فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب تحريم تجارة الخمر في المسجد

( بابُُ تحْرِيمِ تِجَارَةِ الخَمْرِ فِي المسْجِدِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر، وَلَا بُد فِيهِ من تَقْدِير مُضَاف، لِأَن المُرَاد بَيَان ذَلِك، وَتبين أَحْكَامه وَلَيْسَ المُرَاد بِأَن تَحْرِيمهَا مُخْتَصّ بِالْمَسْجِدِ لِأَنَّهَا حرَام، سَوَاء كَانَت فِي الْمَسْجِد أَو فِي غَيره، وَقَوله: فِي الْمَسْجِد، يتَعَلَّق بِالتَّحْرِيمِ لَا بِالتِّجَارَة.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : أَخذ من كَلَام ابْن بطال: وغرض البُخَارِيّ هُنَا فِي هَذَا الْبابُُ، وَا أعلم، أَن الْمَسْجِد لما كَانَ للصَّلَاة وَلذكر اتعالى منزهاً من الْفَوَاحِش، وَالْخمر والربا من أكبر الْفَوَاحِش يمْنَع من ذَلِك، فَلَمَّا ذكر الشَّارِع تَحْرِيمهَا فِي الْمَسْجِد، ذكر أَنه لَا بَأْس بِذكر الْمُحرمَات والأقذار فِي الْمَسْجِد على وَجه النَّهْي عَنْهَا، وَالْمَنْع مِنْهَا.
انْتهى.
وَأخذ بَعضهم من كَلَامه: فَقَالَ: بابُُ تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر فِي الْمَسْجِد، أَي: جَوَاز ذكر ذَلِك.
قلت: كل هَذَا خَارج عَن المهيع أَو تَصَرُّفَات بِغَيْر تَأمل، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي بَيَان جَوَاز ذكر ذَلِك فِي الْمَسْجِد، إِذْ هُوَ مُبين من الْخَارِج، وَلَيْسَ غَرَض البُخَارِيّ ذَلِك، وَإِنَّمَا غَرَضه بَيَان أَن تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر وَقع فِي الْمَسْجِد، لِأَن ظَاهر حَدِيث الْبابُُ مُصَرح بذلك، لِأَن عَائِشَة.
قَالَت: لما نزلت الْآيَات من سُورَة الْبَقَرَة فِي الرِّبَا خرج النَّبِي إِلَى الْمَسْجِد إِلَى آخِره، فَهَذَا ظَاهره أَن تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر بعد نزُول آيَات الرِّبَا.
فَإِن قلت: كَانَ تَحْرِيم الْخمر قبل نزُول آيَات الرِّبَا بِمدَّة طَوِيلَة، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَلَمَّا حرمت الْخمر حرمت التِّجَارَة فِيهَا أَيْضا قطعا، فَمَا الْفَائِدَة فِي ذكر تَحْرِيم تجارتها هَهُنَا.
قلت: يحْتَمل كَون تَحْرِيم التِّجَارَة فِيهَا قد تَأَخَّرت عَن وَقت تَحْرِيم عينهَا، وَيحْتَمل أَن يكون ذكره هُنَا تَأْكِيدًا ومبالغة فِي إِشَاعَة ذَلِك، أَو يكون قد حضر الْمجْلس من لم يبلغهُ تَحْرِيم التِّجَارَة فِيهَا قبل ذَلِك، فَأَعَادَ ذكر ذَلِك للإعلام لَهُم، وَكَانَ ذَلِك وَرَسُول الله فِي الْمَسْجِد، وَهَذَا أَيْضا هُوَ موقع التَّرْجَمَة، وَلَيْسَ ذَلِك مثل مَا قَالَ بَعضهم: وموقع التَّرْجَمَة أَن الْمَسْجِد منزه عَن الْفَوَاحِش قولا وفعلاً، لَكِن يجوز ذكرهَا فِيهِ للتحذير مِنْهَا.
انْتهى.
قلت: إِذا كَانَ ذكر الْفَوَاحِش جَائِزا فِي الْمَسْجِد لأجل التحذير، فَمَا وَجه تَخْصِيص ذكر فَاحِشَة تَحْرِيم الْخمر فِي الْمَسْجِد؟ وَجَوَاب هَذَا يلْزم هَذَا الْقَائِل، فعلى مَا ذكرنَا لَا يرد سُؤال فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب.



[ قــ :449 ... غــ :459]
- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أبي حَمْزَة عنِ الأَعْمَشِ عنْ مسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ لَمَّا أُنْزِلَتِ الآياتُ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ النبيُّ إلَى المَسْجِدِ فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الخَمْرِ.
( الحَدِيث 954 أَطْرَافه فِي: 4802، 6222، 0454، 1454، 2454، 3454) .


مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا الْآن.

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَبْدَانِ: هُوَ عبد ابْن عُثْمَان الْمروزِي، وعبدان، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: لقب لَهُ قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَأَصله من الْبَصْرَة.
الثَّانِي: أَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: اسه مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي، مر فِي بابُُ نفض الْيَدَيْنِ فِي الْغسْل.
الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش.
الرَّابِع: مُسلم بن صبيح، بِضَم الصَّاد وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وكنيته أَبُو الضُّحَى الْكُوفِي.
الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع الْكُوفِي.
السَّادِس: عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وكوفي.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض وهم: الْأَعْمَش وَمُسلم ومسروق.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره.
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَفِي التَّفْسِير عَن بشر بن خَالِد، وَفِيه أَيْضا عَن عمر بن حَفْص، وَفِي الْبيُوع وَالتَّفْسِير أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بشار.
وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن زُهَيْر بن حَرْب.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن عُثْمَان عَن أبي مُعَاوِيَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي التَّفْسِير عَن بشر بن خَالِد بِهِ، وَعَن مَحْمُود بن غيلَان.
وَأخرجه ابْن ماجة فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة الضَّرِير بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: ( لما نزلت الْآيَات) هِيَ من قَوْله تَعَالَى: { الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} ( الْبَقَرَة: 572) إِلَى قَوْله: { لَا تظْلمُونَ وَلَا تظْلمُونَ} ( الْبَقَرَة: 972) وروى ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: ( آكل الرِّبَا يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة مَجْنُونا يخنق) .
قَالَ: وَرُوِيَ عَن عَوْف بن مَالك وَسَعِيد بن جُبَير وَالسُّديّ وَالربيع بن أنس وَمُقَاتِل بن حَيَّان نَحْو ذَلِك، وروى ابْن جريرج فال: حَدثنِي الْمثنى حدّثنا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حدّثنا ربيعَة بن كُلْثُوم حدّثنا أبي عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: ( يُقَال يَوْم الْقِيَامَة لآكل الرِّبَا: خُذ سِلَاحك للحرب، وَقَرَأَ: { لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي بتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} ( الْبَقَرَة: 572) قَالَ: وَذَلِكَ حِين يقوم من قَبره) .
قَوْله: ( من سُورَة الْبَقَرَة) وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: ( لما نزلت الْآيَات من آخر سُورَة الْبَقَرَة فِي الرِّبَا، قَرَأَهَا رَسُول الله على النَّاس ثمَّ حرم التِّجَارَة فِي الْخمر) .
.

     وَقَالَ  ابْن كثير فِي تَفْسِيره: قَالَ بعض من تكلم على هَذَا الحَدِيث من الْأَئِمَّة: لما حرم الرِّبَا ووسائله حرم الْخمر، وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ من تِجَارَة وَنَحْو ذَلِك.
قلت: ظَاهر هَذَا يدل على أَن تَحْرِيم الْخمر كَانَ مَعَ تَحْرِيم الرِّبَا، وَلَكِن قَالُوا: إِن تَحْرِيم الْخمر قبل تَحْرِيم الرِّبَا بِمدَّة طَوِيلَة، كَمَا ذكرنَا عَن قريب.
والربا: مَقْصُور، من: رَبًّا يَرْبُو إِذا زَاد فَيكْتب بِالْألف، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ كتبه بِالْيَاءِ بِسَبَب الكسرة فِي أَوله، وَقد كتب فِي الْمُصحف: بِالْوَاو.
قَالَ الْفراء: إِنَّمَا كتبوه بِالْوَاو لِأَن أهل الْحجاز تعلمُوا الْخط من أهل الْحيرَة ولغتهم الربو، فعلموهم صُورَة الْخط على لغتهم، قَالَ: وَيجوز كتبه بِالْألف وبالواو وبالياء.
قَوْله: ( تِجَارَة الْخمر) أَي: بيعهَا وشراءها.