فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل الفقر

( بابُُ فَضْلِ الفَقِرْ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل الْفقر، وَالْمرَاد بِهِ الْفقر الَّذِي صَاحبه راضٍ بِمَا قسم الله لَهُ وصابر على ذَلِك وَلَا يصدر من قَوْله وَفعله مَا يسْخط الله تَعَالَى، وَلَا يتْرك التكسب ويشتغل بالسؤال الَّذِي فِيهِ ذلة ومنة وَأما فُقَرَاء هَذَا الزَّمَان فَإِن أَكْثَرهم غير مَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات، وفقر هَؤُلَاءِ هُوَ الَّذِي استعاذ مِنْهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الْخلاف فِي أَن الْفقر الصابر أفضل أَو الْغَنِيّ الشاكر؟ فَهُوَ مَشْهُور قد تَكَلَّمت فِيهِ جمَاعَة كَثِيرُونَ.



[ قــ :6109 ... غــ :6447 ]
- حدّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حدّثني عبْدُ العَزِيزِ بنُ أبي حازِمٍ عنْ أَبِيه عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أنّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلى رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جالِسٍ: ( مَا رأيُكَ فِي هاذَا؟) فَقَالَ: رجُلٌ منْ أشْرَافِ النَّاسِ، هاذَا وَالله حَرِيُّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ قَالَ: فَسَكَت رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( مَا رَأيُكَ فِي هَذَا؟) فَقَالَ: يَا رسولَ الله! هَذا رجُلٌ مِن فُقَراءِ المُسْلِمِينَ، هاذَا حَرِيُّ إنْ خَطَبَ أنْ لَا يُنْكَحَ وإنْ شَفَعَ أنْ لَا يُشْفَعَ وإنْ قَالَ أنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( هاذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِنْ مِثْلِ هاذا) .

( انْظُر الحَدِيث 1905) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الشق الثَّانِي من الحَدِيث.
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَعبد الْعَزِيز يروي عَن أَبِيه أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي، واسْمه سَلمَة بن دِينَار.

والْحَدِيث مضى فِي كتاب النِّكَاح فِي: بابُُ الْأَكفاء فِي الدّين فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة عَن أبي حَازِم ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: ( حري) بِفَتْح الْحَاء المهلمة وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء أَي: جدير ولائق.
قَوْله: ( أَن ينْكح) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( لَا يشفع) أَيْضا على صِيغَة الْمَجْهُول بتَشْديد الْفَاء وَكَذَا.
( لَا يسمع) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: لَا يلْتَفت إِلَيْهِ بقوله: ( من مثل هَذَا) ويروى: مثل هَذَا، بِنصب: مثل، على التَّمْيِيز وَوَقع فِي ( مُسْند مُحَمَّد بن هَارُون الرَّوْيَانِيّ وَفِي ( فتوح مصر) لِابْنِ عبد الحكم وَفِي ( مُسْند الصَّحَابَة) الَّذين نزلُوا مصر) : لمُحَمد بن الرّبيع الْحبرِي: إِن اسْم الْمَار الثَّانِي جعبد، قَالَ أَبُو عمر: جعيد بن سراقَة الْغِفَارِيّ، وَيُقَال: الضمرِي، أثنى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.





[ قــ :6110 ... غــ :6448 ]
- حدّثنا الحُمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيانُ حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا واثِلٍ قَالَ: عدْنا خَبَّاباً فَقَالَ: هاجَرْنا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُرِيدُ وجهَ الله، فَوَقَعَ أجْرُنا على الله تَعَالَى، فَمِنْهُمْ مَنْ مَضَى لَمْ يأخذْ مِنْ أجْرِهِ شَيْئاً، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَإِذا غَطْينا رأسَهُ بَدَتْ رِجلاَهُ، وإذَا غَطَّيْنا رِجْلَيْهِ بَدَا رأسُهُ، فأمَرَنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ نُغَطِّيَ رأسَهُ ونَجْعَلَ عَلى رِجْلَيْهِ شَيْئاً مِنَ الإذْخِرِ، ومِنّا مَنْ أيْنَعتْ لهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُها.

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَضِيَّة مُصعب بن عُمَيْر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

والْحميدِي عبد الله بن الزبير بن عِيسَى مَنْسُوب إِلَى أحد أجداده حميد، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة.

والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز فِي: بابُُ إِذا لم يجد كفناً إلاَّ مَا يواري رَأسه، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: ( عدنا) من العيادة.
قَوْله: ( هاجرنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: إِلَى الْمَدِينَة بأَمْره وإذنه، وَالْمرَاد بالمعية الِاشْتِرَاك فِي حكم الْهِجْرَة، إِذْ لم يكن مَعَه إلاَّ أَبُو بكر وعامر بن فهَيْرَة.
قَوْله: ( نُرِيد وَجه الله) ويروى: يَنْبَغِي وَجه الله أَي: جِهَة مَا عِنْده من الثَّوَاب لَا جِهَة الدُّنْيَا.
قَوْله: ( فَوَقع) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: تبت أجرنا على الله كالشيء الْوَاجِب، أَو ثَبت بِحَسب مَا وعد الْعباد.

قلت: الْأَحْسَن أَن يُقَال: ثَبت جزاؤنا بِحَسب وعده، وَلَا يجب على الله شَيْء.
قَوْله: ( فَمنهمْ) أَي: فَمن الَّذين هَاجرُوا من مضى لم يَأْخُذ من أجره شَيْئا، وَفِي رِوَايَته الْمُتَقَدّمَة فِي الْجَنَائِز: فمنا من مَاتَ وَلم يَأْكُل من أجره شَيْئا، أَي: من عرض الدُّنْيَا.
فَإِن قلت: الْأجر ثَوَاب الْآخِرَة.

قلت: نعم الدُّنْيَا أَيْضا من جملَة الْخَيْر، وَالْأَجْر.
قَوْله: ( مُصعب بن عُمَيْر) بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار بن قصى يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي قصي.
قَوْله: ( قتل يَوْم أحد) أَي: قتل شَهِيدا فِي غَزْوَة أحد، وَكَانَ صَاحب لوآء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يومئذٍ.
قَوْله: ( نمرة) بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم ثمَّ رَاء: هِيَ إِزَار من صوف مخطط أَو بردة.
قَوْله: ( أينعت) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَالْعين الْمُهْملَة أَي: حَان قطافها، واليانع النضيج ويروى: ينعَت بِدُونِ الْهمزَة وَهِي لُغَة، قَالَ الْفراء: أينعت أَكثر.
قَوْله: ( يهدبها) بِفَتْح أَوله وَسُكُون الْهَاء وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا أَي: يجتنيها ويقطعها.





[ قــ :6111 ... غــ :6449 ]
- حدّثنا أبُو الولِيدِ حَدثنَا سَلْمَ بنُ زَريرِ حدّثنا أبُو رجاءٍ عنْ عمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ، رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( اطّلعْتُ فِي الجَنّةِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا الفقَراءَ، واطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلها النِّساء) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَسلم بِفَتْح السِّين وَسُكُون اللَّام ابْن زرير بِفَتْح الزَّاي وَكسر الرَّاء الأولى على وزن عَظِيم العطاردي الْبَصْرِيّ، وَأَبُو رَجَاء عمرَان بن تيم العطاردي.

والْحَدِيث مضى فِي صفة الْجنَّة عَن أبي الْوَلِيد أَيْضا وَفِي النِّكَاح عَن عُثْمَان بن الْهَيْثَم.

تابَعَهُ أيُّوبُ وعَوْفٌ
أَي: تَابع أَبَا رَجَاء أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وعَوْف الْمَشْهُور بالأعرابي فِي رِوَايَته عَن عمرَان بن حُصَيْن.
أما مُتَابعَة أَيُّوب فوصلها النَّسَائِيّ عَن بشر بن هِلَال عَن عمرَان بن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب عَن أبي رَجَاء عَن عمرَان.
وَأما مُتَابعَة عَوْف فوصلها البُخَارِيّ فِي كتاب النِّكَاح.

وَقَالَ صخْرٌ وحَمَّادُ بنُ نَجيحٍ: عنْ أبي رجاءٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ.

صَخْر هُوَ ابْن جوَيْرِية الْبَصْرِيّ، وَحَمَّاد بتَشْديد الْمِيم ابْن نجيح بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة الإسكاف، وَتَعْلِيق صَخْر رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن يحيى بن مخلد المقسمي: حَدثنَا الْمعَافي بن عمرَان عَن صَخْر بن جوَيْرِية عَن أبي رَجَاء عَن ابْن عَبَّاس، وَتَعْلِيق حَمَّاد رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن معمر النجراني حَدثنَا عُثْمَان بن عمر عَن حَمَّاد بن نجيح عَن أبي رَجَاء عَن ابْن عَبَّاس.





[ قــ :611 ... غــ :6450 ]
- حدّثنا أبُو مَعْمَرٍ حَدثنَا عبْدُ الوارِثِ حَدثنَا سَعيدُ بنُ أبي عَرُوبَةَ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: لَمْ يأكُلِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عل خِوَانٍ حتَّى ماتَ، وَمَا أكَلَ خُبْزاً مُرَقَّقاً حتَّى ماتَ.
( انْظُر الحَدِيث 6835 وطرفه) .


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: الحَدِيث لَا يدل إلاَّ على فضل القناعة والكفاف.

قلت: القناعة والكفاف من صِفَات الْفُقَرَاء الراضين بِمَا قسم الله، وَهَذَا: يدل على فضل الْفقر.

وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن الْحجَّاج، وَعبد الْوَارِث بن سعيد الْبَصْرِيّ.

والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن الْفضل بن سهل الْأَعْرَج.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن عبد الله بن يُوسُف.

قَوْله: ( خوان) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَضمّهَا وَهُوَ مَا يُؤْكَل عَلَيْهَا الطَّعَام عِنْد أهل التنعم وَيجمع على: خوت وأخونة.





[ قــ :6113 ... غــ :6451 ]
- حدّثنا عَبْدُ الله بنُ أبي شَيْبَةَ حدّثنا أبُو أسامَةَ حدّثنا هِشامٌ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشةَ رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: لَقَد تُوُفِّيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يأكُلُهُ ذُو وكَبِدٍ إلاّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لي، فأكَلْتُ مِنْهُ حتَّى طالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ.
( انْظُر الحَدِيث 7903) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن هَذِه الْحَالة تدل على اخْتِيَار الْفقر وفضله.

وَعبد الله بن أبي شيبَة هُوَ أَبُو بكر، وَأَبُو شيبَة جده لِأَبِيهِ وَهُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي شيبَة واسْمه إِبْرَاهِيم، أَصله من وَاسِط وَسكن الْكُوفَة، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير.

والْحَدِيث مضى فِي الْخمس: أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي كريب.

قَوْله: ( وَمَا فِي رفي) ويروى: وَمَا فِي بَيْتِي، والرف بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الْفَاء خَشَبَة عريضة يغرز طرفاها فِي الْجِدَار وَهُوَ شبه الطاق فِي الْبيُوت.
فَإِن قلت: هَذَا يُخَالف مَا فِي الْوَصَايَا من حَدِيث عمر بن الْحَارِث المصطلقي: مَا ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد مَوته دِينَارا وَلَا درهما وَلَا شَيْئا.

قلت: لَا مُخَالفَة أصلا لِأَن مُرَاده بالشَّيْء الْمَنْفِيّ مَا يتَخَلَّف عَنهُ مِمَّا كَانَ يخْتَص بِهِ، وَأما الَّذِي قالته عَائِشَة فَكَانَ بَقِيَّة نَفَقَتهَا الَّتِي تخْتَص بهَا.
فَلم يتحد الموردان.
قَوْله: ( ذُو كبد) يَشْمَل جَمِيع الْحَيَوَانَات.
قَوْله: ( إلاَّ شطر شعير) أَي: بعض شعير.
قَوْله: ( فكلته) بِكَسْر الْكَاف.
( ففني) أَي: فرغ قيل: قد مر فِي البيع فِي: بابُُ الْكَيْل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: كيلوا طَعَامكُمْ يُبَارك لكم، وَقَوْلها: فكلته ففني.
مشْعر بِأَن الْكَيْل سَبَب عدم الْبركَة.
وَأجِيب: بِأَن الْبركَة عِنْد البيع وَعدمهَا عِنْد النَّفَقَة، أَو المُرَاد: أَن مكيله بِشَرْط أَن يبْقى الْبَاقِي مَجْهُولا.
<"