فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من هم بحسنة أو بسيئة

( بابُُ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أوْ بِسَيِّئَةٍ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ من هم بحسنة، الْهم تَرْجِيح قصد الْفِعْل، تَقول: هَمَمْت بِكَذَا أَي: قصدته بهمتي وَهُوَ فَوق مُجَرّد خطور الشَّيْء بِالْقَلْبِ.



[ قــ :6153 ... غــ :6491 ]
- حدّثنا أبُو مَعْمَرٍ حدّثنا عبْدُ الوَارِثِ حَدثنَا جَعْدٌ أبُو عُثْمانَ حَدثنَا أبُو رجاءٍ العُطارِدِيُّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيما يَرْوِي عنْ ربِّهِ عَزَّ وجَلَّ، قَالَ: ( قَالَ إنَّ الله كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئات ثُمَّ بَيَّنَ ذالِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كَتَبَها الله لهُ عِنْدهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هُوَ هَمَّ بِها فَعَمِلَها كَتَبَها الله لهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، ومَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلمْ يَعْمَلِها كَتَبَها الله لهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هُوَ هَمَّ بِها فَعَمِلَها كَتَبَها الله لهُ سَيِّئَةً واحِدَةً) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَمن هم بحسنة) وَقَوله: ( وَمن هم بسيئة) .

وَأَبُو معمر عبد الله بن عَمْرو بن الْحجَّاج الْمنْقري بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون، وَفتح الْقَاف، وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد، وجعد بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة ابْن دِينَار، وكنيته أَبُو عُثْمَان الرَّازِيّ، وَأَبُو رَجَاء بِالْمدِّ وبالجيم اسْمه عُثْمَان بن تَمِيم العطاردي وَهَؤُلَاء كلهم بصريون.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن شَيبَان بن فروخ وَغَيره.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت وَفِي الرَّقَائِق عَن قُتَيْبَة.

قَوْله: ( عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن مُسَدّد: عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( فِيمَا يروي عَن ربه) هَذَا لبَيَان أَنه من الْأَحَادِيث القدسية، أَو بَيَان مَا فِيهِ من الْإِسْنَاد الصَّرِيح إِلَى الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: قَوْله: ( إِن الله قد كتب) أَو بَيَان الْوَاقِع وَلَيْسَ فِيهِ أَن غَيره لَيْسَ كَذَلِك، بل فِيهِ أَن غَيره كَذَلِك، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا ينْطق عَن الْهوى، أَو الْمَعْنى فِي جملَة مَا يرويهِ أَنه عز وَجل كتب الْحَسَنَات أَي قدرهَا وَجعلهَا حَسَنَة، وَكَذَلِكَ السَّيِّئَات قدرهَا وَجعلهَا سَيِّئَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَفِيه دلَالَة على بطلَان قَاعِدَة الْحسن والقبح العقليين وَأَن الْأَفْعَال لَيست بذواتها قبيحة أَو حَسَنَة، بل الْحسن والقبح شرعيان حَتَّى لَو أَرَادَ الشَّارِع التعكيس وَالْحكم بِأَن الصَّلَاة قبيحة وَالزِّنَا حسن كَانَ لَهُ ذَلِك، خلافًا للمعتزلة فَإِنَّهُم قَالُوا: الصَّلَاة فِي نَفسهَا حَسَنَة وَالزِّنَا فِي نَفسه قَبِيح، والشارع كاشف مُبين لَا مُثبت وَلَيْسَ لَهُ تعكيسها.
قَوْله: ( ثمَّ بَين ذَلِك) أَي: ثمَّ بَين الله عز وَجل الَّذِي كتب من الْحَسَنَات والسيئات.
قَوْله: ( فَمن همَّ) بَيَان ذَلِك بفاء الفصيحة.
قَوْله: ( فَلم يعملها) أَي: فَلم يعْمل الْحَسَنَة الَّتِي هم بهَا قَوْله: ( كتبهَا الله لَهُ عِنْده) أَي: كتب الله تِلْكَ الْحَسَنَة الَّتِي هم بهَا، وَقيل: أَمر الْحفظَة بِأَن تكْتب ذَلِك، وَقيل: قدر ذَلِك وَعرف الكتبة من الْمَلَائِكَة ذَلِك التَّقْدِير.
وَقَوله: ( عِنْده) أَي: عِنْد الله، وَهَذِه إِشَارَة إِلَى الشّرف.
قَوْله: ( كَامِلَة) إِشَارَة إِلَى رفع توهم نَقصهَا لكَونهَا نشأت عَن الْهم الْمُجَرّد،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: أَشَارَ بقوله: عِنْده، إِلَى مزِيد الاعتناء بِهِ.
وَبِقَوْلِهِ: كَامِلَة، إِلَى تَعْظِيم الْحَسَنَة وتأكيد أمرهَا، وَعكس ذَلِك فِي السَّيئَة فَلم يصفها بكاملة بل أكدها بقوله: ( وَاحِدَة) إِشَارَة إِلَى تحقيقها مُبَالغَة فِي الْفضل وَالْإِحْسَان.
قَوْله: ( فَإِن هُوَ هم بهَا) ، أَي: فَإِن هم العَبْد بِالْحَسَنَة فعملها قَوْله: ( عشر حَسَنَات) قَالَ عز وَجل: { من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} ( الْأَنْعَام: 061) قَوْله: ( إِلَى سَبْعمِائة ضعف) أَي: مثل، والضعف يُطلق على الْمثل وعَلى المثلين، قَالَ الله تَعَالَى: { مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم} ( الْبَقَرَة: 162 و 562) الْآيَة قَوْله: ( إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة) قَالَ الله تَعَالَى: { وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء} ( الْبَقَرَة: 162) .
قيل: لما كَانَ الْهم بِالْحَسَنَة مُعْتَبرا بِاعْتِبَار أَنه فعل الْقلب لزم أَن يكون بِالسَّيِّئَةِ أَيْضا كَذَلِك.
وَأجِيب: بِأَن هَذَا من فضل الله على عباده حَيْثُ عَفا عَنْهُم، وَلَوْلَا هَذَا الْفضل الْعَظِيم لم يدْخل أحد الْجنَّة لِأَن السَّيِّئَات من الْعباد أَكثر من الْحَسَنَات، فلطف الله عز وَجل بعباده بِأَن ضاعف لَهُم الْحَسَنَات دون السَّيِّئَات.
قيل: إِذا هم العَبْد بِالسَّيِّئَةِ وَلم يعْمل بهَا فغايته أَن لَا تكْتب لَهُ سَيِّئَة فَمن أَيْن أَن تكْتب لَهُ حَسَنَة؟ وَأجِيب: بِأَن الْكَفّ عَن الشَّرّ حَسَنَة.
قيل: اتّفق الْعلمَاء على أَن الشَّخْص إِذا عزم على ترك صَلَاة بعد عشْرين سنة عصى فِي الْحَال؟ وَأجِيب: بِأَن الْعَزْم وَهُوَ توطين النَّفس على فعله غير الْهم الَّذِي هُوَ تحديث النَّفس من غير اسْتِقْرَار،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: إِذا حدث العَبْد نَفسه بالمعصية لم يُؤَاخذ، فَإِذا عزم فقد خرج عَن تحديث النَّفس فَيصير من أَعمال الْقلب، فَإِن عقد النِّيَّة على الْفِعْل فحينئذٍ يَأْثَم، وَبَيَان الْفرق بَين الْهم والعزم أَنه لَو حدث نَفسه فِي الصَّلَاة وَهُوَ فِيهَا بقطعها لم تَنْقَطِع، فَإِذا عزم حكمنَا بقطعها.

ثمَّ إعلم أَن حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا مَعْنَاهُ الْخُصُوص لمن همَّ بسيئة فَتَركهَا لوجه الله تَعَالَى، وَأما من تَركهَا مكْرها على تَركهَا بِأَن يُحَال بَينه وَبَينهَا فَلَا تكْتب لَهُ حَسَنَة، فَلَا يدْخل فِي نَص الحَدِيث.
.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: وَفِي هَذَا الحَدِيث تَصْحِيح مقَالَة من يَقُول: إِن الْحفظَة تكْتب مَا يهم بِهِ العَبْد من حَسَنَة أَو سَيِّئَة، وَتعلم اعْتِقَاده كَذَلِك، ورد مقَالَة من زعم أَن الْحفظَة لَا تكْتب إلاَّ مَا ظهر من عمل العَبْد وَتسمع.
فَإِن قيل: الْملك لَا يعلم الْغَيْب فَكيف يعلم بهم العَبْد؟ قيل لَهُ: قد جَاءَ فِي الحَدِيث أَنه اذا هم بحسنة فاحت مِنْهُ رَائِحَة طيبَة، وَإِذا هم بسيئة فاحت مِنْهُ رَائِحَة كريهة.

قلت: هَذَا الحَدِيث أخرجه الطَّبَرِيّ عَن أبي معشر الْمدنِي، وَسَيَأْتِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي التَّوْحِيد بِلَفْظ: ( إِذا اراد عَبدِي أَن يعْمل سَيِّئَة فَلَا تكتبوها عَلَيْهِ حَتَّى يعملها) .

وَفِيه: دَلِيل على أَن الْملك يطلع على مَا فِي الْآدَمِيّ إِمَّا باطلاع الله إِيَّاه، وَإِمَّا بِأَن يخلق الله لَهُ علما يدْرك بِهِ ذَلِك.