فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الرجاء مع الخوف

( بابُُ الرَّجاءِ مَعَ الخَوْفِ)

أَي هَذَا بابُُ فِي بَيَان اسْتِحْبابُُ الرَّجَاء مَعَ الْخَوْف، فَلَا يقطع النّظر فِي الرَّجَاء عَن الْخَوْف وَلَا فِي الْخَوْف عَن الرَّجَاء لِئَلَّا يقْضِي فِي الأول، إِلَى الْكبر.
وَفِي الثَّانِي إِلَى الْقنُوط، وكل مِنْهُمَا مَذْمُوم، وَالْمَقْصُود من الرَّجَاء أَن من وَقع مِنْهُ تَقْصِير فليحسن ظَنّه بِاللَّه ويرجو أَن يمحو عَنهُ ذَنبه، وَكَذَا من وَقع مِنْهُ طَاعَة يَرْجُو قبُولهَا، وَأما من انهمك فِي الْمعْصِيَة راجياً عدم الْمُؤَاخَذَة بِغَيْر نَدم وَلَا إقلاع فَهَذَا غرور فِي غرور، وَقد أخرج ابْن مَاجَه من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن وهب عَن أَبِيه عَن عَائِشَة قلت: يَا رَسُول الله! الَّذين يُؤْتونَ وَقُلُوبهمْ وَجلة، أهوَ الَّذِي يسرق ويزني؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن الَّذِي يَصُوم وَيتَصَدَّق وَيُصلي وَيخَاف أَن لَا يقبل مِنْهُ.

وَقَالَ سُفْيانُ: مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أشَدُّ عَلَيَّ مِنْ { لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة والانجيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} ( الْمَائِدَة: 86) .

سُفْيَان هَذَا هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَأول الْآيَة: { قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء} وَإِنَّمَا كَانَ أَشد لِأَنَّهُ يسْتَلْزم الْعلم بِمَا فِي الْكتب الإلهية وَالْعَمَل بهَا، وَقد مر فِي تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة، وَقيل: الأخوف هُوَ قَوْله تَعَالَى: { وَاتَّقوا النَّار الَّتِي أعدت للْكَافِرِينَ} ( آل عمرَان: 131) وَقيل: هُوَ { لبئس مَا كَانُوا يصنعون} ( الْمَائِدَة: 36) وَقيل: أخوف آيَة { من يعْمل سوءا يجْزِيه} ( النِّسَاء: 321) فَإِن قلت: مَا وَجه مُنَاسبَة الْآيَة بالترجمة؟ .

قلت: من حَيْثُ إِن الْآيَة تدل على أَن من لم يعْمل بِمَا تضمنه الْكتاب الَّذِي أنزل عَلَيْهِ لم يحصل لَهُ النجَاة، وَلَا يَنْفَعهُ رجاؤه من غير عمل مَا أَمر بِهِ.



[ قــ :6131 ... غــ :6469 ]
- حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ عَبدَ الرَّحْمانِ عنْ عَمْرِو بن أبي عَمْرٍ وعنْ سَعِيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ المقْبُرِيِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: ( إنَّ الله خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَها مِائَةَ رَحْمَةٍ فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعاً وتِسْعِينَ رَحْمَةً وأرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً واحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الكافِرُ بِكُلِّ الّذِي عِنْدَ الله مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأسْ مِنَ الجَنَّةِ، ولَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنَدَ الله مِنَ العَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ) .
( انْظُر الحَدِيث 0006) .


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( فَلَو يعلم الْكَافِر)
إِلَى آخر الحَدِيث، وَذَلِكَ أَن الْمُكَلف لَو تحقق مَا عِنْد الله من الرَّحْمَة لما قطع رَجَاءَهُ أصلا، وَلَو تحقق مَا عِنْده من الْعَذَاب لما ترك الْخَوْف أصلا، فَيَنْبَغِي أَن يكون بَين الْخَوْف والرجاء فَلَا يكون مفرطاً فِي الرَّجَاء بِحَيْثُ يصير من المرجئة الْقَائِلين بِأَنَّهُ لَا يضر مَعَ الْإِيمَان شَيْء وَلَا فِي الْخَوْف بِحَيْثُ يكون من الْخَوَارِج والمعتزلة الْقَائِلين بتخليد صَاحب الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ من غير تَوْبَة فِي النَّار، بل يكون وسطا بَينهمَا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: { يرجون رَحمته وَيَخَافُونَ عَذَابه} ( الْإِسْرَاء: 75) قَوْله: ( قُتَيْبَة بن سعيد) فِي رِوَايَة أبي ذَر لم يذكر ابْن سعيد.
قَوْله: ( وَعَمْرو بن أبي عَمْرو) وبالواو فيهمَا مولى الْمطلب وَهُوَ تَابِعِيّ صَغِير وَشَيْخه تَابِعِيّ وسط وَكِلَاهُمَا مدنيان.

والْحَدِيث من أَفْرَاده وَقد مر فِي الْأَدَب فِي: بابُُ جعل الله الرَّحْمَة مائَة جُزْء، من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه: جعل الله الرَّحْمَة مائَة جُزْء.

قَوْله: ( إِن الله خلق الرَّحْمَة) أَي: الرَّحْمَة الَّتِي جعلهَا فِي عباده، وَهِي مخلوقة، وَأما الرَّحْمَة الَّتِي هِيَ صفة من صِفَاته فَهِيَ قَائِمَة بِذَاتِهِ عز وَجل.
قَوْله: ( مائَة رَحْمَة) أَي: مائَة نوع من الرَّحْمَة، أَو مائَة جُزْء كَمَا فِي الحَدِيث الَّذِي تقدم فِي الْأَدَب.
قَوْله: ( فِي خلقه كلهم) ويروى: كُله، قَالَه الْكرْمَانِي.
قَوْله: ( فَلَو يعلم الْكَافِر) هَكَذَا ثَبت فِي هَذَا الطَّرِيق بِالْفَاءِ إِشَارَة إِلَى ترَتّب مَا بعْدهَا على مَا قبلهَا، وَمن ثمَّ قدم ذكر الْكَافِر لِأَن كَثْرَة الرَّحْمَة وسعتها تَقْتَضِي أَن يطمعها كل أحد، ثمَّ ذكر الْمُؤمن اسْتِطْرَادًا، وَالْحكمَة فِي التَّعْبِير بالمضارع دون الْمَاضِي الْإِشَارَة إِلَى أَنه لم يَقع لَهُ علم ذَلِك، وَلَا يَقع لِأَنَّهُ إِذا امْتنع فِي الْمُسْتَقْبل كَانَ مُمْتَنعا فِيمَا مضى، وَقد صرح ابْن الْحَاجِب: أَن لَو لانْتِفَاء الأول لانْتِفَاء الثَّانِي كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} ( الْأَنْبِيَاء: 22) فانتفاء التَّعَدُّد بِانْتِفَاء الْفساد وَلَيْسَ هَهُنَا كَذَلِك، إِذْ فِيهِ انْتِفَاء الثَّانِي وَهُوَ انْتِفَاء الرَّجَاء لانْتِفَاء الأول كَمَا فِي قَوْله: لوجئتني لأكرمتك، فَإِن الْإِكْرَام مُنْتَفٍ لانْتِفَاء الْمَجِيء.
قَوْله: ( بِكُل الَّذِي) قيل: فِيهِ إِشْكَال لِأَن لَفْظَة: كل، إِذا أضيفت إِلَى الْمَوْصُول كَانَت إِذْ ذَاك لعُمُوم الْأَجْزَاء لَا لعُمُوم الْإِفْرَاد، وَالْغَرَض من سِيَاق الحَدِيث تَعْمِيم الْإِفْرَاد.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ وَقع فِي بعض طرقه: أَن الرَّحْمَة قسمت مائَة جُزْء فالتعميم حينئذٍ لعُمُوم الْإِجْزَاء فِي الأَصْل، وَنزلت الْأَجْزَاء منزلَة الْأَفْرَاد مُبَالغَة.
قَوْله: ( لم ييأس من الْجنَّة) من الْيَأْس وَهُوَ الْقنُوط يُقَال: يئس بِالْكَسْرِ ييأس وَفِيه لُغَة أُخْرَى بِكَسْر الْهمزَة من مستقبله وَهُوَ شَاذ،.

     وَقَالَ  الْمبرد، مِنْهُم من يُبدل الْهمزَة فِي الْمُسْتَقْبل أَو الْيَاء الثَّانِيَة ألفا فَتَقول: ييأس ويائس.
فَإِن قلت: مَا معنى ( لم ييئس من الْجنَّة) قلت: قيل: المُرَاد أَن الْكَافِر لَو علم سَعَة الرَّحْمَة لغطى على مَا يُعلمهُ من عَظِيم الْعَذَاب فَيحصل لَهُ الرَّجَاء، وَقيل: المُرَاد أَن مُتَعَلق علمه بسعة الرَّحْمَة مَعَ عدم التفاته إِلَى مقابلها يطمعه فِي الرَّحْمَة.