فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب أفضل الاستغفار

(بابُُ أفْضَلِ الاسْتِغْفارِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان أفضل الاسْتِغْفَار، وَسقط لفظ: بابُُ، فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَوَقع لِابْنِ بطال: فضل الاسْتِغْفَار،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي قَوْله: أفضل الاسْتِغْفَار، فَإِن قلت: معنى الْأَفْضَل الْأَكْثَر ثَوابًا عِنْد الله، فَمَا وَجهه هُنَا إِذْ الثَّوَاب للمستغفر لَا لَهُ؟ قلت: هُوَ نَحْو مَكَّة أفضل من الْمَدِينَة أَي: ثَوَاب العابد فِيهَا أفضل من ثَوَاب العابد فِي الْمَدِينَة، فَالْمُرَاد: المستغفر بِهَذَا النَّوْع من الاسْتِغْفَار أَكثر ثَوابًا من المستغفر بِغَيْرِهِ.

وقَوْلِهِ تَعَالَى: { (17) اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه.
.
وَيجْعَل لكم أَنهَارًا}
(نوح: 10) { وَالَّذين إِذا فعلوا.
.
فعلوا وهم يعلمُونَ}
(آل عمرَان: 135) [/ ح.

وَقَوله بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (أفضل الاسْتِغْفَار) ، وَفِي بعض النّسخ وَاسْتَغْفرُوا، بِالْوَاو وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَالصَّوَاب ترك الْوَاو، فَإِن الْقُرْآن: { فَقلت اسْتَغْفرُوا ربكُم} وَفِي رِوَايَة أبي ذَر أَيْضا هَكَذَا { وَاسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا} الْآيَة.
وَفِي رِوَايَة غَيره سَاقهَا إِلَى قَوْله: { أَنهَارًا} كَمَا فِي كتَابنَا هَذَا، وَأَشَارَ بالآيتين إِلَى إِثْبَات مَشْرُوعِيَّة الْحَث على الاسْتِغْفَار فَلذَلِك ترْجم بالأفضلية، وَأَشَارَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَة إِلَى أَن بالاستغفار يحصل كل شَيْء، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكره الثَّعْلَبِيّ أَن رجلا أَتَى الْحسن الْبَصْرِيّ رَضِي الله عَنهُ فَشَكا إِلَيْهِ الجدوبة فَقَالَ لَهُ الْحسن: اسْتغْفر الله، وَأَتَاهُ آخر فَشَكا إِلَيْهِ الْفقر، فَقَالَ لَهُ: اسْتغْفر الله، وَأَتَاهُ آخر فَقَالَ: ادْع الله لي أَن يَرْزُقنِي إبناً، فَقَالَ: اسْتغْفر الله، وَأَتَاهُ آخر فَشَكا إِلَيْهِ جفاف بساتينه، فَقَالَ لَهُ: اسْتغْفر الله، فَقيل لَهُ: أَتَاك رجال يَشكونَ أبواباً ويسألون أنواعاً فَأَمَرتهمْ كلهم بالاستغفار، فَقَالَ: مَا قلت من ذَات نَفسِي فِي ذَلِك شَيْئا إِنَّمَا اعْتبرت فِيهِ قَول الله عز وَجل حِكَايَة عَن نبيه نوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لِقَوْمِهِ.
{ اسْتَغْفرُوا ربكُم} الْآيَة، وَالْآيَة الثَّانِيَة هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر { وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم} وسَاق غَيره إِلَى قَوْله: { وهم يعلمُونَ} كَمَا فِي كتَابنَا.
قَوْله: (يُرْسل السَّمَاء) أَي: الْمَطَر.
قَوْله: (مدراراً) حَال من السَّمَاء.
قَوْله: (فَاحِشَة) أَي: الزِّنَا.



[ قــ :5972 ... غــ :6306 ]
-
حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ حَدثنَا عَبْدُ الوارِثِ حدّثنا الحُسَيْنُ حَدثنَا عَبْدُ الله بنُ بُرَيْدَةَ عَنْ بُشَيْرِ ابنِ كَعْبٍ العَدَوِيِّ قَالَ: حَدثنِي شَدَّادُ بنُ أوْسِ رَضِي الله عَنهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: سَيِّدُ الاسْتِغْفارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لَا إلاهَ إلاَّ أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنا عَبْدُكَ وَأَنا عَلى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأبُوءُ بِذَنْبِي فاغْفِرْ لِي فإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أَنْتَ، قَالَ: ومنْ قالَها مِنَ النَّهارِ مُوقناً بِها فَماتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ فَهُوَ منْ أهْلِ الجَنَّةِ، ومَنْ قالَها مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِها فَماتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ.
(انْظُر الحَدِيث 6306 طرفه فِي: 6323) .


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (سيد الاسْتِغْفَار) لِأَن السَّيِّد فِي الأَصْل الرئيس الَّذِي يقْصد فِي الْحَوَائِج، وَيرجع إِلَيْهِ فِي الْأُمُور، وَلما كَانَ هَذَا الدُّعَاء جَامعا لمعاني التَّوْبَة كلهَا استغير لَهُ هَذَا الإسم، وَلَا شكّ أَن سيد الْقَوْم أفضلهم، وَهَذَا الدُّعَاء أَيْضا سيد الْأَدْعِيَة وَهُوَ الاسْتِغْفَار.

وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد، وَعبد الْوَارِث ابْن سعيد الْعَنْبَري الْبَصْرِيّ، وَالْحُسَيْن وَابْن ذكْوَان الْمعلم، وَعبد الله بن بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء ابْن الْحصيب الْأَسْلَمِيّ، وَبشير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة ابْن كَعْب الْعَدوي، وَشَدَّاد بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة الأولى ابْن أَوْس بن ثَابت بن الْمُنْذر بن حرَام بمهملتين الْأنْصَارِيّ ابْن أخي حسان بن ثَابت الشَّاعِر، وَشَدَّاد صَحَابِيّ جليل نزل الشَّام وكنيته أَبُو يعلى، وَاخْتلف فِي صُحْبَة أَبِيه، وَلَيْسَ لشداد فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث.

وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الِاسْتِعَاذَة عَن عَمْرو بن عَليّ، وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَنهُ أَيْضا.

قَوْله: (سيد الاسْتِغْفَار) قيل: مَا الْحِكْمَة فِي كَونه سيد الاسْتِغْفَار؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ وَأَمْثَاله من التعبديات، وَالله تَعَالَى أعلم بذلك، لَكِن لَا شكّ أَن فِيهِ ذكر الله تَعَالَى بأكمل الْأَوْصَاف وَذكر نَفسه بأنقص الْحَالَات، وَهُوَ أقْصَى غَايَة التضرع وَنِهَايَة الاستكانة لمن لَا يَسْتَحِقهَا إلاَّ هُوَ.
قَوْله: (أَن تَقول) بِصِيغَة الْمُخَاطب،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَن يَقُول، أَي: العَبْد، وَاعْتمد لما قَالَه على مَا رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ أَن سيد الاسْتِغْفَار أَن يَقُول العَبْد، وَذكر أَيْضا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن شَدَّاد: ألاَّ أدلك على سيد الاسْتِغْفَار؟ قلت: رِوَايَة أَحْمد لَا تَسْتَلْزِم أَن يقدر هُنَا أَي: العَبْد، على أَن التَّقْدِير خلاف الأَصْل وَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ تؤيد مَا ذكرنَا وتدفع مَا قَالَه على مَا لَا يخفى.
(لَا إِلَه إلاَّ أَنْت خلقتني) ويروى: لَا إِلَه إلاَّ أَنْت أَنْت خلقتني.
قَوْله: (وَأَنا عَبدك قَالَ الطَّيِّبِيّ: يجوز أَن تكون حَالا مُؤَكدَة، وَيجوز أَن تكون مقررة أَي: أَنا عَابِد لَك، وَيُؤَيِّدهُ عطف.
قَوْله: (وَأَنا على عَهْدك) وَسَقَطت الْوَاو مِنْهُ فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: يُرِيد أَنا على مَا عاهدتك عَلَيْهِ وواعدتك من الْإِيمَان بك وَإِصْلَاح الطَّاعَة لَك.
قَوْله: (مَا اسْتَطَعْت) أَي: قدر استطاعتي، وَشرط الِاسْتِطَاعَة فِي ذَلِك الِاعْتِرَاف بِالْعَجزِ والقصور عَن كنه الْوَاجِب من حَقه تَعَالَى،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: قَوْله: (وَأَنا عَليّ عَهْدك وَوَعدك) يُرِيد بِهِ الْعَهْد الَّذِي أَخذه الله على عباده حَيْثُ أخرجهم أَمْثَال الذَّر وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم؟ فأقروا لَهُ بالربوبية وأذعنوا لَهُ بالوحدانية، وبالوعد مَا قَالَ على لِسَان نبيه: إِن من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا وَأدّى مَا افْترض عَلَيْهِ أَن يدْخلهُ الْجنَّة، وَقيل: وَأدّى مَا افْترض عَلَيْهِ، زِيَادَة لَيست بِشَرْط فِي هَذَا الْمقَام.
قلت: إِن لم تكن شرطا فِي هَذَا فَهِيَ شَرط فِي غَيره.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: يحْتَمل أَن يُرَاد بالعهد والوعد مَا فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة.
قَوْله: (أَبُوء) من قَوْلهم: بَاء بِحقِّهِ أَي: أقرّ بِهِ،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: يُرِيد بِهِ الِاعْتِرَاف، وَيُقَال: قد بَاء فلَان بِذَنبِهِ إِذا احتمله كرها لَا يَسْتَطِيع دَفعه عَن نَفسه.
قَوْله: (لَك) لَيست فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: اعْترف أَولا بِأَنَّهُ أنعم عَلَيْهِ وَلم يُقَيِّدهُ ليشْمل جَمِيع أَنْوَاع النعم مُبَالغَة، ثمَّ اعْترف بالتقصير، وَأَنه لم يقم بأَدَاء شكرها ثمَّ بَالغ فعده ذَنبا مُبَالغَة فِي التَّقْصِير وهضم النَّفس.
قَوْله: (من قَالَهَا موقناً) أَي: مخلصاً من قلبه مُصدقا بثوابها.
قَوْله: (وَمن قَالَهَا من النَّهَار) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: فَمن قَالَهَا قَوْله: (فَمن أهل الْجنَّة) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ دخل الْجنَّة، وَفِي رِوَايَة عُثْمَان بن ربيعَة: إلاَّ وَجَبت لَهُ الْجنَّة، قيل: الْمُؤمن وَإِن لم يقلها فَهُوَ من أهل الْجنَّة.
وَأجِيب بِأَنَّهُ يدخلهَا ابْتِدَاء من غير دُخُول النَّار لِأَن الْغَالِب أَن الموقن بحقيقتها الْمُؤمن بمضمونها لَا يعْصى الله تَعَالَى، أَو لِأَن الله يعْفُو عَنهُ ببركة هَذَا الاسْتِغْفَار.