فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الصلاة إلى الراحلة، والبعير والشجر والرحل

( بابُ الصَّلاَةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ والبَعَيرِ والشَّجَرِ والرَّحْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة بالتوجه إِلَى الرَّاحِلَة إِلَى آخِره، وَالرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وَتَمام الْخلق وَحسن النّظر، فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت، و: الْهَاء، فِيهِ للْمُبَالَغَة كَمَا يُقَال: رجل داهية وراوية.
وَقيل: إِنَّمَا سميت: رَاحِلَة، لِأَنَّهَا ترحل.
قَالَ اتعالى.
{ فِي عيشة راضية} ( الحاقة: 12، وَالْقَارِعَة: 7) أَي: مرضية، وَالْبَعِير من الْإِبِل بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان من النَّاس.
وَيُقَال للجمل: بعير وللناقة: بعير، وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ: بعير وشعير بِكَسْر الْبَاء والشين، وَالْفَتْح هُوَ الفصيح، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ: بعير إِذا أجذع، وَالْجمع: أَبْعِرَة فِي أدنى الْعدَد، وأباعر فِي الْكثير، وأباعير وبعران، وَهَذِه عَن الْفراء.
وَمعنى: بأجذع، إِذا دخل فِي السّنة الْخَامِسَة.
فَإِن قلت: إِذا أطلق الْبَعِير على النَّاقة، وَالرَّاحِلَة هِيَ: النَّاقة، فَمَا فَائِدَة ذكر الْبَعِير؟ قلت: ذهب بَعضهم إِلَى أَن الرَّاحِلَة لَا تقع إلاَّ على الْأُنْثَى، وَلأَجل ذَلِك أردفه بالبعير، فَإِنَّهُ يَقع عَلَيْهِمَا.
قَوْله: ( وَالشَّجر) هُوَ الْمَعْرُوف، وَفِي حَدِيث عَليّ، رَضِي اعنه، قَالَ: ( لقد رَأَيْتنَا يَوْم بدر وَمَا فِينَا إِنْسَان إلاَّ نَائِم إلاَّ رَسُول ا،، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَة يَدْعُو حَتَّى أصبح) .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد حسن.
قَوْله: ( والرحل) بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ للبعير أَصْغَر من القتب، وَهُوَ الَّذِي يركب عَلَيْهِ.
وَهُوَ: الكور بِضَم الْكَاف.
فَإِن قلت: حَدِيث الْبَاب لَا يدل إلاَّ على الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير وَالشَّجر؟ قلت: كَأَنَّهُ وضع التَّرْجَمَة على أَنه يَأْتِي لكل جُزْء مِنْهَا بِحَدِيث، فَلم يجد على شَرطه إلاَّ حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ يدل على الصَّلَاة إِلَى الرَّاحِلَة والرحل، وَاكْتفى بِهِ عَن بَقِيَّة ذَلِك بِالْقِيَاسِ على الرَّاحِلَة، وَقد روى غَيره: فِي الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير وَالشَّجر، أما الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة ووهب بن بَقِيَّة وَعبد ابْن سعيد، قَالَ عُثْمَان: أخبرنَا أَبُو خَالِد، قَالَ: أخبرنَا عبيد اعن نَافِع عَن ابْن عمر: ( أَن النَّبِي كَانَ يُصَلِّي إِلَى بعيره) .
وَأما الصَّلَاة إِلَى الشّجر فقد ذَكرْنَاهُ الْآن عَن النَّسَائِيّ.


[ قــ :494 ... غــ :507]
حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ الْبَصْرِيُّ قَالَ حدّثنا مُعْتَمِرٌ عنْ عُبَيْدِ ااِ عَنْ نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ عنِ النبيِّ أنَّهُ كانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إلَيْها.

قُلْتُ أفَرَأيْتَ إِذا هَبَّتِ الرِّكابُ قَالَ كَانَ يَأْخُذُ هذَا الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فَيُصَلِّي إِلَيّ آخِرَتِهِ أَو قَالَ مُؤَخِّرِهِ وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي ااُ عَنهُ يَفْعَلُهُ.
( انْظُر الحَدِيث 034) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي.
قَوْله: ( يعرض رَاحِلَته فَيصَلي إِلَيْهَا) .
وَفِي قَوْله: ( كَانَ يَأْخُذ الرحل) : إِلَى آخِره.
وَأما ذكر الْبَعِير وَالشَّجر فِي التَّرْجَمَة فقد ذكرنَا وَجهه آنِفا.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة تكَرر ذكرهم.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَلَفظه: ( آخِرَة الرحل) ، وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث أبي ذَر، وَأبي هُرَيْرَة وَأخرج النَّسَائِيّ من حَدِيث عَائِشَة: ( سُئِلَ رَسُول فِي غَزْوَة تَبُوك عَن ستْرَة الْمُصَلِّي؟ فَقَالَ: مثل مؤخرة الرحل.
ذكر مَعْنَاهُ)
: قَوْله: ( يعرض) ، بتَشْديد الرَّاء من التَّعْرِيض أَي: يَجْعَلهَا عرضا.
قَوْله: ( أَفَرَأَيْت؟) الْفَاء عاطفة على مُقَدّر بعد الْهمزَة أَي: أَرَأَيْت فِي تِلْكَ الْحَالة، فَرَأَيْت فِي هَذِه الْحَالة الْأُخْرَى، وَالْمعْنَى: أَخْبرنِي عَن هَذِه وَفِي بعض النّسخ: ( أَرَأَيْت) بِدُونِ: الْفَاء.
فَإِن قلت: من السَّائِل هُنَا وَمن المسؤول عَنهُ؟ قلت: الَّذِي يدل عَلَيْهِ الظَّاهِر أَنه كَلَام نَافِع، وَهُوَ السَّائِل.
والمسؤول عَنهُ هُوَ ابْن عمر، وَلَكِن وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عُبَيْدَة بن حميد: عَن عبيد ابْن عمر أَنه كَلَام عبيد ا، والمسؤول نَافِع، فعلى هَذَا يكون هُوَ مُرْسلا، لِأَن فَاعل: يَأْخُذ، هُوَ النَّبِي وَلم يُدْرِكهُ نَافِع.
قَوْله: ( إِذا هبت الركاب) ، هبت بِمَعْنى: هَاجَتْ وتحركت، يُقَال: هَب الْفَحْل إِذا هاج، وهب العير فِي السّير إِذا نشط.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: هبت أَي زَالَت عَن موضعهَا وتحركت.
يُقَال: هَب النَّائِم من نَومه إِذا قَامَ، وَقَيده الْأصيلِيّ بِضَم الْهَاء، وَالْفَتْح أصوب، والركاب، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْكَاف: الْإِبِل الَّتِي يسَار عَلَيْهَا وَالْوَاحد الرَّاحِلَة، وَلَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، وَالْجمع الركب مثل الْكتب.
قَوْله: ( فيعدله) ، من التَّعْدِيل وَهُوَ تَقْوِيم الشَّيْء.
يُقَال: عدلته فاعتدل أَي: قومته فاستقام، وَالْمعْنَى يقيمه تِلْقَاء وَجهه، لِأَن الْإِبِل إِذا هَاجَتْ شوشت على الْمُصَلِّي لعدم استقرارها، فَحِينَئِذٍ كَانَ النَّبِي،، يعدل عَنْهَا إِلَى الراحل فَيَجْعَلهُ ستْرَة.
وَقد ضبط بَعضهم: فيعدله، بِفَتْح أَوله وَسُكُون الْعين وَكسر الدَّال، ثمَّ فسره بقوله: أَي يقيمه تِلْقَاء وَجهه، وَالصَّوَاب مَا ذَكرْنَاهُ لِأَنَّهُ من بَاب: فعل، بِالتَّشْدِيدِ، لكنه يَأْتِي بِمَعْنى: فعل بِالتَّخْفِيفِ، كَمَا يُقَال: زلتحه وزيلته، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى: فرقته.
قَوْله: ( إِلَى آخرته) ، بِفَتْح الْهمزَة وَالْخَاء وَالرَّاء بِلَا مد أَي: فصلى إِلَى آخِرَة الرحل، وَيجوز الْمَدّ فِي الْهمزَة، وَلَكِن بِكَسْر الْخَاء، وَهِي الْخَشَبَة الَّتِي يسْتَند إِلَيْهَا الرَّاكِب.
قَوْله: ( أَو قَالَ مؤخرته) ، فِي ضَبطه وُجُوه: الأول: بِضَم الْمِيم وَكسر الْخَاء وهمزة سَاكِنة، قَالَه النَّوَوِيّ.
وَالثَّانِي: بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الْخَاء الْمُشَدّدَة.
وَالثَّالِث: إسكان الْهمزَة وَتَخْفِيف الْهَاء،.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد: يجوز كسر الْخَاء وَفتحهَا، وَأنكر ابْن قُتَيْبَة الْفَتْح،.

     وَقَالَ  ابْن مكي: لَا يُقَال مقدم ومؤخر بِالْكَسْرِ إلاَّ فِي العير خَاصَّة، وَأما فِي غَيرهَا فَلَا يُقَال: إِلَّا بِالْفَتْح فَقَط،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: مؤخرة الرحل لُغَة قَليلَة فِي أَخَّرته،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: روينَاهُ بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْخَاء وَفتحهَا.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: مؤخرة الرحل الْعود الَّذِي يكون فِي آخر الرحل بِضَم الْمِيم وَكسر الْخَاء.
وَالرَّابِع روى بَعضهم بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْخَاء.
قَوْله: ( وَكَانَ ابْن عمر يَفْعَله) ، مقول: نَافِع، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: يَفْعَله، يرجع إِلَى كل وَاحِد من التَّعْرِيض وَالتَّعْدِيل اللَّذين يدل عَلَيْهِمَا، قَوْله: يعرض، وَقَوله: فيعدله، من قبيل قَوْله تَعَالَى: { أعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} ( الْمَائِدَة: 8) أَي: الْعدْل أقرب للتقوى، فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز الستْرَة بِمَا يثبت من الْحَيَوَان.
قَالَ ابْن بطال: وَكَذَلِكَ تجوز الصَّلَاة إِلَى كل شَيْء طَاهِر.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على جَوَاز التستر بِالْحَيَوَانِ، وَلَا يُعَارضهُ النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي معاطن الْإِبِل لِأَن المعاطن مَوَاضِع إِقَامَتهَا عِنْد المَاء، وَكَرَاهَة الصَّلَاة حِينَئِذٍ عِنْدهَا إِمَّا لشدَّة نتنها، وَإِمَّا لأَنهم كَانُوا يتخلون بهَا مستترين بهَا.
وَقيل: عِلّة النَّهْي فِي ذَلِك كَون الْإِبِل خلقت من الشَّيَاطِين، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْإِبِل.