فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا حلف أن لا يأتدم، فأكل تمرا بخبز، وما يكون من الأدم

(بابٌُ إِذا حَلَفَ أنْ لَا يَأْتَدِمَ فأكَلَ تَمْراً بِخُبْزٍ، وَمَا يَكُونُ مِنَ الأُدْمِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا حلف أَن لَا يَأْكُل أدماً فَأكل تَمرا بِخبْز أَي: ملتبساً بِهِ مُقَارنًا لَهُ.
وَجَوَاب: إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يكون بذلك مؤتدماً أم لَا.
قَوْله: (مَا يكون من الْأدم) عطف على جملَة الشَّرْط وَالْجَزَاء أَي: بابُُ يذكر فِيهِ أَيْضا مَا يكون أَي: شَيْء يكون من الْأدم، وَلم يذكر حكم هذَيْن الْمَذْكُورين اعْتِمَادًا على مستنبط الْأَحْكَام من النُّصُوص أما الْفَصْل الأول: فقد روى فِيهِ عَن حَفْص بن غياث عَن مُحَمَّد بن يحيى الْأَسْلَمِيّ عَن يزِيد الْأَعْوَر عَن ابْن أبي أُميَّة عَن يُوسُف عَن عبد الله بن سَلام قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ كسرة من خبز شعير فَوضع عَلَيْهَا تَمرا،.

     وَقَالَ : هَذِه إدام هَذِه فَأكلهَا، وَبِهَذَا يحْتَج أَن كل مَا يُوجد فِي الْبَيْت غير الْخبز فَهُوَ إدام سَوَاء كَانَ رطبا أَو يَابسا، فعلى هَذَا إِن من حلف أَن لَا يأتدم فَأكل خبْزًا بِتَمْر فَإِنَّهُ يَحْنَث، وَلَكِن قَالُوا: إِن هَذَا مَحْمُول على أَن الْغَالِب فِي تِلْكَ الْأَيَّام أَنهم كَانُوا يتقوتون بِالتَّمْرِ لشظف عيشهم وَلعدم قدرتهم على غَيره إلاّ نَادرا وَأما الْفَصْل الثَّانِي: فَفِيهِ خلاف بَين الْعلمَاء فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: الإدام مَا يصطبغ بِهِ مثل الزَّيْت وَالْعَسَل وَالْملح والخل، وَأما مَا لَا يصطبغ بِهِ مثل اللَّحْم المشوي والجبن وَالْبيض فَلَيْسَ بإدام،.

     وَقَالَ  مُحَمَّد: هَذِه إدام وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف.
فَإِن قلت: معنى مَا يصطبغ بِهِ مَا يخْتَلط بِهِ الْخبز، فَكيف يخْتَلط الْخبز بالملح؟ .

قلت: يذوب فِي الْفَم فَيحصل الِاخْتِلَاط.
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعند الْمَالِكِيَّة يَحْنَث بِكُل مَا هُوَ عِنْد الْحَالِف إدام وَلكُل قوم عَادَة.



[ قــ :6337 ... غــ :6687 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حَدثنَا سُفيْانُ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَابس عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: (مَا شَبِعَ آلُ محَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ خُبُز بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ حتَّى لَحَقَ بِاللَّه) .

قَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ دلّ الحَدِيث على التَّرْجَمَة؟ ثمَّ قَالَ: لما كَانَ التَّمْر غَالب الْأَوْقَات مَوْجُودا فِي بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا شباعاً مِنْهُ علم أَنه لَيْسَ أكل الْخبز بِهِ ائتداماً أَو ذكر هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبابُُ بِأَدْنَى مُلَابسَة وَهُوَ لفظ؛ المأدوم، وَلم يذكر غَيره لِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا بِشَرْطِهِ يدل على التَّرْجَمَة، أَو هُوَ أَيْضا من جملَة تَصَرُّفَات النقلَة على الْوَجْه الَّذِي ذَكرُوهُ.
انْتهى.

قلت: ذكر فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: الْوَجْه الأول: رده بَعضهم بقوله: هُوَ مباين لمراد البُخَارِيّ وَلم يبين المُرَاد مَا هُوَ؟ .

قلت: حَدِيث عبد الله بن سَلام الْمَذْكُور آنِفا أقوى فِي الرَّد عَلَيْهِ الْوَجْه الثَّانِي: قَالَ فِيهِ بَعضهم: إِنَّه هُوَ المُرَاد لَكِن يَنْضَم إِلَيْهِ مَا ذكره ابْن الْمُنِير، وَالَّذِي ذكره ابْن الْمُنِير هُوَ أَنه قَالَ: مَقْصُود البُخَارِيّ الرَّد على من زعم أَنه لَا يُقَال ائتدم إلاَّ إِذا أكل مَا يصطبغ بِهِ.
انْتهى.

قلت: الحَدِيث لَا يدل أصلا على رد الزاعم بِهَذَا لِأَن لفظ: مأدوم، أَعم من أَن يكون الإدام فِيهِ مِمَّا يصطبغ بِهِ أَو لَا يصطبغ بِهِ.
الْوَجْه الثَّالِث: بعيد جدا على مَا لَا يخفى.

وَمُحَمّد بن يُوسُف شيخ البُخَارِيّ هُوَ البُخَارِيّ البيكندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبد الرَّحْمَن بن عَابس بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالياء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة وبالسين الْمُهْملَة يروي عَن أَبِيه عَابس بن ربيعَة النَّخعِيّ.

والْحَدِيث مضى فِي الْأَطْعِمَة عَن خَلاد بن يحيى عَن سُفْيَان مطولا، وَهنا ذكر قِطْعَة مِنْهُ.

قَوْله: تباعا) بِكَسْر التَّاء أَي: متتابعة.
قَوْله: (حَتَّى لحق بِاللَّه) كِنَايَة عَن الْمَوْت.

وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ: أخبرنَا سُفْيانُ حدّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ عنْ أبِيهِ أنّهُ قَالَ لِ عائِشَةَ بِهاذَا.

أَي: قَالَ مُحَمَّد بن كثير بالثاء الْمُثَلَّثَة الْبَصْرِيّ وَهُوَ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن عَابس الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق، وَإِنَّمَا ذكره البُخَارِيّ مذاكرة عَن ابْن كثير إِشَارَة لدفع مَا يتَوَهَّم من العنعنة فِي الطَّرِيق الَّتِي قبلهَا من الِانْقِطَاع، وَقد صرح فِي هَذَا الطَّرِيق لقَوْله أَنه قَالَ لعَائِشَة أَي: أَن عَابِسا وَالِد عبد الرَّحْمَن قَالَ لعَائِشَة بِهَذَا، يَعْنِي: سَأَلَ مِنْهَا بعد أَن لقيها عَن هَذَا الحَدِيث.





[ قــ :6338 ... غــ :6688 ]
- حدّثنا قُتَيْبَةُ عنْ مالِكٍ عنْ إسْحاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ أنَس بنَ مالِكٍ قَالَ: قَالَ أبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: لَ قَدْ سَمِعْتُ صَوْت رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَعِيفاً أعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فقالَتْ: نَعَمْ.
فأخْرَجَتْ أقْراصاً مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أخَذَتْ خِماراً لَهَا فَلَفَّتِ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ أرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَسْجِدِ ومَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْت عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أرْسَلَكَ أبُو طَلْحَةَ؟) فَقُلْتُ: نَعَمْ.
فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمَنْ مَعَهُ: ( قُومُوا فانَّطَلَقُوا) وانْطَلَقْتُ بَيْنَ أيدِيهِمْ حتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! قَدْ جاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعامِ مَا نُطْعِمُهُمْ.
فقالَتِ: الله ورَسولُهُ أعْلَمُ، فانْطَلَقَ أبُو طَلْحَةَ حتَّى لَقِيَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأقْبَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأبُو طَلْحَةَ مَعهُ حتَّى دَخَلاَ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( هَلُمِّي يَا أمَّ سُلَيْمٍ، مَا عِنْدَكَ؟) فأتَتْ بِذالِكَ الخُبْزِ، قَالَ: فأمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذالِكَ الخُبْزِ فَفُتَّ وعَصَرَتْ أمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَها فأدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا شاءَ الله أَن يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ( إئْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فأذِنَ لَهُمْ فأكَلُوا حتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجوا، ثُمَّ قَالَ: ( ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فأذِنَ لَهُمْ فأكلُوا حتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ( ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فأكَلَ القَوْمُ كُلُّهُمْ وشَبعُوا والقَوْمُ سَبْعُونَ أَو ثَمانُونَ رَجُلاً.
إِذن
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( فأدمته) .

والْحَدِيث قد مضى فِي عَلَامَات النُّبُوَّة بِطُولِهِ وَفِي الصَّلَاة مُخْتَصرا عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي الْأَطْعِمَة عَن إِسْمَاعِيل وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

وَأَبُو طَلْحَة هُوَ زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ زوج أم سليم أم أنس بن مَالك.

قَوْله: ( عكة) بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْكَاف وَهِي إِنَاء السّمن.
قَوْله: ( فأدمته) أَي خلطت الْخبز بالإدام.

وَفِيه: معْجزَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.