فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الخوف من الله

( بابُُ أَحْكَام أهل الذِّمَّة وإحصانهم إِذا زنوا وَرفعُوا إِلَى الإِمَام)
أَي هَذَا بابُُ فِي بَيَان أَحْكَام أهل الذِّمَّة الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر من تُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَة قَوْله " وإحصانهم " أَي وَفِي بَيَان إحصانهم هَل الْإِسْلَام شَرط فِيهِ أم لَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَان الْخلاف فِيهِ قَوْله " إِذا زنوا " ظرف لقَوْله أَحْكَام أهل الذِّمَّة قَوْله " وَرفعُوا " على صِيغَة الْمَجْهُول إِلَى الْإِمَاء سَوَاء جاؤا إِلَى الإِمَام بِأَنْفسِهِم أَو جَاءَ بهم غَيرهم للدعوى عَلَيْهِم وَهنا فصلان ( الأول) اخْتلف الْعلمَاء فِي إِحْصَان أهل الذِّمَّة ( فَقَالَت) طَائِفَة فِي الزَّوْجَيْنِ الكتابيين يزنيان ويرفعان إِلَيْنَا عَلَيْهِمَا الرَّجْم وهما مُحْصَنَانِ وَهَذَا قَول الزُّهْرِيّ وَالشَّافِعِيّ.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ وروى عَن أبي يُوسُف أَن أهل الْكتاب يحصن بَعضهم بَعْضًا ويحصن الْمُسلم النَّصْرَانِيَّة وَلَا تحصنه النَّصْرَانِيَّة.

     وَقَالَ  النَّخعِيّ لَا يكونَانِ محصنين حَتَّى يجامعا بعد الْإِسْلَام وَهُوَ قَول مَالك والكوفيين وَقَالُوا الْإِسْلَام من شَرط الْإِحْصَان " الْفَصْل الثَّانِي " أَيْضا اخْتلفُوا فِي وجوب الحكم بَين أهل الذِّمَّة فروى التَّخْيِير فِيهِ عَن ابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ.

     وَقَالَ  آخَرُونَ أَنه وَاجِب وَرُوِيَ ذَلِك عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَهُوَ الْأَظْهر من قولي الشَّافِعِي

[ قــ :6142 ... غــ :6480 ]
- ( حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا عبد الْوَاحِد حَدثنَا الشَّيْبَانِيّ قَالَ سَأَلت عبد الله بن أبي أوفى عَن الرَّجْم فَقَالَ رجم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت أقبل النُّور أم بعده قَالَ لَا أَدْرِي) قَالَ الْكرْمَانِي مطابقته للتَّرْجَمَة إِطْلَاق قَوْله رجم وَقيل جرى على عَادَته فِي الْإِشَارَة إِلَى مَا ورد فِي بعض طرق الحَدِيث وَهُوَ مَا أخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ والإسماعيلي من طَرِيق هشيم عَن الشَّيْبَانِيّ قَالَ قلت هَل رجم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ نعم رجم يَهُودِيّا وَيَهُودِيَّة وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد والشيباني بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة اسْمه سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان فَيْرُوز أَبُو إِسْحَاق الْكُوفِي وَعبد الله بن أبي أوفى اسْمه عَلْقَمَة بن خَالِد الْأَسْلَمِيّ والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن أبي كَامِل عَن ابْن أبي شيبَة قَوْله أقبل النُّور الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل استخبار وَأَرَادَ بِالنورِ سُورَة النُّور قَوْله أم بعده أَي أم رجم بعد نزُول سُورَة النُّور وَقَوله أم بعده بالضمير رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره أم بعد بِضَم الدَّال قَوْله لَا أَدْرِي يدل على تحريه وتثبته فيمدح بِهِ وَلَا عيب فِيهِ
( تَابعه عَليّ بن مسْهر وخَالِد بن عبد الله والمحاربي وَعبيدَة بن حميد عَن الشَّيْبَانِيّ) أَي تَابع عبد الْوَاحِد عَليّ بن مسْهر بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالراء أَبُو الْحسن الْقرشِي الْكُوفِي وَتَابعه أَيْضا خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان وَتَابعه أَيْضا الْمحَاربي بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل من الْمُحَاربَة واسْمه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْكُوفِي وَتَابعه أَيْضا عُبَيْدَة بِفَتْح الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن حميد بِضَم الْحَاء الصَّبِي الْكُوفِي وكل هَؤُلَاءِ تابعوه فِي روايتهم عَن الشَّيْبَانِيّ الْمَذْكُور فِي رِوَايَته عَن عبد الله بن أبي أوفى أما مُتَابعَة عَليّ بن مسْهر فرواها ابْن أبي شيبَة عَنهُ عَن الشَّيْبَانِيّ قَالَ قلت لعبد الله بن أبي أوفى فَذكر مثله بِلَفْظ قلت بعد سُورَة النُّور وَأما مُتَابعَة خَالِد بن عبد الله فرواها البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق عَن خَالِد عَن الشَّيْبَانِيّ سَأَلت عبد الله بن أبي أوفى وَقد مضى هَذَا فِي بابُُ رجم الْمُحصن وَأما مُتَابعَة الْمحَاربي فَلم أَقف عَلَيْهَا وَأما مُتَابعَة عُبَيْدَة فرواها الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة أبي ثَوْر وَأحمد بن منيع قَالَا حَدثنَا عُبَيْدَة بن حميد وَجَرِير عَن الشيبان وَلَفظه قبل النُّور أَو بعْدهَا
( وَقَالَ بَعضهم الْمَائِدَة وَالْأول أصح) أَي قَالَ بعض هَؤُلَاءِ التَّابِعين الْمَذْكُورين قيل أَنه عُبَيْدَة لِأَن لَفظه فِي مُسْند أَحْمد بن منيع فَقلت بعد سُورَة الْمَائِدَة أَو قبلهَا قَوْله الْمَائِدَة أَي ذكر سُورَة الْمَائِدَة بدل سُورَة النُّور وَلَعَلَّ من ذكر سُورَة الْمَائِدَة توهم من ذكر الْيَهُودِيّ واليهودية أَن المُرَاد سُورَة الْمَائِدَة لِأَن فِيهَا الْآيَة الَّتِي نزلت بِسَبَب سُؤال الْيَهُود عَن حكم اللَّذين زَنَيَا مِنْهُم وَهِي قَوْله تَعَالَى { وَكَيف يحكمونك وَعِنْدهم التَّوْرَاة} قَوْله وَالْأول أصح أَي من ذكر النُّور


( بابُُ الخَوْفِ مِنَ الله تَعَالَى)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان شدَّة الاعتناء بالخوف من الله عز وَجل، وَالْخَوْف من لَوَازِم الْإِيمَان قَالَ الله تَعَالَى: { وخافون إِن كُنْتُم مُؤمنين} ( آل عمرَان: 571) .



[ قــ :614 ... غــ :6480 ]
- حدّثنا عُثْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ حدّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ ربْعِيٍّ عنْ حُذَيْفَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( كانَ رَجُلٌ ممَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِىءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ لأهْلِهِ: إِذا أَنا مُتُّ فَخُذُونِي فَذَرُّونِي فِي البَحْرِ فِي يَوْمٍ صائِفٍ، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمَعَهُ الله، ثُمَّ قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلى الَّذِي صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا حَمَلنِي إلاّ مَخافَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ) .
( انْظُر الحَدِيث 543 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث.
وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، ورِبْعِي بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء ابْن حِرَاش بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالراء المخففة والشين الْمُعْجَمَة، وَحُذَيْفَة ابْن الْيَمَان.
وَرِجَال السَّنَد كلهم كوفيون.

والْحَدِيث مُضِيّ فِي ذكر بني إِسْرَائِيل عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز وَفِي الرَّقَائِق عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير.

قَوْله: ( مِمَّن كَانَ قبلكُمْ) يَعْنِي: من بني إِسْرَائِيل.
قَوْله: ( يسيء الظَّن بِعَمَلِهِ) يَعْنِي بِعَمَلِهِ الَّذِي كَانَ مَعْصِيّة، وَكَانَ نباشاً.
قَوْله: ( فذروني فِي الْبَحْر) بِضَم الذَّال من الذَّر وَهُوَ التَّفْرِيق، يُقَال: ذررت الْملح أذره، ويروى بِفَتْح الذَّال من التذرية، يُقَال: ذرت الرّيح الشَّيْء وأذرته وذرته أَي: أطارته وأذهبته، ويروى: أذروني بِهَمْزَة قطع وَسُكُون الذَّال من: أذرت الْعين دمعها، وَمِنْه: تَذْرُوهُ الرِّيَاح.
قَوْله: ( فِي يَوْم صَائِف) أَي: حَار بتَشْديد الرَّاء من الْحَرَارَة، وَرُوِيَ للمروزي والأصيلي: فِي يَوْم حَاز، بالزاي الثَّقِيلَة بِمَعْنى أَنه يحز الْبدن لشدَّة حره، وَرُوِيَ لأبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: فِي يَوْم حَار، بالراء كَمَا ذكرنَا أَولا، وَكَذَا رُوِيَ لكريمة عَن الْكشميهني وَذكر بَعضهم رِوَايَة الْمروزِي بنُون بدل الزَّاي،.

     وَقَالَ  ابْن فَارس: الحون ريح يحن كحنين الْإِبِل.





[ قــ :6143 ... غــ :6481 ]
- حدّثنا مُوسى احدثنا: مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أبي حَدثنَا قَتادَةُ عنْ عُقْبَةَ بنِ عَبْدِ الغافِرِ عنْ أبي سَعِيدٍ، رَضِي الله عَنهُ، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَكَرَ رَجُلاً فِيمَنْ كَانَ سَلَفَ أَو قَبْلكُمْ (آتاهُ الله مَالا وَوَلَداً يَعْنِي: أعْطاهُ مَالا وَوَلداً { قَالَ: فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ لِبَنِيهِ: أيَّ أبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قالُوا: خَيْرَ أَب قَالَ: فإنَّهُ لَمْ يَبْتَئرْ عِنْدَ الله خَيْراً فَسَرَّهَا قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ وإنْ يَقْدَمْ على الله يُعَذِّبْهُ فانْظُرُوا فَإِذا مُتُّ فأحْرِقُونِي حتَّى إِذا صِرْتُ فَحْماً فاسْحَقُونِي أَو قَالَ: فاسْهَكُونِي ثُمَّ إِذا كانَ رِيحٌ عاصِفٌ فأذْرُونِي فِيهَا، فأخذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلى ذالِكَ ورَبِّي، فَفَعَلُوا فَقَالَ الله: كُنْ، فَإِذا رَجُلٌ قائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أيْ عَبْدِي} مَا حَمَلَكَ عَلى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ أوْ فَرَقٌ مِنْكَ فَمَا تَلافاهُ أنْ رَحِمَهُ الله.

فَحَدَّثْتُ أَبَا عثْمانَ فَقَالَ: سَمِعْتُ سلْمانَ غَيْرَ أنَّهُ زادَ: فأذْرُونِي فِي البَحْرِ، أَو كَمَا حَدَّثَ.
(انْظُر الحَدِيث 8743 وطرفه) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مخافتك) ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، ومعتمر يروي عَن أَبِيه سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، وَعقبَة بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف ابْن عبد الغافر أَبُو نَهَار الْأَزْدِيّ العوذي الْبَصْرِيّ، وَأَبُو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مر فِي ذكر بني إِسْرَائِيل عَن أبي الْوَلِيد وَيحيى فِي التَّوْحِيد عَن عبد الله بن أبي الْأسود.
وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن عبيد الله بن معَاذ وَغَيره.

قَوْله: (أَو قبلكُمْ) ، شكّ من الرَّاوِي.
قَوْله: (يَعْنِي: أعطَاهُ مَالا) ، هَذَا تَفْسِير لقَوْله: (آتَاهُ الله) وَهُوَ بِالْمدِّ بِمَعْنى: أعطَاهُ وبالقصر بِمَعْنى الْمَجِيء.
قَوْله: (مَالا) بعد قَوْله: (أعطَاهُ) رِوَايَة الْكشميهني، وَلَا معنى لإعادة لفظ: مَالا، وَفِي رِوَايَة غَيره: أعطَاهُ، بِلَا ذكر مَالا.
(فَلَمَّا حضر) بِضَم الْحَاء وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة أَي: فَلَمَّا حَضَره أَوَان الْمَوْت.
قَوْله: (خير أَب) بِالنّصب أَي: كنت خير أَب، وبالرفع أَي: أَنْت خير أَب.
قَوْله: (لم يبتئر) من الابتئار افتعال من الْبَار بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء وَمَعْنَاهُ لم يدّخر وَلم يخبأ، هَكَذَا فسره قَتَادَة، وَأَصله من البئيرة بِمَعْنى الذَّخِيرَة والخبيئة، قَالَ أهل اللُّغَة: بارت الشَّيْء وابتأرته إبارة وابتئره إِذا خبأته، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن: لم يأبتر، بِتَقْدِيم الْهمزَة على الْبَاء الْمُوَحدَة حَكَاهُ عِيَاض وَمَعْنَاهُ: لم يقدم خيرا يُقَال: بأرته وابتارته، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَوَقع فِي التَّوْحِيد فِي رِوَايَة أبي زيد الْمروزِي: لم يبتئر أَو لم يبتئر بِالشَّكِّ فِي الزَّاي أَو الرَّاء، وَفِي رِوَايَة الْجِرْجَانِيّ بنُون بدل الْبَاء الْمُوَحدَة، وَالزَّاي، قيل: كِلَاهُمَا غير صَحِيح، ويروى فِي غير البُخَارِيّ: يبتهر، بِالْهَاءِ بدل الْهمزَة وبالراء ويمتئر بِالْمِيم بدل الْبَاء الْمُوَحدَة وبالراء.
قَوْله: (وَإِن يقدم على الله يعذبه) كَذَا هُنَا بِسُكُون الْقَاف وَفتح الدَّال من الْقدوم وَهُوَ بِالْجَزْمِ على الشّرطِيَّة، وَكَذَا يعذبه بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ جَزَاء، وَالْمعْنَى أَنه إِن بعث يَوْم الْقِيَامَة على هَيئته يعرفهُ كل أحد، فَإِذا صَار رَمَادا مبثوثاً فِي المَاء أَو الرّيح لَعَلَّه يخفى.
وَوَقع فِي حَدِيث حُذَيْفَة عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة أبي خَيْثَمَة عَن جرير بِسَنَد حَدِيث الْبابُُ: فَإِنَّهُ إِن يقدر عَليّ رَبِّي لَا يغْفر لي، وَكَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: لَئِن قدر الله عَليّ، قيل: كَيفَ غفر لهَذَا الَّذِي أوصى بِهَذِهِ الْوَصِيَّة وَقد جهل قدرَة الله على إحيائه؟ .
وَأجِيب: بِأَن النَّاس اخْتلفُوا فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث، فَقيل: أما عَفْو الله عَمَّا كَانَ مِنْهُ فِي أَيَّام صِحَّته من الْمعاصِي فلندمه عَلَيْهَا وتوبته مِنْهَا عِنْد مَوته، وَلذَلِك أَمر وَلَده بإحراقه وتذريته فِي الْبر وَالْبَحْر خشيَة من عَذَاب ربه والندم تَوْبَة.

قلت: فِيهِ نظر، لِأَن كَون النَّدَم تَوْبَة إِنَّمَا هُوَ لهَذِهِ الْأمة، أَلا يُرى مَا حكى الله عَن قابيل بقوله: { فاصبح من النادمين} (الْمَائِدَة: 13) فَلم يكن ندمه تَوْبَة، وَقيل: إِن معنى قَوْله: إِن قدر الله على الْقُدْرَة الَّتِي هِيَ الْعَجز وَإنَّهُ كَانَ عِنْده أَنه إِذا أحرق وذري أعجز ربه عَن إحيائه، فَهُوَ على أَنه غفر لَهُ لجهله بِالْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ لم يكن تقدم فِي ذَلِك الزَّمَان أَنه لَا يغفرالشرك بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْعقل دَلِيل على أَن ذَلِك غير جَائِز فِي حِكْمَة الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا نقُول: لَا يجوز أَن يغْفر الشّرك بعد نزُول قَوْله تَعَالَى: { إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} (النِّسَاء: 84 و 611) .
وَأما جَوَاز غفران الله ذَلِك فلفضله الْأَعَمّ وغنائه الأتم لِأَنَّهُ لَا يضرّهُ كفر كَافِر وَلَا يَنْفَعهُ إِيمَان مُؤمن.
وَقيل: معنى أَن قدر الله عَليّ أَن ضيق على كَقَوْلِه تَعَالَى: { وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} (الطَّلَاق: 7) أَي: ضيق وَلم يرد بذلك وصف خالقه بِالْعَجزِ عَن إِعَادَته، وَقيل: إِنَّمَا غفر لَهُ لِأَنَّهُ غلب على فهمه من الْجزع الَّذِي كَانَ لحقه من خوف الله وعذابه فيعذر، وَمثل هَذَا إِنَّمَا يكون كفرا مِمَّن يقْصد بِهِ الْكفْر وَهُوَ يعقل مَا يَقُول، وَقيل: غفر لَهُ بِأَصْل توحيده الَّذِي لَا تضر مَعَه مَعْصِيّة، وعزى ذَلِك إِلَى المرجئة.
قَوْله: (فأحرقوني) وَفِي رِوَايَة حُذَيْفَة الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ فِي بني إِسْرَائِيل فاجمعوا لي حطباً كثيرا ثمَّ أوروا نَارا حَتَّى إِذا أكلت لحمي وخلصت إِلَى عظمي فخذوها واطحنوها.
قَوْله: (فاستحقوني) من السحق وَهُوَ دق الشَّيْء نَاعِمًا، أَو قَالَ: (فاسهكوني) ، شكّ من الرَّاوِي من السهك.
قَالُوا: السحق والسهك بِمَعْنى وَاحِد.
وَقيل السهك ونه وَهُوَ أَن يفت الشَّيْء أَو يدق قطعا صغَارًا.
قَوْله: (فاذروني) يَصح أَن يقْرَأ مَوْصُول الْألف من ذرأت الشَّيْء فرقته، وَيصِح أَن يكون أَصله من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ فَيقطع الْهمزَة من قَوْلهم: أذرت الْعين دمعها، وأذريت الرجل عَن فرسه أَي: رميته.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: قرأناه بِقطع الْهمزَة.
قَوْله: (فَأَخذه مواثيقهم) جمع مِيثَاق وَهُوَ الْعَهْد.
قَوْله: (وربي) هُوَ على الْقسم عَن الْمخبر بذلك عَنْهُم لتصحيح خَبره، وَيحْتَمل أَن يكون حِكَايَة الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه، أَي: قَالَ لمن أوصاه: قل: وربي لافعلن ذَلِك، وَفِي (صَحِيح مُسلم) : فَأخذ مِنْهُم ميثاقاً فَفَعَلُوا ذَلِك، وربي قَالَ القَاضِي عِيَاض.
وَفِي بعض نسخه.
فَفَعَلُوا ذَلِك وذرى، قَالَ: فَإِن صحت هَذِه الرِّوَايَة فَهِيَ وَجه الْكَلَام وَلَعَلَّ الذَّال سَقَطت لبَعض النساخ وَتَابعه الْبَاقُونَ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَلَفظ البُخَارِيّ يحْتَمل أَن يكون بِصِيغَة الْمَاضِي من التربية.
أَي: رَبِّي أَخذ المواثيق والمبايعات لكنه مَوْقُوف على الرِّوَايَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَأبْعد الْكرْمَانِي ثمَّ نقل ذَلِك عَنهُ.

قلت: مَا جزم بذلك حَتَّى يُقَال فِيهِ: وَأبْعد، وَإِنَّمَا قيد بِصِحَّة الرِّوَايَة مَعَ الِاحْتِمَال الَّذِي ذكره.
قَوْله: (فَإِذا رجل قَائِم) وَقع الْمُبْتَدَأ هُنَا نكرَة لِأَن وُقُوعه هُنَا بعد إِذا، المفاجأة من المخصصات كَمَا فِي قَوْلك: خرجت فَإِذا سبع.
قَوْله: (أَي عَبدِي) يَعْنِي: يَا عَبدِي.
قَوْله: (أَو فرق) هُوَ شكّ من الرَّاوِي وَهُوَ بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء وبالقاف الْخَوْف.
قَوْله: (فَمَا تلافاه أَن رَحمَه) كلمة: مَا، مَوْصُولَة، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: الَّذِي تلافاه أَي: تَدَارُكه بِأَن رَحمَه، أَي: بِالرَّحْمَةِ، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي تلافاه يرجع إِلَى عمل الرجل وَيجوز أَن يكون: مَا، نَافِيَة، وَكلمَة الِاسْتِثْنَاء محذوفة على مَذْهَب من يجوز حذفهَا، أَي: مَا تلافاه إلاَّ أَن رَحمَه.

قَوْله: (فَحدثت أَبَا عُثْمَان) قَالَ الْكرْمَانِي: الْقَائِل: بحدثت، قَتَادَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هُوَ سُلَيْمَان وَالِد الْمُعْتَمِر.

قلت: الَّذِي يظْهر أَن قَول الْكرْمَانِي هُوَ الصَّوَاب فَلْينْظر فِيهِ، وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بالنُّون الْمَفْتُوحَة.
قَوْله: (فَقَالَ) أَي: أَبُو عُثْمَان: قَوْله: (سَمِعت هَذَا من سلمَان) أَي: الْفَارِسِي، وَحذف المسموع مِنْهُ الَّذِي اسْتثْنى مِنْهُ مَا ذكر، وَالتَّقْدِير: سَمِعت سلمَان يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمثل هَذَا الحَدِيث، غير أَنه زَاد قَوْله: (أَو كَمَا حدث) شكّ من الرَّاوِي يُشِير بِهِ إِلَى أَنه معنى حَدِيث أبي سعيد لَا بِلَفْظِهِ كُله.

وَقَالَ مُعاذٌ: حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ قَتادَةَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ سَمعْتُ أَبَا سَعِيدٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

أَي: قَالَ معَاذ بن التَّمِيمِي، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم: حَدثنِي عبيد الله بن معَاذ الْعَنْبَري حَدثنَا أبي حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة سمع عقبَة بن عبد الغافر يَقُول، سَمِعت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن رجلا فِيمَن كَانَ قبلكُمْ راشه الله مَالا وَولدا، فَقَالَ لوَلَده: لتفعلن مَا آمركُم بِهِ أَو لأولين ميراثي غَيْركُمْ، إِذا أَنا مت فأحرقوني، وأكبر علمي أَنه قَالَ: ثمَّ اسحقوني فاذروني فِي الرّيح، فَإِنِّي لم ابتهر عِنْد الله خيرا، وَأَن الله يقدر على أَن يُعَذِّبنِي.
قَالَ: فَأخذ مِنْهُم ميثاقاً فَفَعَلُوا ذَلِك بِهِ وربي، فَقَالَ الله: مَا حملك على مَا فعلت؟ قَالَ: مخافتك، فَمَا تلافاه غَيرهَا.
انْتهى.
أَي: مَا تَدَارُكه غير المخافة.
<