فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا نذر، أو حلف: أن لا يكلم إنسانا في الجاهلية، ثم أسلم

( بابٌُ إِذا نَذَرَ أوْ حَلَفَ أنْ لَا يُكَلَّمَ إنْساناً فِي الجاهِلِيَّةِ ثمَّ أسْلَمَ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا نذر شخص أَو حلف أَن لَا يكلم إنْسَانا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهُوَ ظرف لقَوْله: نذر، وَهِي: زمَان فَتْرَة النبوات يَعْنِي: قبل بَعثه نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَالَه الْكرْمَانِي: قَوْله: ثمَّ أسلم، أَي: النَّاذِر، وَلم يبين حكمه وَهُوَ جَوَاب: إِذا فَإِن نقل أحد عَن البُخَارِيّ أَنه مِمَّن يُوجب ذَلِك، فجواب: إِذا، يجب ذَلِك، وإلاَّ يكون جَوَابه: ينْدب ذَلِك، وَقد عقد الطَّحَاوِيّ لهَذَا الْبابُُ تَرْجَمَة وَهِي أحسن من هَذِه التَّرْجَمَة وأوضح حَيْثُ قَالَ: بابُُ الرجل ينذر وَهُوَ مُشْرك نذرا ثمَّ يسلم، لِأَن معنى قَوْله: فِي الْجَاهِلِيَّة، الَّذِي فسره الْكرْمَانِي بقوله: قبل بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يسْتَلْزم أَن يكون حكم الْمُشرك الَّذِي كَانَ بعد الْبعْثَة وَنذر نذرا ثمَّ أسلم خلاف حكم الَّذِي نذر فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ أسلم بعد الْبعْثَة، مَعَ أَن حكمهمَا سَوَاء.



[ قــ :6347 ... غــ :6697 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلِ أبُو الحَسَنِ أخبرنَا عَبْدُ الله أخبرنَا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ: أنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُول الله! إنِّي نَذَرْتُ فِي الجاهِلِيَّةِ أنْ أعْتكِفَ لَيْلَةً فِي المَسجِدِ الحَرامِ.
قَالَ: ( أوْفٍ بِنذْرِكَ) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( أوف بِنَذْرِك) لِأَنَّهُ يدل على أَن نذر الْكَافِر صَحِيح، فَإِذا أسلم يلْزمه الْوَفَاء بِهِ.
وَفِيه خلاف بَين الْفُقَهَاء على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ.

والْحَدِيث مضى فِي آخر الِاعْتِكَاف فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبيد الله بن إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة عَن عبيد الله بن عمر ... الخ وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من ثَلَاث طرق، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى أَن الرجل إِذا أوجب على نَفسه شَيْئا فِي حَال شركه من اعْتِكَاف أَو صَدَقَة أَو شَيْء مِمَّا يُوجِبهُ الْمُسلمُونَ لله، ثمَّ أسلم، أَن ذَلِك وَاجِب عَلَيْهِ.
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِهَذِهِ الْآثَار.

قلت: أَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: طاووساً وَقَتَادَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَجَمَاعَة الظَّاهِرِيَّة، وَبِه قَالَ ابْن حزم، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ.
فَقَالُوا: لَا يجب عَلَيْهِ فِي ذَلِك شَيْء.

قلت: أَرَادَ بالآخرين: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَأَبا حنيفَة وَأَبا يُوسُف ومحمداً ومالكاً وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَأحمد فِي رِوَايَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور قبل هَذَا الْبابُُ، وَبِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّمَا النّذر مَا ابْتغى بِهِ وَجه الله، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن عبد الله بن وهب فِي ( مُسْنده) : فَدلَّ على أَن فعل الْكَافِر لم يكن تقرباً إِلَى الله، لِأَنَّهُ حِين كَانَ يُوجِبهُ يقْصد بِهِ الَّذِي كَانَ يعبده من دون الله، وَذَلِكَ مَعْصِيّة، فَدخل فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا نذر فِي مَعْصِيّة الله) .
وَأما حَدِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَالْجَوَاب عَنهُ إِنَّمَا أَمر بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يَفْعَله الْآن على أَنه طَاعَة لله عز وَجل، وَكَانَ خلاف مَا أوجبه بِهِ فِي حَال نَذره الَّذِي هُوَ مَعْصِيّة.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: لم يَأْمُرهُ الشَّارِع على جِهَة الْإِيجَاب، وَإِنَّمَا هُوَ على جِهَة الرَّأْي، وَقيل: أَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعلمهُمْ أَن الْوَفَاء بِالنذرِ من آكِد الْأُمُور، فغلظ أمره بِأَن أَمر عمر بِالْوَفَاءِ.
قَوْله: ( قَالَ: يَا رَسُول الله) كَانَ قَوْله لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك بعد مَا قسم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَنَائِم حنين بِالطَّائِف.

وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي الحَدِيث أَن الصَّوْم لَيْسَ شرطا لصِحَّة الِاعْتِكَاف، وَهُوَ حجَّة على الْحَنَفِيَّة.
انْتهى.

قلت: ذهل الْكرْمَانِي عَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا اعْتِكَاف إلاَّ بِالصَّوْمِ.