّجَاشِيّ أمهرها من عِنْده عَن رَسُول ا، وبعثها إِلَيْهِ، وَكَانَت من السابقات إِلَى الْإِسْلَام، توفيت سنة أَربع وَأَرْبَعين بِالْمَدِينَةِ على الْأَصَح.
قَوْله: ( وَأم سَلمَة) ، فتح اللَّام،أم الْمُؤمنِينَ أَيْضا، وَاسْمهَا: هِنْد، على الْأَصَح، بنت أبي أُميَّة المخزومية، هَاجر بهَا زَوجهَا أَبُو سَلمَة إِلَى الْحَبَشَة، فَلَمَّا رجعا إِلَى الْمَدِينَة مَاتَ زَوجهَا فَتَزَوجهَا رَسُول ا، تقدّمت فِي بَاب العظة بِاللَّيْلِ.
قَوْله: ( ذكرتا) ، بِلَفْظ التَّثْنِيَة للمؤنث من الْمَاضِي، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: أم حَبِيبَة وَأم سَلمَة، وَهُوَ على الْأَصَح فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: ( ذكرا) ، بالتذكير وَهُوَ على خلاف الأَصْل، وَالْأَظْهَر أَنه من النساخ أَو من بعض الروَاة غير المميزين.
قَوْله: ( كَنِيسَة) بِفَتْح الْكَاف، وَهِي معبد النَّصَارَى.
وَفِي مَوضِع آخر: يُقَال لَهَا مَارِيَة، والمارية بتَخْفِيف الْيَاء: الْبَقَرَة، وبتشديدها: القطاة الملساء.
قَوْله: ( رأينها) ، بِصِيغَة جمع الْمُؤَنَّث من الْمَاضِي، وَإِنَّمَا جمع بِاعْتِبَار من كَانَ مَعَ أم حَبِيبَة وَأم سَلمَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والأصيلي: ( رأتاها) ، على الأَصْل بضمير التَّثْنِيَة.
قَوْله: ( فِيهَا تصاوير) جملَة إسمية فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة كَنِيسَة، والتصاوير: التماثيل.
قَوْله: ( إِن أُولَئِكَ) ، بِكَسْر الْكَاف وَيجوز فتحهَا.
قَوْله: ( فَمَاتَ) ، عطف على قَوْله: ( كَانَ) .
قَوْله: ( بنوا) جَوَاب: إِذا.
قَوْله: ( تيك الصُّور) بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بدل اللَّام فِي: تِلْكَ، وَهِي لُغَة فِيهِ، وَهِي فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره: ( تِلْكَ) .
قَوْله: ( فَأُولَئِك) ، ويروى: ( وَأُولَئِكَ) ، بِالْوَاو، وَالْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي: أُولَئِكَ، الْمَاضِيَة.
قَوْله: ( شرار الْخلق) ، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة جمع: الشَّرّ، كالخيار جمع الْخَيْر، والبحار جمع الْبَحْر، وَأما الأشرار فَقَالَ يُونُس: وَاحِدهَا شَرّ أَيْضا.
.

     وَقَالَ  الْأَخْفَش: شرير، مثل: يَتِيم وأيتام.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا صور أوائلهم الصُّور ليأتنسوا بِرُؤْيَة تِلْكَ الصُّور ويتذكروا أفعالهم الصَّالِحَة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون اعند قُبُورهم، ثمَّ خلف من بعدهمْ خلوف جهلوا مُرَادهم، ووسوس لَهُم الشَّيْطَان أَن أسلافكم كَانُوا يعْبدُونَ هَذِه الصُّور ويعظمونها فعبدوها، فحذر النَّبِي عَن مثل ذَلِك سداً للذريعة المؤدية إِلَى ذَلِك، وسداً للذرائع فِي قَبره، وَكَانَ ذَلِك فِي مرض مَوته إِشَارَة إِلَى أَنه من الْأَمر الْمُحكم الَّذِي لَا ينْسَخ بعده، وَلما احْتَاجَت الصَّحَابَة، رَضِي اتعالى عَنْهُم، والتابعون إِلَى زِيَادَة مَسْجده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بنوا على الْقَبْر حيطاناً مُرْتَفعَة مستديرة حوله لِئَلَّا تصل إِلَيْهِ الْعَوام فَيُؤَدِّي إِلَى ذَلِك الْمَحْذُور، ثمَّ بنوا جدارين بَين ركني الْقَبْر الشمالي حرفوها حَتَّى التقيا حَتَّى لَا يُمكن أحد أَن يسْتَقْبل الْقَبْر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: نهي عَن اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد، وَعَن فعل التصاوير، وَإِنَّمَا نهى عَنهُ لاتخاذهم الْقُبُور والصور آلِهَة.
وَفِيه: دَلِيل على تَحْرِيم تَصْوِير الْحَيَوَان خُصُوصا الْآدَمِيّ الصَّالح.
وَفِيه: منع بِنَاء الْمَسَاجِد على الْقُبُور وَمُقْتَضَاهُ التَّحْرِيم، كَيفَ وَقد ثَبت اللَّعْن عَلَيْهِ؟ وَأما الشَّافِعِي وَأَصْحَابه فصرحوا بِالْكَرَاهَةِ،.

     وَقَالَ  الْبَنْدَنِيجِيّ: وَالْمرَاد أَن يسوى الْقَبْر مَسْجِدا فيصلى فَوْقه،.

     وَقَالَ : إِنَّه يكره أَن يبْنى عِنْده مَسْجِد فيصلى فِيهِ إِلَى الْقَبْر، وَأما الْمقْبرَة الداثرة إِذا بني فِيهَا مَسْجِد ليصلى فِيهِ فَلم أر فِيهِ بَأْسا، لِأَن الْمَقَابِر وقف، وَكَذَا الْمَسْجِد، فمعناها وَاحِد.
وَقد ذكرنَا عَن قريب مَذَاهِب الْعلمَاء فِي الصَّلَاة على الْقَبْر.
.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيّ: لما كَانَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى يَسْجُدُونَ لقبور الْأَنْبِيَاء تَعْظِيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبْلَة يتوجهون فِي الصَّلَاة نَحْوهَا، واتخذوها أوثاناً لعنهم النَّبِي وَمنع الْمُسلمين عَن مثل ذَلِك، فَأَما من اتخذ مَسْجِدا فِي جوَار صَالح وَقصد التَّبَرُّك بِالْقربِ مِنْهُ لَا للتعظيم لَهُ وَلَا للتوجه إِلَيْهِ فَلَا يدْخل فِي الْوَعيد الْمَذْكُور.
وَفِيه: جَوَاز حِكَايَة مَا يُشَاهِدهُ الْمَرْء من الْعَجَائِب، وَوُجُوب بَيَان حكم ذَلِك على الْعَالم بِهِ.
وَفِيه: ذمّ فَاعل الْمُحرمَات.
وَفِيه: أَن الِاعْتِبَار فِي الْأَحْكَام بِالشَّرْعِ لَا بِالْعقلِ.



[ قــ :40 ... غــ :48]
- حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَارِثِ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ قَالَ قَدِمَ النبيُّ المَدِينَةَ فَنَزَلَ أعْلَى المَدِينَةِ فِي حَيَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بنِ عَوْفٍ فَأَقامَ النبيُّ فِيهِمْ أرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أرْسَلَ إِلَى بَنِي النجَّارِ فَجَاؤُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ كَأَنِّي أنْظُرُ إِلَيّ النبيِّ عَلى رَاحِلَتِهِ وأبُو بَكْر رِدْفُهُ وَمَلأَ بَني النجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى ألْقَى بِفِنَاءِ أبِي أيُّوبَ وَكَانَ يُحبُّ أَن يُصَلِّى حَيْثُ أدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنمِ وَأنَّهُ أمَرَ بِبِنَاءِ المسْجِدِ فَأرْسَلَ إلَى مَلأٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقال يَا بَني النجَّارِ ثامِنونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا قَالُوا لاَ وَا لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلاَّ إلَى افقال أنَسٌ فكانَ فِيهِ مَا أقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْركِينَ وَفِيهِ خِرَبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ النبيُّ بِقُبُورِ المْشرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالخِرِبِ فَسُوِّيَتْ وبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ وَجَعَلوا عِضَادَتَيْهِ الحِجَارَةَ وَجعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ والنبيُّ مَعَهْمُ وَهْوَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لاَ خَيْر إلاَّ خَيْرُ الآخِرَه فَاغْفِرْ لِلاَّنْصَارِ والمهَاجِرَهْ.


مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد.
الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد التَّيْمِيّ.
الثَّالِث: أَبُو التياح، بِفَتْح الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: واسْمه يزِيد بن حميد الضبغي، وَالْكل تقدمُوا.
الرَّابِع: أنس بن مَالك.

ذكر لطائف اسناده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة فِي موضِعين من الْوَصَايَا، وَفِي هِجْرَة النَّبِي عَن مُسَدّد، وَفِي الْحَج عَن أبي معمر عبد اللَّه بن عَمْرو، وَفِي الْبيُوع عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي الْوَصَايَا عَن إِسْحَاق عَن عبد الصَّمد بن عبد الوراث، وَفِي الْهِجْرَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن الصَّمد.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وشبيان بن فروخ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد بِهِ وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمان ابْن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث نَحوه.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد بن وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة بِبَعْضِه.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( قدم النَّبِي الْمَدِينَة) : قَالَ الْحَاكِم: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بورود النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قبَاء يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان خلون من ربيع الأول.
.

     وَقَالَ  مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع من تيرماه، وَمن شهور الرّوم الْعَاشِرَة من أيلول سنة سَبْعمِائة وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ لذِي القرنين،.

     وَقَالَ  الْخَوَارِزْمِيّ: من حِين ولد إِلَى حِين أسرِي بِهِ: أحد وَخَمْسُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَمِنْه إِلَى الْيَوْم الَّذِي هَاجر: سنة وشهران وَيَوْم، فَذَلِك ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس.
وَفِي ( وطبقات ابْن سعد) : أَن رَسُول الله خرج من الْغَار لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ لأَرْبَع لَيَال خلون من شهر ربيع الأول، وَيُقَال: لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من شهر ربيع الأول، فَنزل على كُلْثُوم بن هدم، وَهُوَ الْمُثبت عندنَا، وَذكر البرقي أَنه قدم الْمَدِينَة لَيْلًا، وَعَن جَابر: لما قدم الْمَدِينَة نحر جزوراً.
قَوْله: ( فَنزل أَعلَى المدنية) ويروى: فِي الْمَدِينَة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: ( فَنزل فِي علو الْمَدِينَة) بِالضَّمِّ وَهِي الْعَالِيَة.

قَوْله: ( فِي حَيّ) ، بتَشْديد الْيَاء وَهِي: الْقَبِيلَة، وَجَمعهَا أَحيَاء.
قَوْله: ( بَنو عَمْرو بن عَوْف) ، بِفَتْح الْعين فيهمَا، ( فَأَقَامَ فيهم أَربع عشرَة لَيْلَة) ، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن شَيْخه مُسَدّد، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: ( أَرْبعا وَعشْرين لَيْلَة) ، وَعَن الزُّهْرِيّ: أَقَامَ فيهم ( بضع عشرَة لَيْلَة) .
وَعَن عُوَيْمِر بن سَاعِدَة: ( لبث فيهم ثَمَانِي عشرَة لَيْلَة ثمَّ خرج) قَوْله: ( ثمَّ أرسل إِلَى بني النجار) ، وَبَنُو النجار هم بَنو تيم اللات بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الجموح، والنجار قبيل كَبِير من الْأَنْصَار، مِنْهُ بطُون وعمائر وأفخاذ وفضائل، وتيم اللات هُوَ النجار، سمي بذلك لِأَنَّهُ اختتن بقدوم، وَقيل: بل ضرب رجلا بقدوم فجرحه، ذكره الْكَلْبِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة، وَإِنَّمَا طلب بني النجار لأَنهم كَانُوا أَخْوَاله، لِأَن هاشماً جده تزوج سلمى بنت عَمْرو بن زيد من بني عدي بن النجار بِالْمَدِينَةِ فَولدت لَهُ عبد الْمطلب.
قَوْله: ( فجاؤا متقلدي السيوف) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة بِإِضَافَة: متقلدين إِلَى السيوف وَسُقُوط النُّون للإضافة، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين ( متقلدين السيوف) ، بِنصب السيوف وَثُبُوت النُّون لعدم الْإِضَافَة، وعَلى كل حَال هُوَ مَنْصُوب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: جاؤوا، والتقلد جعل نجاد السَّيْف على الْمنْكب.
قَوْله: ( على رَاحِلَته) ، الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، وَكَانَت رَاحِلَته نَاقَة تسمى الْقَصْوَاء.

قَوْله: ( وَأَبُو بكر ردفه) ، جملَة اسمية فِي مَوضِع النصب على الْحَال، والردف بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الدَّال: المرتدف، وَهُوَ الَّذِي يركب خلف الرَّاكِب.
وأردفته أَنا إِذا أركبته مَعَك، وَذَاكَ الْموضع الَّذِي يركبه: رداف، وكل شَيْء تبع شَيْئا فَهُوَ: ردفه.
وَكَانَ لأبي بكر نَاقَة، فَلَعَلَّهُ تَركهَا فِي بني عَمْرو بن عَوْف لمَرض أَو غَيره، وَيجوز أَن يكون ردهَا إِلَى مَكَّة ليحمل عَلَيْهَا أَهله، وَثمّ وَجه آخر حسن وَهُوَ: أَن نَاقَته كَانَت مَعَه، وَلكنه مَا ركبهَا لشرف الارتداف خَلفه، لِأَنَّهُ تَابعه والخليفة بعده.
قَوْله: ( وملأ بني النجار حوله) جملَة إسمية حَالية أَيْضا و: الْمَلأ، أَشْرَاف الْقَوْم ورؤساؤهم، سموا بذلك لأَنهم ملاء بِالرَّأْيِ والغنى، وَالْمَلَأ: الْجَمَاعَة، وَالْجمع أملاء.
.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: وَلَيْسَ الْمَلأ من بابُُ: رَهْط، وَإِن كَانَ إسمين، لِأَن رهطاً لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَالْمَلَأ: رجل مالىء جليل مَلأ الْعين بجهرته، فَهُوَ كالعرب وَالزَّوْج، حكى ملأته على الْأَمر أملؤه وملأته كَذَلِك، أَي: شاورته، و: مَا كَانَ الْأَمر عَن مَلأ منا أَي: عَن تشَاور وَإِجْمَاع.
قَوْله: ( ألْقى) أَي: حَتَّى ألْقى رَحْله وَالْمَفْعُول مَحْذُوف، يُقَال: ألقيت الشَّيْء إِذا طرحته.
وَقَوله: ( بِفنَاء أبي أَيُّوب) أَي: بِفنَاء دَار أبي أَيُّوب، الفناء، بِكَسْر الْفَاء: سَعَة أَمَام الدَّار وَالْجمع أفنية، وَفِي ( الْمُجْمل) : فنَاء الدَّار مَا امْتَدَّ من جوانبها.
وَفِي ( الْمُحكم) : وتبدل الْبَاء من الْفَاء.
وَاسم أبي أَيُّوب: خَالِد بن زيد الْأنْصَارِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِي ( شرف الْمُصْطَفى) : لما نزلت النَّاقة عِنْد دَار أبي أَيُّوب جعل جَبَّار ابْن صَخْر ينخسها بِرجلِهِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: يَا جَبَّار، أعن منزلي تنخسها؟ أما وَالَّذِي بَعثه بِالْحَقِّ لَوْلَا الْإِسْلَام لضربتك بِالسَّيْفِ قلت: جَبَّار بن صَخْر بن أُميَّة بن خنساء السّلمِيّ، وَيُقَال: جَابر بن صَخْر الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة وبدراً وَهُوَ صَحَابِيّ كَبِير، روى مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أبي سعد الخطمي سمع جَبَّار بن عبد اللَّه قَالَ: ( صليت خلف رَسُول الله أَنا وَجَابِر بن صَخْر فأقامنا خَلفه) .
وَالصَّحِيح: أَن اسْمه: جَبَّار بن صَخْر.
وَذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي كتاب ( الْمُبْتَدَأ وقصص الْأَنْبِيَاء) ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، تأليفه: أَن تبعا وَهُوَ ابْن حسان لما قدم مَكَّة قبل مولد رَسُول ا، بِأَلف عَام، وَخرج مِنْهَا إِلَى يثرب وَكَانَ مَعَه أَربع مائَة رجل من الْحُكَمَاء، فَاجْتمعُوا وتعاقدوا على أَن لَا يخرجُوا مِنْهَا، وسألهم تبع عَن سر ذَلِك فَقَالُوا: إِنَّا نجد فِي كتبنَا أَن نَبيا اسْمه مُحَمَّد هَذِه دَار مهاجره، فَنحْن نُقِيم لَعَلَّ أَن نَلْقَاهُ، فَأَرَادَ تبع الْإِقَامَة مَعَهم، ثمَّ بني لكل وَاحِد من أُولَئِكَ دَار، وَاشْترى لَهُ جَارِيَة وَزوجهَا مِنْهُ، وَأَعْطَاهُمْ مَالا جزيلاً، وكتاباً فِيهِ إِسْلَامه وَقَوله:
شهِدت على أَحْمد أَنه رَسُول من ابارىء النسم فِي أَبْيَات، وختمه بِالذَّهَب وَدفعه إِلَى كَبِيرهمْ، وَسَأَلَهُ أَن يَدْفَعهُ إِلَى مُحَمَّد إِن أدْركهُ وإلاَّ من أدْركهُ من وَلَده، وَبني للنَّبِي دَارا ينزلها إِذا قدم الْمَدِينَة، فتداول الدَّار الْملاك إِلَى أَن صَارَت لأبي أَيُّوب، رَضِي اتعالى عَنهُ وَهُوَ من ولد ذَلِك الْعَالم الَّذِي دفع إِلَيْهِ الْكتاب، قَالَ: وَأهل الْمَدِينَة من ولد أُولَئِكَ الْعلمَاء الْأَرْبَع مائَة، وَيَزْعُم بَعضهم أَنهم كَانُوا الْأَوْس والخررج، وَلما خرج رَسُول اصلى تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أرْسلُوا إِلَيْهِ كتاب تبع مَعَ رجل يُسمى أَبَا ليلى، فَلَمَّا رَآهُ قَالَت: أَنْت أَبُو ليلى ومعك كتاب تبع الأول، فَبَقيَ أَبُو ليلى متفكراً وَلم يعرف النَّبِي، فَقَالَ: من أَنْت فَإِنِّي لم أر فِي وَجهك أثر السحر، وتوهم أَنه سَاحر، فَقَالَ: أَنا مُحَمَّد، هَات الْكتاب.
فَلَمَّا قَرَأَهُ، قَالَ: مرْحَبًا بتبع الْأَخ الصَّالح، ثَلَاث مَرَّات، وَفِي سيرة ابْن إِسْحَاق: اسْمه تبان أسعد أَبُو كرب، وَهُوَ الَّذِي كسى الْبَيْت الْحَرَام، وَفِي ( مغايص الْجَوْهَر فِي أَنْسَاب حمير) : كَانَ يدين بالزبور، وَفِي ( مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : ( لَا تسبوا تبعا) .
.

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سهل بن سعد، رَضِي اتعالى عَنهُ، إِنَّه قَالَ: ( سَمِعت رَسُول الله يَقُول: لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم) .
وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده.

وَتبع، بِضَم التار الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: لقب لكل من ملك الْيمن، ككسرى لقب لكل من ملك الْفرس، وَقَيْصَر لكل من ملك الرّوم،.

     وَقَالَ  عِكْرِمَة: إِنَّمَا سمي لِكَثْرَة أَتْبَاعه، وَكَانَ يعبد النَّار، فسألم قَالَ: وَهَذَا تبع الْأَوْسَط، قَالَ: وَأقَام ملكا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة، وَقيل: ثَمَانِينَ سنة.
.

     وَقَالَ  ابْن سِيرِين: هُوَ أول من كسى الْبَيْت وَملك الدُّنْيَا والأقاليم بأسرها، وَحكى الْقَاسِم بن عَسَاكِر عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: كَانَ إِذا عرض الْخَيل قَامُوا صفا من دمشق إِلَى صنعاء، وَهَذَا بعيد إِن أَرَادَ بِهِ صنعاء الْيمن، لِأَن بَينهَا وَبَين دمشق أَكثر من شَهْرَيْن، وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بهَا صنعاء دمشق، وَهِي قَرْيَة على بابُُ دمشق من نَاحيَة بابُُ الفرديس، واتصلت حيطانها بِالْعقبَةِ، وَهِي محلّة عَظِيمَة بِظَاهِر دمشق، وَذكر ابْن عَسَاكِر فِي كِتَابه: أَن تبعا هَذَا لما قدم مَكَّة وكسى الْكَعْبَة وَخرج إِلَى يثرب كَانَ فِي مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا من الفرسان، وَمِائَة ألف وَثَلَاثَة عشر ألفا من الرجالة.
وَذكر أَيْضا: أَن تبعا لما خرج من يثرب مَاتَ فِي بِلَاد الْهِنْد، وَذكر السُّهيْلي: أَن دَار أبي أَيُّوب هَذِه صَارَت بعده إِلَى أَفْلح مولى أبي أَيُّوب فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، بعد مَا خرب، الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بِأَلف دِينَار بعد حِيلَة احتالها عَلَيْهِ الْمُغيرَة، فأصلحه الْمُغيرَة وَتصدق بِهِ على أهل بَيت فُقَرَاء بِالْمَدِينَةِ.

قَوْله: ( وَيُصلي فِي مرابض الْغنم) ، المرابض جمع: مربض، وَهُوَ: مأوى الْغنم.
قَوْله: ( إِنَّه أَمر) بِكَسْر الْهمزَة فِي: إِن، لِأَنَّهُ كَلَام مُسْتَقْبل بِذَاتِهِ، أَي: إِن النَّبِي أَمر بِبِنَاء الْمَسْجِد، ويروى: أَمر، على بِنَاء الْمَفْعُول، فعلى هَذَا يكون الضَّمِير فِي: أَنه، للشأن، وَالْمَسْجِد: هُوَ بِكَسْر الْجِيم وَفتحهَا، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يسْجد فِيهِ.
وَفِي ( الصِّحَاح) : الْمَسْجِد، بِفَتْح الْجِيم: مَوضِع السُّجُود، وبكسرها: الْبَيْت الَّذِي يصلى فِيهِ.
وَمن الْعَرَب من يفتح فِي كلا الْوَجْهَيْنِ، وَعَن الْفراء: سمعنَا الْمَسْجِد وَالْمَسْجِد، وَالْفَتْح جَائِز وَإِن لم نَسْمَعهُ.
وَفِي ( الْمعَانِي) للزجاج: كل مَوضِع يتعبد فِيهِ مَسْجِد.
قَوْله: ( ثامنوني) بالثاء الْمُثَلَّثَة،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَي بيعونيه بِالثّمن،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَي اذْكروا لي ثمنة.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : أَي قدرُوا ثمنه لأشتريه مِنْكُم وبايعوني فِيهِ.
قلت: كل ذَلِك لَيْسَ تَفْسِيرا لموضوع هَذِه الْمَادَّة، وَإِن كَانَ يدل على الْمَقْصُود، وَالتَّفْسِير هُوَ الَّذِي ذكرته فِي ( شرح سنَن أبي دَاوُد) وَهُوَ: أَن هَذِه اللَّفْظَة من: ثامنت الرجل، فِي البيع أثامنه، إِذا قاولته فِي ثمنه، وساومته على بَيْعه وشرائه.
قَوْله: ( بحائطكم) ، الْحَائِط هَهُنَا الْبُسْتَان يدل عَلَيْهِ قَوْله: ( وَفِيه نخل) ، وبالنخل فَقطع، وَفِي لفظ: كَانَ مربداً، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يَجْعَل فِيهِ التَّمْر لينشف.
قَوْله: ( لَا نطلب ثمنه إلاَّ إِلَى اعز وَجل) ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي مَا حَاصله: لَا نطلب ثمن المصروف فِي سَبِيل ا، وَأطلق الثّمن على سَبِيل المشاكلة.
ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: ر
الطّلب يسْتَعْمل: بِمن، فَالْقِيَاس أَن يُقَال: إلاَّ من اقلت: مَعْنَاهُ: لَا نطلب الثّمن من أحد، لكنه مَصْرُوف إِلَى اتعالى، قلت: وَهَذَا كُله تعسف مَعَ تَطْوِيل، بل مَعْنَاهُ: لَا نطلب الثّمن إلاَّ من اتعالى، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَا نطلب ثمنه إلاَّ من ا.
وَقد جَاءَ: إِلَى، فِي كَلَام الْعَرَب للابتداء، كَقَوْلِه:
فَلَا يرْوى إِلَى ابْن أَحْمد.
أَي: منى، وَيجوز أَن تكون: إِلَى هَهُنَا، على مَعْنَاهَا لانْتِهَاء الْغَايَة، وَيكون التَّقْدِير: ننهي طلب الثّمن إِلَى ا، كَمَا فِي قَوْلهم: أَحْمد إِلَيْك ا، وَالْمعْنَى: أنهِي حَمده إِلَيْك، وَالْمعْنَى لَا نطلب مِنْك الثّمن بل نتبرع بِهِ، ونطلب الثّمن أَي: الْأجر من اتعالى، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي ( الصَّحِيحَيْنِ) .
وَذكر مُحَمَّد بن سعد فِي ( الطَّبَقَات) : على الْوَاقِدِيّ أَن النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، اشْتَرَاهُ مِنْهُم بِعشْرَة دَنَانِير، دَفعهَا أَبُو بكر الصّديق.
وَيُقَال: كَانَ ذَلِك مربد اليتيمين، فدعاهما النّبي صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، فساومهما ليتخذه مَسْجِدا، فَقَالَا: بل نهبه لَك يَا رَسُول ا، فَأبى رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى ابتاعه مِنْهُمَا بِعشْرَة دَنَانِير، وَأمر أَبَا بكر أَن يعطيهما ذَلِك.
وَفِي ( الْمَغَازِي) لأبي معشر: فَاشْتَرَاهُ أَبُو أَيُّوب مِنْهُمَا وَأَعْطَاهُ الثّمن، فبناه مَسْجِدا.
واليتيمان هما: سهل وَسُهيْل، ابْنا رَافع بن عَمْرو بن أبي عَمْرو، من بني النجار، كَانَا فِي حجر أسعد بن زُرَارَة، وَقيل: معَاذ بن عفراء،.

     وَقَالَ  معَاذ: يَا رَسُول اأنا أرضيهما، فاتخذه مَسْجِدا.
وَيُقَال أَن بني النجار جعلُوا حائطهم وَقفا وَأَجَازَهُ النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَاسْتدلَّ ابْن بطال بِهَذَا على صِحَة وقف الْمشَاع.
.

     وَقَالَ : وقف الْمشَاع جَائِز عِنْد مَالك، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، خلافًا لمُحَمد بن الْحسن، وَالصَّحِيح أَن بني النجار لم يوقفوا شَيْئا، بل باعوه وَوَقفه النَّبِي، فَلَيْسَ وقف مشَاع.

قَوْله: ( قُبُور الْمُشْركين) بِالرَّفْع بدل أَو بَيَان لقَوْله: ( مَا أَقُول) .
قَوْله: ( وَفِيه خرب) قَالَ أَبُو الْفرج: الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة: ( خرب) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء، جمع خربه.
كَمَا يُقَال: كلمة وكلم،.

     وَقَالَ  أَبُو سُلَيْمَان: حدّثناه الخراب، بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء وَهُوَ: جمع الخراب، وَهُوَ مَا يخرب من الْبناء فِي لُغَة بني تَمِيم، وهما لُغَتَانِ صحيحتان رويتا،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: لَعَلَّ صَوَابه: خرب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة: جمع: خربة، وَهِي الخروق فِي الأَرْض إلاَّ أَنهم يَقُولُونَهَا فِي ثقبة مستديرة فِي أَرض أَو جِدَار، قَالَ: وَلَعَلَّ الرِّوَايَة جرف جمع الجرفة، ويه جمع الجرف، كَمَا يُقَال: خرج وخرجة، وترس وترسة، وابين من ذَلِك إِن ساعدته الرِّوَايَة أَن يكون حدباً جمع حدبة، وَهُوَ الَّذِي يَلِيق بقوله: فسويت، وَإِنَّمَا يسوى الْمَكَان المحدودب أَو مَوضِع من الأَرْض فِيهِ خروق وهدوم، فَأَما الخرب فَإِنَّهَا تعمر وَلَا تسوى،.

     وَقَالَ  عِيَاض: هَذَا التَّكَلُّف لَا حَاجَة إِلَيْهِ فَإِن الَّذِي ثَبت فِي الرِّوَايَة صَحِيح الْمَعْنى، كَمَا أَمر يقطع النّخل لتسوية الأَرْض، أَمر بالخرب فَرفعت رسومها وسويت موَاضعهَا لتصير جَمِيع الأَرْض مبسوطة مستوية للمصلين، وَكَذَلِكَ فعل بالقبور.
وَفِي ( مُصَنف) ابْن أبي شيبَة، بِسَنَد صَحِيح: وَأمر بالحرث فحرث، وَهُوَ الَّذِي زعم ابْن الْأَثِير أَنه رُوِيَ بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة، يُرِيد الْموضع المحروث للزِّرَاعَة.
قلت: كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَلَكِن قيل: إِنَّه وهم.
قَوْله: ( وبالنخل) أَي: أَمر بِالنَّخْلِ فَقطع.
قَوْله: ( فصفوا النّخل) من صففت الشَّيْء صفا، وَفِي ( مغازي ابْن بكير) عَن ابْن إِسْحَاق: جعلت قبْلَة الْمَسْجِد من اللَّبن، وَيُقَال: بل من حِجَارَة منضودة بَعْضهَا على بعض، وَسَيَأْتِي فِي ( الصَّحِيح) : أَن الْمَسْجِد كَانَ على عَهده مَبْنِيا بِاللَّبنِ وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل، وَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر شَيْئا، وَلَعَلَّ المُرَاد بالقبلة جِهَتهَا، لَا الْقبْلَة الْمَعْهُودَة الْيَوْم، فَإِن ذَلِك لم يكن ذَلِك الْوَقْت، وَورد أَيْضا أَنه كَانَ فِي مَوضِع الْمَسْجِد الْغَرْقَد فَأمر أَن يقطع، وَكَانَ فِي المربد قُبُور جَاهِلِيَّة فَأمر بهَا رَسُول الله فنبشت، وَأمر بالعظام أَن تغيب، وَكَانَ فِي المربد مَاء مستنجل فستره حَتَّى ذهب.
قَوْله: نز قَلِيل الجري، من النجل وَهُوَ: المَاء الْقَلِيل، وَجعلُوا طوله مِمَّا يَلِي الْقبْلَة إِلَى مؤخره مائَة ذِرَاع، وَفِي هذَيْن الْجَانِبَيْنِ مثل ذَلِك فَهُوَ مربع،، وَيُقَال: كَانَ أقل من الْمِائَة، وَجعلُوا الأساس قَرِيبا من ثَلَاثَة أَذْرع على الأَرْض بِالْحِجَارَةِ ثمَّ بنوه بِاللَّبنِ، وَجعل النَّبِي ينْقل مَعَهم اللَّبن وَالْحِجَارَة بِنَفسِهِ وَيَقُول:
( هَذَا الْجمال لَا جمال خَيْبَر ... هَذَا أبر رَبنَا وأطهر)

وَجعل قبلته إِلَى الْقُدس، وَجعل لَهُ ثَلَاثَة أَبْوَاب بابُُا فِي مؤخره، وبابُاً يُقَال لَهُ: بابُُ الرَّحْمَة، وَهُوَ الْبابُُ الَّذِي يدعى بابُُ العاتكة، وَالثَّالِث: الَّذِي يدْخل مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ الْبابُُ الَّذِي يَلِي آل عُثْمَان، وَجعل طول الْجِدَار قامة وبسطة، وعمده الْجُذُوع، وسقفه جريداً فَقيل لَهُ: أَلا تسقفه؟ فَقَالَ: عَرِيش كعريش مُوسَى خشيبات، وَتَمام الْأَمر أعجل من ذَلِك، وَسَيَأْتِي فِي الْكتاب عَن قريب: عَن ابْن عمر: أَن الْمَسْجِد كَانَ على عهد رَسُول الله مَبْنِيا بِاللَّبنِ وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل، وَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر شَيْئا، وَزَاد فِيهِ عمر، وبناه على بنائِهِ فِي عهد النَّبِي بِاللَّبنِ والجريد وَأعَاد عمده خشباً ثمَّ غَيره عُثْمَان فَزَاد فِيهِ زِيَادَة كَثِيرَة، وَبنى جِدَاره بحجارة منقوشة والقصة وَجعل عمده حِجَارَة منقوشة، وسقفه بالساج.
وَفِي ( الإكليل) ثمَّ بناه الْوَلِيد بن عبد الْملك فِي إمرة عمر بن عبد الْعَزِيز، وَفِي ( الرَّوْض) : ثمَّ بناه الْمهْدي، ثمَّ زَاد فِيهِ الْمَأْمُون، ثمَّ لم يبلغنَا تغيره إِلَى الْآن.
قَوْله: ( عضادتيه) تَثْنِيَة: عضادة، بِكَسْر الْعين.
قَالَ ابْن التياني فِي ( الموعب) : قَالَ أَبُو عمر: وَهِي جَانب الْحَوْض، وَعَن صَاحب ( الْعين) : أعضاد كل شَيْء مَا يشده من حواليه من الْبناء وَغَيره، مِثَال عضاد الْحَوْض، وَهِي صَفَائِح من حِجَارَة ينصبن على شفيره، وعضادتا الْبابُُ مَا كَانَ عَلَيْهِمَا يطبق الْبابُُ إِذا أصفق.
وَفِي ( التَّهْذِيب) للأزهري: عضادتا الْبابُُ الخشبتان المنصوبتان عَن يَمِين الدَّاخِل مِنْهُ وشماله، وَزَاد الْقَزاز: فَوْقهمَا الْعَارِضَة.
قَوْله: ( يرتجزون) أَي: يتعاطون الرجز، من: الرجز، وَهُوَ ضرب من الشّعْر، وَقد رجز الراجز وأرجزه، وَقد اخْتلف العروضيون وَأهل الْأَدَب فِي الرجز هَل هُوَ شعر أم لَا، مَعَ اتِّفَاق أَكْثَرهم على أَن الرجز لَا يكون شعرًا، وَعَلِيهِ يحمل مَا جَاءَ من النَّبِي من ذَلِك: لِأَن الشّعْر حرَام عَلَيْهِ بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم.
.

     وَقَالَ  القرطبى: الصَّحِيح فِي الرجز أَنه من الشّعْر، وَإِنَّمَا أخرجه من الشّعْر من أشكل عَلَيْهِ إنشاد النَّبِي إِيَّاه، فَقَالَ: لَو كَانَ شعرًا لما علمه.
قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن من أنْشد الْقَلِيل من الشّعْر أَو قَالَه أَو تمثل بِهِ على وَجه الندور لم يسْتَحق اسْم شَاعِر، وَلَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه يعلم الشّعْر، وَلَا ينْسب إِلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: لَا يُطلق على الرجز شعرًا، إِنَّمَا هُوَ كَلَام مرجز مسجع بِدَلِيل أَنه يُقَال لصانعه: راجز، وَلَا يُقَال: شَاعِر.
وَيُقَال: أنْشد رجزاً وَلَا يُقَال أنْشد شعرًا.
وَقيل: أَن مَا قَالَه الشَّاعِر لَيْسَ برجز وَلَا مَوْزُون، وَقد اخْتلف هَل يحل لَهُ الشّعْر؟ فعلى القَوْل بِنَفْي الْجَوَاز هَل يحْكى بَيْتا وَاحِدًا؟ فَقيل: لَا يتمه إلاَّ متغيراً وَأبْعد من قَالَ: الْبَيْت الْوَاحِد لَيْسَ بِشعر، وَلما ذكر قَول طرفه.

( ستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت جَاهِلا.
)


قَالَ: قَالَ:
( ويأتيك من لم تزَود بالأخبار)

.
فَقَالَ أَبُو بكر: يَا رَسُول الم يقل هَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ:
( ويأتيك بالأخبار من لم تزَود.
)


فَقَالَ: كِلَاهُمَا سَوَاء، فَقَالَ: أشهد أَنَّك لست بشاعر، وَلَا تُحسنهُ.
وَلما أنْشد، على مَا ذكرنَا، خرج أَن يكون شعرًا، وَقد قيل: قَوْله تَعَالَى: { وَمَا علمناه الشّعْر} ( يس: 96) أَي: صَنعته، وَهِي الْآلَة الَّتِي لَهُ، فَأَما أَن يحفظ مَا قَالَ النَّاس فَلَيْسَ بممتنع عَلَيْهِ.
قَوْله: ( وَالنَّبِيّ مَعَهم) ، جملَة حَالية، أَي: وَالنَّبِيّ يرتجز مَعَهم، وَكَذَا قَوْله: ( وَهُوَ يَقُول) حَال قَوْله: ( اللَّهُمَّ) مَعْنَاهُ: يَا ا،.

     وَقَالَ  البصريون: اللَّهُمَّ، دُعَاء بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ إِذْ: الْمِيم، تشعر بِالْجمعِ كَمَا فِي: عَلَيْهِم،.

     وَقَالَ  الْكُوفِيُّونَ: أَصله اأمنا بِخَير، أَي: اقصدنا، فَخفف فَصَارَ: اللَّهُمَّ قَوْله: ( لَا خير إلاَّ خير الْآخِرَة) .
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد.

( اللَّهُمَّ إِن الْخَيْر خير الْآخِرَة) .
قَوْله: ( فَاغْفِر للْأَنْصَار) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: ( فَاغْفِر الْأَنْصَار) ، بِحَذْف: اللَّام، وَوَجهه أَن يضمن: أَغفر، معنى: اسْتُرْ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ وَشَيْخه أَيْضا، بِلَفْظ: ( فانصر الْأَنْصَار) ، وَالْأَنْصَار جمع نصير، كأشراف جمع شرِيف، والنصير النَّاصِر من نَصره اعلى عدوه ينصره نصرا، والأسم: النُّصْرَة، وَسموا بذلك لأَنهم أعانوه على أعدائه وشدوا مِنْهُ، ( والمهاجرة) الْجَمَاعَة المهاجرة، وهم الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة محبَّة فِيهِ وطلباً للآخرة،، وَالْهجْرَة فِي الأَصْل من الهجر ضد الْوَصْل، وَقد هجره هجراً وهجراناً، ثمَّ غلب على الْخُرُوج من أَرض إِلَى أَرض، وَترك الأولى للثَّانِيَة.
يُقَال مِنْهُ هَاجر مهاجرة،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَنه لَو قرىء هَذَا الْبَيْت بِوَزْن الشّعْر يَنْبَغِي أَن يُوقف على: الْآخِرَة، والمهاجرة، إلاَّ أَنه قيل: إِنَّه قرأهما بِالتَّاءِ متحركة خُرُوجًا عَن وزن الشّعْر.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام: فِيهِ: جَوَاز الإرداف.
وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم.
وَفِيه: جَوَاز التَّصَرُّف فِي الْمقْبرَة الْمَمْلُوكَة بِالْهبةِ وَالْبيع.
وَفِيه: جَوَاز نبش قُبُور الْمُشْركين لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُم.
فَإِن قلت: كَيفَ يجوز إخراجهم من قُبُورهم والقبر مُخْتَصّ بِمن دفن فِيهِ فقد جازه فَلَا يجوز بَيْعه وَلَا نَقله عَنهُ؟ قلت: تِلْكَ الْقُبُور الَّتِي أَمر النَّبِي بنبشها لم تكن أملاكاً لمن دفن فِيهَا، بل لَعَلَّهَا غصبت، فَلذَلِك بَاعهَا ملاكها وعَلى تَقْدِير التَّسْلِيم أَنَّهَا حبست فَلَيْسَ بِلَازِم، إِنَّمَا اللَّازِم تحبيس الْمُسلمين لَا الْكفَّار، وَلِهَذَا قَالَت الْفُقَهَاء: إِذا دفن الْمُسلم فِي أَرض مَغْصُوبَة يجوز إِخْرَاجه فضلا عَن الْمُشرك، وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ دعت الضَّرُورَة وَالْحَاجة إِلَى نبشهم فَجَاز، فَإِن قلت: هَل يجوز فِي هَذَا الزَّمَان نبش قُبُور الْكفَّار ليتَّخذ مَكَانهَا مَسَاجِد؟ قلت: أجَاز ذَلِك قوم محتجين بِهَذَا الحَدِيث، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن النَّبِي قَالَ: هَذَا قبر أبي رِغَال، وَهُوَ: أَبُو ثَقِيف، وَكَانَ من ثَمُود وَكَانَ بِالْحرم يدْفع عَنهُ، فَلَمَّا خرج أَصَابَته النقمَة فَدفن بِهَذَا الْمَكَان، وَآيَة ذَلِك أَنه دفن مَعَه غُصْن من ذهب فابتدر النَّاس فنبشوه وَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْن، قَالُوا: فَإِذا جَازَ نبشها لطلب المَال فنبشها للِانْتِفَاع بمواضعها أولى، وَلَيْسَت حرمتهم موتى بأعظم مِنْهَا وهم أَحيَاء، بل هُوَ مأجور فِي ذَلِك، وَإِلَى جَوَاز نبش قُبُورهم لِلْمَالِ ذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَشْهَب بِهَذَا الحَدِيث،.

     وَقَالَ  الْأَوْزَاعِيّ: لَا يفعل، لِأَن رَسُول الله لما مر بِالْحجرِ قَالَ: ( لَا تدْخلُوا بيُوت الَّذين ظلمُوا إلاَّ أَن تَكُونُوا بَاكِينَ) .
فَنهى أَن يدْخل عَلَيْهِم بُيُوتهم، فَكيف قُبُورهم؟.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: قد أَبَاحَ دُخُولهَا على وَجه الْبكاء.

فَإِن قلت: هَل يجوز أَن تبنى على قُبُور الْمُسلمين؟ قلت: قَالَ ابْن الْقَاسِم: لَو أَن مَقْبرَة من مَقَابِر الْمُسلمين عفت فَبنى قوم عَلَيْهَا مَسْجِدا لم أر بذلك بَأْسا، وَذَلِكَ لِأَن الْمَقَابِر وقف من أوقاف الْمُسلمين لدفن موتاهم لَا يجوز لأحد أَن يملكهَا، فَإِذا درست وَاسْتغْنى عَن الدّفن فِيهَا جَازَ صرفهَا إِلَى الْمَسْجِد، لِأَن الْمَسْجِد أَيْضا وقف من أوقاف الْمُسلمين لَا يجوز تملكه لأحد، فمعناهما على هَذَا وَاحِد.
وَذكر أَصْحَابنَا أَن الْمَسْجِد إِذا خرب ودثر وَلم يبْق حوله جمَاعَة، والمقبرة إِذا عفت ودثرت تعود ملكا لأربابُها، فَإِذا عَادَتْ ملكا يجوز أَن يبْنى مَوضِع الْمَسْجِد دَارا وَمَوْضِع الْمقْبرَة مَسْجِدا وَغير ذَلِك، فَإِذا لم يكن لَهَا أَرْبابُُ تكون لبيت المَال.

وَفِيه: أَن الْقَبْر إِذا لم يبْق فِيهِ بَقِيَّة من الْمَيِّت وَمن ترابه الْمُخْتَلط بالصديد جَازَت الصَّلَاة فِيهِ.
وَفِيه: جَوَاز قطع الْأَشْجَار المثمرة للضَّرُورَة والمصلحة إِمَّا لاستعمال خشبها أَو ليغرس موضعهَا غَيرهَا أَو لخوف سُقُوطهَا على شَيْء تتلفه أَو لاتخاذ موضعهَا مَسْجِدا، وَكَذَا قطعهَا فِي بِلَاد الْكفَّار إِذا لم يرج فتحهَا لِأَن فِيهِ نكاية وغيظاً لَهُم وإرغاماً.
وَفِيه: جَوَاز الارتجاز وَقَول الْأَشْعَار وَنَحْوهَا لتنشيط النُّفُوس وتسهيل الْأَعْمَال وَالْمَشْي عَلَيْهَا.