فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من بنى مسجدا

( بابُُ مَنْ بَنَى مَسْجِداً)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من بنى مَسْجِدا.


[ قــ :441 ... غــ :450]
- ( حَدثنَا يحيى بن سُلَيْمَان حَدثنِي ابْن وهب أَخْبرنِي عَمْرو أَن بكيرا حَدثهُ أَن عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة حَدثهُ أَنه سمع عبيد الله الْخَولَانِيّ أَنه سمع عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ يَقُول عِنْد قَول النَّاس فِيهِ حِين بنى مَسْجِد الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّكُم أَكثرْتُم وَإِنِّي سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول من بنى مَسْجِدا قَالَ بكير حسبت أَنه قَالَ يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الْبابُُ فِي بَيَان فضل من بنى الْمَسْجِد ( ذكر رِجَاله) وهم سَبْعَة.
الأول يحيى بن سُلَيْمَان الْجعْفِيّ مر فِي بابُُ كِتَابَة الْعلم.
الثَّانِي عبد الله بن وهب وَقد مر أَيْضا غير مرّة.
الثَّالِث عَمْرو بِفَتْح الْعين ابْن الْحَارِث الملقب بدرة الغواص مر فِي بابُُ الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
الرَّابِع بكير مصغر مخفف ابْن عبد الله الْأَشَج الْمدنِي خرج قَدِيما إِلَى مصر فَنزل بهَا.
الْخَامِس عَاصِم بن عمر بِضَم الْعين الأوسي الْأنْصَارِيّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة عشْرين وَمِائَة.
السَّادِس عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن الْأسود الْخَولَانِيّ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وبالنون ربيب مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
السَّابِع عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ( ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْأَفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه السماع فِي موضِعين وَفِيه ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد وهم بكير وَعَاصِم وَعبد الله وَفِيه ثَلَاثَة من أول الْإِسْنَاد مصريون وَثَلَاثَة من آخِره مدنيون وَفِي وَسطه مدنِي سكن مصر وَهُوَ بكير ( ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي وَأحمد بن عِيسَى عَن ابْن وهب إِلَى آخِره وَأخرجه أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن اسحق بن إِبْرَاهِيم عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ وَعبد الْملك بن الصَّباح وَفِيه وَفِي آخر الْكتاب عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى كِلَاهُمَا عَن الضَّحَّاك بن مخلد ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الحميد بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن مَحْمُود بن لبيد عَن عُثْمَان بن عَفَّان وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن بنْدَار عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ عَن عبد الحميد بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن مَحْمُود بن لبيد عَن عُثْمَان إِلَى آخِره.

     وَقَالَ  حَدِيث حسن صَحِيح وَأخرجه ابْن ماجة عَن بنْدَار عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ وَفِي الْبابُُ عَن أبي بكر وَعمر وَعلي وَعبد الله بن عَمْرو وَأنس وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَأم حَبِيبَة وَأبي ذَر وَعَمْرو بن عَنْبَسَة وواثلة بن الْأَسْقَع وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
( قلت) حَدِيث أبي بكر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْأَوْسَط من رِوَايَة وهب بن حَفْص عَن حبيب بن نوح عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن مصرف عَن أَبِيه عَن مرّة الطّيب عَن أبي بكر الصّديق فَذكره ووهب بن حَفْص ضَعِيف وَفِي علل أبي حَاتِم الرَّازِيّ قَالَ هُوَ مُنكر عَن أبي بكر الصّديق " من بنى مَسْجِدا لله وَلَو مثل مفحص قطاة ".
وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرجه ابْن حبَان " من بني لله مَسْجِدا يذكر فِيهِ اسْم الله بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة ".
وَحَدِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عِنْد ابْن ماجة من حَدِيث عُرْوَة عَن عَليّ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من بنى مَسْجِدا لله بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " وَإِسْنَاده ضَعِيف.
وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو عِنْد أبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده نَحوه وَزَاد " أوسع مِنْهُ " وروى أَحْمد أَيْضا نَحوه.
وَحَدِيث أنس عِنْد التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا نوح بن قيس عَن عبد الرَّحْمَن مولى قيس عَن زِيَاد النميري عَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من بنى لله مَسْجِدا صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " وَأخرجه أَيْضا أَبُو نعيم وَلَفظه " من بني مَسْجِدا لله فِي الدُّنْيَا يُرِيد بِهِ وَجه الله قَالُوا إِذا نكثر يَا رَسُول الله قَالَ الله أَكثر " وَفِي لفظ " كل بِنَاء وبال على صَاحبه يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا مَسْجِدا فَإِن لَهُ بِهِ قصرا فِي الْجنَّة من لُؤْلُؤ ".
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد أبي مُسلم الْكَجِّي مثله وَزَاد " وَلَو كمفحص قطاة ".
وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد مُسَدّد فِي مُسْنده الْكَبِير عَن أبي دَاوُد عَن كثير بن عبد الرَّحْمَن الطَّحَّان عَن عَطاء عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة قلت يَا رَسُول الله وَهَذِه الْمَسَاجِد الَّتِي فِي طَرِيق مَكَّة قَالَ وَتلك ".
وَحَدِيث أم حَبِيبَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط.
وَحَدِيث أبي ذَر عِنْد الْبَزَّار.
وَحَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة عِنْد النَّسَائِيّ.
وَحَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير " من بني مَسْجِدا يصلى فِيهِ بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة أفضل مِنْهُ ".
وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَعند الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان " من بني بَيْتا يعبد الله فِيهِ حَلَالا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة من الدّرّ والياقوت " وَحَدِيث جَابر عِنْد ابْن خُزَيْمَة " من حفر مَاء لم يشرب مِنْهُ كبد حَيّ من جن وَلَا إنس وَلَا طَائِر إِلَّا آجره الله يَوْم الْقِيَامَة وَمن بنى مَسْجِدا كمفحص قطاة أَو أَصْغَر بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " ( قلت) وَفِي الْبابُُ عَن أبي قرصافة ونبيط بن شريط وَعمر بن مَالك وَأَسْمَاء بنت يزِيد ومعاذ وَأبي أُمَامَة وَعبد الله بن أبي أوفى وَأبي مُوسَى وَعبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَحَدِيث أبي قرصافة واسْمه جندرة بن خيشنة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " ابْنُوا الْمَسَاجِد وأخرجوا القمامة مِنْهَا فَمن بنى " فَذكره وَزَاد " قَالَ رجل يَا رَسُول الله وَهَذِه الْمَسَاجِد الَّتِي تبنى فِي الطَّرِيق قَالَ نعم وَإِخْرَاج القمامة مِنْهَا مُهُور حور الْعين " وَفِي إِسْنَاده جَهَالَة.
وَحَدِيث نبيط عِنْده أَيْضا فِي الصَّغِير.
وَحَدِيث عمر بن مَالك عِنْد أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كتاب الصَّحَابَة وَلَفظه " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة ".
وَحَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد عِنْد الطَّبَرَانِيّ نَحوه وَرَوَاهُ أَبُو نعيم وَلَفظه " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة أوسع مِنْهُ " وَحَدِيث معَاذ عِنْد أبي الْفرج فِي كتاب الْعِلَل " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " وَمن علق فِيهِ قِنْدِيلًا صلى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألف ملك حَتَّى يطفى ذَلِك الْقنْدِيل وَمن بسط فِيهِ حَصِيرا صلى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألف ملك حَتَّى يتقطع ذَلِك الْحَصِير وَمن أخرجه مِنْهُ قذاة كَانَ لَهُ كفلان من الْأجر " وَفِيه كَلَام كثير.
وَحَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد أبي نعيم " لَا يَبْنِي أحد مَسْجِدا لله إِلَّا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة أوسع مِنْهُ ".
وَحَدِيث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه الْحَافِظ عبد الْمُؤمن بن خلف الدمياطي فِي جُزْء جمعه.
وَحَدِيث أبي مُوسَى كَذَلِك.
وَحَدِيث عبد الله بن عمر عِنْد الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من رِوَايَة الحكم بن ظهير وَهُوَ مَتْرُوك عَن ابْن أبي ليلى عَن نَافِع عَن ابْن عمر فَذكره وَزَاد فِيهِ الطَّبَرَانِيّ " وَلَو كمفحص قطاة " فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ صحابيا ( ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " يَقُول " جملَة وَقعت حَالا عَن عُثْمَان قَوْله " عِنْد قَول النَّاس فِيهِ " أَي فِي عُثْمَان وَذَلِكَ أَن بَعضهم أنكر عَلَيْهِ عِنْد تَغْيِيره بِنَاء الْمَسْجِد وَجعله بِالْحِجَارَةِ المنقوشة والقصة وَوَقع بَيَان ذَلِك عِنْد مُسلم حَيْثُ أخرجه من طَرِيق مَحْمُود بن لبيد الْأنْصَارِيّ وَهُوَ من صغَار الصَّحَابَة قَالَ " لما أَرَادَ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِنَاء الْمَسْجِد كره النَّاس ذَلِك وأحبوا أَن يَدعُوهُ على هَيئته " أَي فِي عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " حِين بنى " أَي حِين أَرَادَ عُثْمَان أَن يَبْنِي وَلم يبن عُثْمَان إنْشَاء وَإِنَّمَا وَسعه وشيده وَقد ذَكرْنَاهُ فِي بابُُ بُنيان الْمَسْجِد.

     وَقَالَ  بَعضهم فَيُؤْخَذ مِنْهُ إِطْلَاق الْبناء فِي حق من جدد كَمَا يُطلق فِي حق من أنشأ أَو المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هَهُنَا بعض الْمَسْجِد من إِطْلَاق الْكل على الْبَعْض ( قلت) ذكر هَذَا الْقَائِل شَيْئَيْنِ الأول مُسْتَغْنى عَنهُ فَلَا حَاجَة إِلَى ذكره وَالثَّانِي لَا يَصح لِأَنَّهُ ذكر فِي بابُُ بُنيان الْمَسْجِد حَدِيث عبد الله بن عمر وَفِيه " ثمَّ غَيره عُثْمَان فَزَاد فِيهِ زِيَادَة كَثِيرَة وَبنى جِدَاره بحجارة منقوشة والقصة وَجعل عمده من حِجَارَة منقوشة وسقفه بالساج " انْتهى فَهَذَا يدل على أَنه غير الْكل وَزَاد فِيهِ يَعْنِي فِي الطول وَالْعرض وَكَانَ الْمَسْجِد مَبْنِيا بِاللَّبنِ وسقفه بِالْجَرِيدِ وعمده خشب النّخل وبناه عُثْمَان بِالْحِجَارَةِ وَجعل عمده بِالْحِجَارَةِ وسقفه بالساج فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل أَو المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُنَا بعض الْمَسْجِد فَهَذَا كَلَام من لم يتَأَمَّل ويتصرف من غير وَجه قَوْله " مَسْجِد الرَّسُول " كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي " مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَوْله " إِنَّكُم أَكثرْتُم " مقولة لقَوْله يَقُول ومفعوله مَحْذُوف للْعلم بِهِ وَالتَّقْدِير أَنكُمْ أَكثرْتُم الْكَلَام فِي الْإِنْكَار على فعلى قَوْله " من بنى مَسْجِدا " التَّنْوِين فِيهِ للشيوع فَيتَنَاوَل من بنى مَسْجِدا كَبِيرا أَو صَغِيرا يدل عَلَيْهِ حَدِيث أنس الَّذِي أخرجه التِّرْمِذِيّ بِهَذَا اللَّفْظ على مَا ذَكرْنَاهُ وروى ابْن أبي شيبَة حَدِيث الْبابُُ عَن عُثْمَان من وَجه آخر وَزَاد فِيهِ " وَلَو كمفحص قطاة " وَفِي حَدِيث جَابر " كمفحص قطاة أَو أَصْغَر " وللعلماء فِي تَوْجِيه هَذَا قَولَانِ فَقَالَ أَكْثَرهم هَذَا مَحْمُول على الْمُبَالغَة لِأَن الْمَكَان الَّذِي تفحص القطاة عَنهُ لتَضَع فِيهِ بيضها وترقد عَلَيْهِ لَا يَكْفِي مِقْدَار للصَّلَاة فِيهِ وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث جَابر الَّذِي ذَكرْنَاهُ.

     وَقَالَ  آخَرُونَ هُوَ على ظَاهره فَالْمَعْنى على هَذَا أَن يزِيد فِي مَسْجِد قدرا يحْتَاج إِلَيْهِ تكون تِلْكَ الزِّيَادَة على هَذَا الْقدر أَو يشْتَرك جمَاعَة فِي بِنَاء مَسْجِد فَتَقَع حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُم ذَلِك الْقدر قيل هَذَا كُله بِنَاء على أَن المُرَاد من الْمَسْجِد مَا يتَبَادَر إِلَيْهِ الذِّهْن وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي يتَّخذ للصَّلَاة فِيهِ فَإِن كَانَ المُرَاد بِالْمَسْجِدِ مَوضِع السُّجُود وَهُوَ مَا يسع الْجِهَة فَلَا يحْتَاج إِلَى شَيْء مِمَّا ذكر ( قلت) قَوْله " من بنى " يَقْتَضِي وجود بِنَاء على الْحَقِيقَة فَيحمل على الْمَسْجِد الْمَعْهُود بَين النَّاس وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث أم حَبِيبَة " من بني لله بَيْتا " وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَحَدِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَيْضا " من بنى لله مَسْجِدا يذكر فِيهِ اسْم الله " وكل ذَلِك يدل على أَن المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُوَ الْمَكَان الْمُتَّخذ لَا مَوضِع السُّجُود فَقَط وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْفرْقَة الأولى وَلَكِن لَا يمْنَع إِرَادَة مَوضِع السُّجُود مجَازًا فَيدْخل فِيهِ الْمَوَاضِع المحوطة إِلَى جِهَة الْقبْلَة وفيهَا هَيْئَة الْمِحْرَاب فِي طرقات الْمُسَافِرين وَالْحَال أَنَّهَا لَيست كالمساجد المبنية بالجدران والسقوف وَرُبمَا يَجْعَل مِنْهَا مَوضِع فِي غَايَة الصغر يدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي قرصافة الَّذِي ذَكرْنَاهُ قَوْله " قَالَ بكير حسبت أَنه " أَي أَن عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة وَهُوَ شَيْخه الَّذِي روى عَنهُ هَذَا الحَدِيث قَالَ فِي رِوَايَته " يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله " وَهَذِه الْجُمْلَة مدرجة مُعْتَرضَة وَقعت فِي الْبَين وَلم يجْزم بهَا بكير فَلذَلِك ذكرهَا بالحسبان وَلَيْسَت هَذِه الْجُمْلَة فِي رِوَايَة جَمِيع من روى هَذَا الحَدِيث فَإِن لَفظهمْ فِيهِ " من بني لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة " فَكَأَن بكير أنسى لَفْظَة الله فَذكرهَا بِالْمَعْنَى فَإِن معنى قَوْله " لله " يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمَعْنى الْمَقْصُود وَهُوَ الْإِخْلَاص ثمَّ إِن لَفْظَة يَبْتَغِي بِهِ على تَقْدِير ثُبُوتهَا فِي كَلَام الرَّسُول تكون حَالا من فَاعل بنى وَالْمرَاد بِوَجْه الله ذَات الله وابتغاء وَجه الله فِي الْعَمَل هُوَ الْإِخْلَاص وَهُوَ أَن تكون نِيَّته فِي ذَلِك طلب مرضاة الله تَعَالَى من دون رِيَاء وَسُمْعَة حَتَّى قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ من كتب اسْمه على الْمَسْجِد الَّذِي يبنيه كَانَ بَعيدا من الْإِخْلَاص ( فَإِن قلت) فعلى هَذَا لَا يحصل الْوَعْد الْمَخْصُوص لمن يبنيه بِالْأُجْرَةِ لعدم الْإِخْلَاص ( قلت) الظَّاهِر هَذَا وَلكنه يُؤجر فِي الْجُمْلَة يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم من حَدِيث عقبَة بن عَامر مَرْفُوعا " أَن الله يدْخل بِالسَّهْمِ الْوَاحِد ثَلَاثَة الْجنَّة صانعه الْمُحْتَسب فِي صَنعته والرامي بِهِ والممد بِهِ " فَقَوله " الْمُحْتَسب فِي صَنعته " هُوَ من يقْصد بذلك إِعَانَة الْمُجَاهِد وَهُوَ أَعم من أَن يكون مُتَطَوعا بذلك أَو بِأُجْرَة لَكِن الْإِخْلَاص لَا يكون إِلَّا من المتطوع ( فَإِن قلت) قَوْله " من بنى " حَقِيقَته أَن يُبَاشر الْبناء بِنَفسِهِ ليحصل لَهُ الْوَعْد الْمَخْصُوص فَلَا يدْخل فِيهِ الْأَمر بذلك ( قلت) يتَنَاوَل الْأَمر أَيْضا بنيته " والأعمال بِالنِّيَّاتِ " ( فَإِن قلت) يلْزم من ذَلِك الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَهُوَ مُمْتَنع ( قلت) لَا امْتنَاع فِيهِ عِنْد الشَّافِعِي وَأما عِنْد غَيره فبعموم الْمجَاز وَهُوَ أَن يحمل الْكَلَام على معنى مجازي يتَنَاوَل الْحَقِيقَة وَهَذَا يُسمى عُمُوم الْمجَاز وَلَا نزاع فِي جَوَاز اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي معنى مجازي يكون الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ من أَفْرَاده كاستعمال الدَّابَّة عرفا فِيمَا يدب على الأَرْض وَمِثَال ذَلِك فِيمَن أوصى لأبناء زيد مثلا وَله أَبنَاء وَأَبْنَاء أَبنَاء يسْتَحق الْجَمِيع عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد عملا بِعُمُوم الْمجَاز حَيْثُ يُطلق الْأَبْنَاء على الْفَرِيقَيْنِ قَوْله " بنى الله لَهُ " إِسْنَاد الْبناء إِلَى الله مجَازًا اتِّفَاقًا قطعا ( فَإِن قلت) إِظْهَار الْفَاعِل فِيهِ لماذا ( قلت) لِأَن فِي تكْرَار اسْمه تَعْظِيمًا وتلذذا للذاكر قَالَ الشَّاعِر
( أعد ذكر نعْمَان لنا أَن ذكره ... هُوَ الْمسك مَا كررته يتضوع)
وَقَالَ بَعضهم لِئَلَّا تتنافر الضمائر أَو يتَوَهَّم عوده على باني الْمَسْجِد ( قلت) كلا الْوَجْهَيْنِ غير صَحِيح أما الأول فَلِأَن التنافر إِنَّمَا يكون إِذا كَانَت الضمائر كَثِيرَة وَأما الثَّانِي فَمَمْنُوع قطعا للقرينة الحالية والمقالية قَوْله " مثله " مَنْصُوب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي بِنَاء مثله والمثل فِي اللُّغَة الشّبَه يُقَال هَذَا الشَّيْء مثل هَذَا أَي شبهه قَالَ الْجَوْهَرِي مثل كلمة تَسْوِيَة يُقَال هَذَا مثله وَمثله كَمَا تَقول شبهه وَشبهه وَعند أهل الْمَعْقُول الْمُمَاثلَة بَين الشَّيْئَيْنِ هُوَ الِاتِّحَاد فِي النَّوْع كاتحاد زيد وَعَمْرو فِي الإنسانية وَإِذا كَانَ فِي الْجِنْس يُسمى مجانسة كاتحاد الْإِنْسَان مَعَ الْفرس فِي الحيوانية وَقد اخْتلفُوا فِي المُرَاد بالمثلية هَهُنَا فَقَالَ قوم مِنْهُم ابْن الْعَرَبِيّ يَعْنِي مثله فِي الْمِقْدَار والمساحة ( قلت) يرد هَذَا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو " بَيْتا أوسع مِنْهُ " وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أَسمَاء وَأبي أُمَامَة على مَا ذَكرنَاهَا.

     وَقَالَ  قوم مثله فِي الْجَوْدَة والحصانة وَطول الْبَقَاء ( قلت) هَذَا لَيْسَ بِشَيْء على مَا لَا يخفى مَعَ أَنه ورد فِي حَدِيث وَاثِلَة عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ " بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة أفضل مِنْهُ ".

     وَقَالَ  صَاحب الْمُفْهم هَذِه المثلية لَيست على ظَاهرهَا وَإِنَّمَا يعْنى أَنه يَبْنِي لَهُ بثوابه بَيْتا أشرف وَأعظم وَأَرْفَع.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ يحْتَمل قَوْله " مثله " أَمريْن أَحدهمَا أَن يكون مَعْنَاهُ بنى الله لَهُ مثله فِي مُسَمّى الْبَيْت وَأما صفته فِي السعَة وَغَيرهَا فمعلوم فَضلهَا فَإِنَّهَا مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَالثَّانِي أَن مَعْنَاهُ أَن فَضله على بيُوت الْجنَّة كفضل الْمَسْجِد على بيُوت الدُّنْيَا ( قلت) الْوَجْه الثَّانِي لَا يَخْلُو عَن بعد.

     وَقَالَ  بعض شرَّاح التِّرْمِذِيّ وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ أَن يُنَبه بقوله " مثله " على الحض على الْمُبَالغَة فِي إِرَادَة الِانْتِفَاع بِهِ فِي الدُّنْيَا فِي كَونه ينفع الْمُصَلِّين ويكنهم عَن الْحر وَالْبرد وَيكون فِي مَكَان يحْتَاج إِلَيْهِ وَيكثر الِانْتِفَاع بِهِ ليقابل الِانْتِفَاع بِهِ فِي الدُّنْيَا انتفاعه هُوَ بِمَا يبْنى لَهُ فِي الْجنَّة.
.

     وَقَالَ  صَاحب الْمُفْهم وَهَذَا الْبَيْت وَالله أعلم مثل بَيت خَدِيجَة الَّذِي بشرت بِهِ بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب يُرِيد من قصب الزمرد والياقوت ( قلت) قد ذكرنَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة من عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان " بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة من در وَيَاقُوت " ( فَإِن قلت) قَالَ الله تَعَالَى { من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} فَمَا معنى التَّقْيِيد بِمثلِهِ ( قلت) أجابوا عَن هَذَا بأجوبة.
الأول مَا قَالَه بَعضهم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَه قبل نزُول هَذِه الْآيَة ( قلت) هَذَا بعيد وَلَا يعلم ذَلِك إِلَّا بالتاريخ.
الثَّانِي أَن المثلية إِنَّمَا هِيَ بِحَسب الكمية وَالزِّيَادَة بِحَسب الْكَيْفِيَّة ( قلت) المثلية بِحَسب الكمية تسمى مُسَاوَاة كاتحاد مِقْدَار مَعَ آخر فِي الْقدر وَفِي الْكَيْفِيَّة تسمى مشابهة.
الثَّالِث أَن التَّقْيِيد بِهِ لَا يَنْفِي الزِّيَادَة واستبعده بَعضهم وَلَيْسَ بِبَعِيد.
الرَّابِع أَن الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان الْمُمَاثلَة فِي أَن أَجزَاء هَذِه الْحَسَنَة من جنس الْعَمَل لَا من غَيره وَعِنْدِي جَوَاب فتح لي بِهِ من الْأَنْوَار الالهية وَهُوَ أَن المجازاة بِالْمثلِ عدل مِنْهُ وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ بِحَسب الْكَيْفِيَّة والكمية فضل مِنْهُ قَوْله " فِي الْجنَّة " قَالَ بَعضهم هُوَ مُتَعَلق ببنى أَو هُوَ حَال من قَوْله مثله ( قلت) لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلق بِمَحْذُوف وَقع صفة لمثله وَالتَّقْدِير بنى الله لَهُ مثله كَائِنا فِي الْجنَّة وَكَيف يكون حَالا من مثله وَشرط الْحَال أَن يكون من معرفَة كَمَا عرف فِي مَوْضِعه وَلَفظ مثل لَا يتعرف وَإِن أضيف