فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل التسبيح

( بابُُ فَضْلِ التَّسْبِيحِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل التَّسْبِيح، وَهُوَ قَول: سُبْحَانَ الله، وَهُوَ أَي لفظ: سُبْحَانَ الله، اسْم مصدر وَهُوَ التَّسْبِيح، وَقيل: بل سُبْحَانَ مصدر لِأَنَّهُ سمع لَهُ فعل ثلاثي وَهُوَ من الْأَسْمَاء اللَّازِمَة للإضافة، وَقد يفرد، وَإِذا أفرد منع الصّرْف للتعريف وَزِيَادَة الْألف وَالنُّون كَقَوْلِه:
( أَقُول لما جَاءَنِي فخره ... سُبْحَانَ من عَلْقَمَة الفاخر)

وَجَاء منوناً كَقَوْلِه:
( سُبْحَانَهُ ثمَّ سبحاناً يعود لَهُ ... وَقَبلنَا سبح الجوديُّ والجمدُ)

فَقيل: صرف ضَرُورَة، وَقيل: هُوَ بِمَنْزِلَة: قبل وَبعد، إِن نوى تَعْرِيفه بَقِي على حَاله، وَإِن نكر أعرب منصرفاً، وَهَذَا الْبَيْت يساعد على كَونه مصدرا لَا اسْم مصدر، ولوروده منصرفاً.
وَلقَائِل القَوْل الأول أَن يُجيب عَنهُ: بِأَن هَذَا نكرَة لَا معرفَة وَهُوَ من الْأَسْمَاء اللَّازِمَة النصب على المصدرية.
فَلَا ينْصَرف، والناصب لَهُ فعل مُقَدّر لَا يجوز إِظْهَاره.
وَعَن الْكسَائي: إِنَّه منادى تَقْدِيره: يَا سُبْحَانَكَ، وَمنعه جُمْهُور النَّحْوِيين، وَهُوَ مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول أَي: سبحت الله، وَيجوز أَن يكون مُضَافا إِلَى الْفَاعِل، أَي: نزه الله نَفسه وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور، وَمَعْنَاهُ: تَنْزِيه الله عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ من كل نقص، فَيلْزم نفي الشَّرِيك والصاحبة وَالْولد وَجَمِيع الرذائل، وَيُطلق التَّسْبِيح وَيُرَاد بِهِ جَمِيع أَلْفَاظ الذّكر، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الصَّلَاة النَّافِلَة،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: وأصل التَّسْبِيح التَّنْزِيه من النقائص، ثمَّ اسْتعْمل فِي مَوَاضِع تقرب مِنْهُ اتساعاً، يُقَال: سبحته أسبحه تسبيحاً وسبحاناً، وَيُقَال أَيْضا للذّكر وَالصَّلَاة النَّافِلَة، سبْحَة يُقَال: قضيت سبحتي، والسبحة من التَّسْبِيح كالسخرة من التسخير.



[ قــ :6068 ... غــ :6405 ]
- حدّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: منْ قَالَ: سُبْحانَ الله وبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمِ مائَةَ مَرَّة حُطَّتْ خَطاياهُ وإنْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ.


هَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مَعَ بعض هَذَا الْمَذْكُور فِيهِ قد مضى فِي أول الْبابُُ السَّابِق، وَهُنَاكَ بعد قَوْله: مائَة مرّة كَانَت لَهُ عدل عشر رِقَاب.
.
إِلَى آخِره، وَهنا: حطت خطاياه ... الخ.

وَيُقَال إِن البُخَارِيّ أفرد هَذَا الحَدِيث من ذَلِك الحَدِيث.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدَّعْوَات عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ وَغَيره: وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن قُتَيْبَة وَغَيره.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي ثَوَاب التَّسْبِيح عَن نصر بن عبد الرَّحْمَن الوشابة.

قَوْله: ( سُبْحَانَ الله) مَنْصُوب على المصدرية بِفعل مَحْذُوف تَقْدِيره سبحت سُبْحَانَ الله.
قَوْله: ( وَبِحَمْدِهِ) أَي: أَحْمَده، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال تَقْدِيره: سبحت الله ملتبساً بحمدي لَهُ من أجل توفيقه لي للتسبيح.
قَوْله: ( فِي يَوْم) قَالَ الطَّيِّبِيّ: يَوْم، مُطلق لم يعلم فِي أَي وَقت من أوقاته فَلَا يُقيد بِشَيْء مِنْهَا.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْمظهر) : ظَاهر الْإِطْلَاق يشْعر بِأَنَّهُ يحصل هَذَا الْأجر الْمَذْكُور لمن قَالَ ذَلِك مائَة مرّة، سَوَاء قَالَهَا مُتَوَالِيَة أَو مُتَفَرِّقَة فِي مجَالِس، أَو بَعْضهَا أول النَّهَار وَبَعضهَا آخر النَّهَار، لَكِن الْأَفْضَل أَن يَأْتِي بهَا مُتَوَالِيَة فِي أول النَّهَار.
قَوْله: ( حطت خطاياه) أَي: من حُقُوق الله، لِأَن حُقُوق النَّاس لَا تنحط إِلَّا باسترضاه الْخُصُوم.
قَوْله: ( مثل زبد الْبَحْر) كِنَايَة عَن الْمُبَالغَة فِي الْكَثْرَة.





[ قــ :6069 ... غــ :6406 ]
- حدّثنا زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا ابنُ فُضَيْلٍ عنْ عمارَةَ عنْ أبي زُرْعَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: كَلِمَتانِ خَفِيفَتان على اللِّسانِ ثَقِيلَتانِ فِي المِيزَانِ حَبِيبتَان إِلَى الرَّحْمانِ: سُبْحانَ الله العَظِيمِ، سُبْحانَ الله وبِحَمْدِهِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَابْن فُضَيْل هُوَ مُحَمَّد بن فُضَيْل بتصغير فضل الضَّبِّيّ، وَعمارَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم ابْن الْقَعْقَاع وَأَبُو زرْعَة بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء وبالعين الْمُهْملَة اسْمه هرم بن عَمْرو بن جرير الْجبلي الْكُوفِي.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن قُتَيْبَة وَفِي التَّوْحِيد آخر الْكتاب عَن أَحْمد بن أشكاب.
وَأخرجه مُسلم فِي الدَّعْوَات عَن زُهَيْر بن حَرْب وَغَيره.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن يُوسُف بن عِيسَى وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَليّ بن مُنْذر وَغَيره.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي ثَوَاب التَّسْبِيح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره.

قَوْله: ( كلمتان) أَي: كلامان والكلمة تطلق على الْكَلَام كَمَا يُقَال: كلمة الشَّهَادَة.
قَوْله: ( خفيفتان) قَالَ الطَّيِّبِيّ: الخفة مستعارة للسهولة شبه سهولة جَرَيَان هَذَا الْكَلَام على اللِّسَان بِمَا يخف على الْحَامِل من بعض المحمولات وَلَا يشق عَلَيْهِ، فَذكر الْمُشبه وَأَرَادَ الْمُشبه بِهِ.
قَوْله: ( ثقيلتان فِي الْمِيزَان) الثّقل فِيهِ على حَقِيقَته لِأَن الْأَعْمَال تتجسم عِنْد الْمِيزَان وَالْمِيزَان هُوَ الَّذِي يُوزن بِهِ فِي الْقِيَامَة أَعمال الْعباد، وَفِي كيفيته أَقْوَال، وَالأَصَح أَنه جسم محسوس ذُو لِسَان وكفتين، وَالله تَعَالَى يَجْعَل الْأَعْمَال كالأعيان موزونة، أَو يُوزن صحف الْأَعْمَال.
قَوْله: ( حبيبتان) تَثْنِيَة: حَبِيبَة، بِمَعْنى: محبوبة، يُقَال: حبيب فلَان إِلَى هَذَا الشَّيْء أَي: جعله محبوباً، وَالْمرَاد هُنَا محبوبية قائلهما ومحبة الله للْعَبد إِرَادَة إِيصَال الْخَيْر لَهُ والتكريم قيل لفظ الفعيل بِمَعْنى الْمَفْعُول يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ موصوفه مذكرا فَمَا وَجه لُحُوق عَلامَة التَّأْنِيث وَأجِيب بِأَن التَّسْوِيَة بَينهمَا جَائِزَة لَا وَاجِبَة أَو وُجُوبهَا فِي الْمُفْرد لَا فِي الْمثنى وَقيل إِنَّمَا أنثها لمناسبة الْخَفِيفَة والثقيلة لِأَنَّهُمَا بِمَعْنى الفاعلة لَا المفعولة وَقيل هَذِه التَّاء لنقل اللَّفْظ من الوصفية إِلَى الاسمية قَوْله إِلَى الرَّحْمَن وَإِنَّمَا خصص لفظ الرَّحْمَن من بَين سَائِر الْأَسْمَاء الْحسنى لِأَن الْمَقْصُود من الحَدِيث بَيَان سَعَة رَحْمَة الله تَعَالَى على عباده حَيْثُ يجازي على الْعَمَل الْقَلِيل بالثواب الجزيل قلت يجوز أَن يُقَال اخْتِصَاص ذَلِك لإِقَامَة السجع أَعنِي الفواصل وَهِي من محسنات الْكَلَام على مَا عرف فِي علم البديع وَإِنَّمَا نهى عَن سجع الْكُهَّان لكَونه متضمنا للباطل قَوْله سُبْحَانَ الله قد ذكرنَا أَنه لَازم النصب بإضمار الْفِعْل وَسُبْحَان علم للتسبيح كعثمان علم للرجل وَالْعلم على نَوْعَيْنِ علم شخصي وَعلم جنسي ثمَّ أَنه يكون تَارَة للعين وَتارَة للمعنى فَهَذَا من الْعلم الجنسي الَّذِي للمعنى قيل قَالُوا لفظ سُبْحَانَ وَاجِب الْإِضَافَة فَكيف الْجمع بَين العلمية وَالْإِضَافَة وَأجِيب بِأَنَّهُ يُنكر ثمَّ يُضَاف كَمَا قَالَ الشَّاعِر
( علا زيدنا يَوْم النقا رَأس زيدكم ... بأبيض مَاض الشفرتين يمَان)
وَوجه تَكْرِير سُبْحَانَ الله الْإِشْعَار بتنزيهه على الْإِطْلَاق ثمَّ أَن التَّسْبِيح لَيْسَ إِلَّا ملتبسا بِالْحَمْد ليعلم ثُبُوت الْكَمَال لَهُ نفيا وإثباتا جَمِيعًا وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم