فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ذوي الأرحام

( بابُُ ذَوِي الأرْحامِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم ذَوي الْأَرْحَام هَل يَرِثُونَ أم لَا؟ وَمن هم؟ وذوو الْأَرْحَام جمع ذِي الرَّحْمَن وَهُوَ خلاف الْأَجْنَبِيّ، والأرحام جمع الرَّحِم وَالرحم فِي الأَصْل منبت الْوَلَد ووعاؤه فِي الْبَطن ثمَّ سميت الْقَرَابَة والوصلة من جِهَة الْولادَة رحما وَفِي الشَّرِيعَة: عبارَة عَن كل قريب لَيْسَ بِذِي سهم وَلَا عصبَة،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: وذوو الرَّحِم هم الأقراب، وَيَقَع على كل من يجمع بَيْنك وَبَينه نسب وَيُطلق فِي الْفَرَائِض على الْأَقَارِب من جِهَة النِّسَاء، يُقَال: ذَوُو رحم محرم ومحرم هُوَ من لَا يحل نِكَاحه كالأم وَالْبِنْت وَالْأُخْت والعمة وَالْخَالَة.
انْتهى.
.

     وَقَالَ  فِي ( التَّلْوِيح) : ذَوُو الْأَرْحَام هم الَّذين لَا سهم لَهُم فِي الْكتاب وَالسّنة من قرَابَة الْمَيِّت وَلَيْسوا بعصبة الْبَنَات كأولادها وَأَوْلَاد الْأَخَوَات وَأَوْلَاد الْأُخوة لأم وَبَنَات الْأَخ والعمة وَالْخَالَة وعمة الْأَب وَالْعم أَخُو الْأَب لأمه وَالْجد أبي الْأُم وَالْجدّة أم أبي الْأُم وَمن أدلى بهم.

وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الْبابُُ.
فَقَالَت طَائِفَة: إِذا لم يكن للْمَيت وَارِث لَهُ فرض مُسَمّى فَمَاله لموَالِي الْعتَاقَة الَّذين أعتقوه، فَإِن لم يكن فَمَاله لبيت مَال الْمُسلمين، وَلَا يَرث من فرض لَهُ من ذَوي الْأَرْحَام، رُوِيَ هَذَا عَن أبي بكر وَزيد بن ثَابت وَابْن عمر، وَرِوَايَة عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول أهل الْمَدِينَة وَالزهْرِيّ وَأبي الزِّنَاد وَرَبِيعَة وَمَالك وروى عَن مَكْحُول وَالْأَوْزَاعِيّ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَكَانَ عمر بن الْخطاب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس ومعاذ وَأَبُو الدَّرْدَاء يورثون ذَوي الْأَرْحَام وَلَا يُعْطون الْوَلَاء مَعَ الرَّحِم شَيْئا، وبتوريث ذَوي الْأَرْحَام قَالَ ابْن أبي ليلى وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَأحمد وَإِسْحَاق.

[ قــ :6395 ... غــ :6747 ]
- حدّثني إسْحَاقُ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ:.

قُلْتُ ل أبي أُسامَةَ: حَدَّثَكُمْ إدْرِيسُ حدّثنا طَلْحَةُ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: { وَلكُل جعلنَا موالى وَالَّذين عاقلت أَيْمَانكُم} ( النِّسَاء: 33) قَالَ: كَانَ المُهاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ يَرِثُ الأنْصارِيُّ المُهاجِرِيُّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لْلأُخُوَّةِ الّتِي آخَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ { وَلكُل جعلنَا موالى} قَالَ: نَسَخَتْها: { وَالَّذين عقدت أَيْمَانكُم} .


مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: { جعلنَا موالى} لِأَن الموالى الْوَرَثَة، وَكَذَا فسر ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الحَدِيث لِأَنَّهُ ذكره فِي الْكفَالَة بقوله: حَدثنَا الصَّلْت بن مُحَمَّد حَدثنَا أَبُو أُسَامَة بن إِدْرِيس عَن طَلْحَة بن مصرف عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس { وَلَك جعلنَا موالى} ( النِّسَاء: 33) قَالَ: وَرَثَة ... الحَدِيث، وَلَفظ الْوَرَثَة يُطلق على ذَوي الْأَرْحَام، فترجم بقوله: بابُُ ذَوي الْأَرْحَام، لكنه مُبْهَم لَا يفهم مِنْهُ أَنهم يَرِثُونَ أم لَا، وَلَكِن ذكره هَذَا الحَدِيث بِهَذَا السِّيَاق يدل على أَنهم لَا يَرِثُونَ، وَلَكِن فِي هَذَا السِّيَاق نظر لِأَنَّهُ يشْعر بِأَن قَوْله: { وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} ( النِّسَاء: 33) هُوَ نَاسخ، وَالصَّوَاب أَنه هُوَ الْمَنْسُوخ نبه عَلَيْهِ الطَّبَرِيّ وَغَيره فِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَجُمْهُور السّلف على أَن النَّاسِخ لهَذِهِ الْآيَة هُوَ قَوْله تَعَالَى: { وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} ( الْأَحْزَاب: 33) رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالْحسن وَهُوَ الَّذِي أثْبته أَبُو عبيد فِي ناسخه ومسوخه.

وَفِيه قَول آخر: روى الزُّهْرِيّ عَن الْمسيب قَالَ: أَمر الله تَعَالَى الَّذين تبنوا غير أبنائهم فِي الْجَاهِلِيَّة وورثوهم فِي الْإِسْلَام أَن يجْعَلُوا لَهُم نَصِيبا فِي الْوَصِيَّة، ورد الْمِيرَاث إِلَى ذِي الرَّحِم والعصبة.
.

     وَقَالَ ت طَائِفَة: قَوْله تَعَالَى: { وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} محكمَة وَإِنَّمَا أَمر الله الْمُؤمنِينَ أَن يُعْطوا الحلفاء أنصبائهم من النُّصْرَة والنصيحة والرفادة وَمَا أشبه ذَلِك دون الْمِيرَاث، ذكره أَيْضا الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَالسُّديّ،.

     وَقَالَ  فُقَهَاء الْأَمْصَار وَالْعراق والكوفة وَالْبَصْرَة وَجَمَاعَة من الْعلمَاء فِي سَائِر الْآفَاق بتوريث ذَوي الْأَرْحَام، وَقد روى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب: الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ يعقل عَنهُ ويرثه وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم، وروى التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا محسناً، عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ( الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ) ، وَأخرجه النَّسَائِيّ من حَدِيث عَائِشَة، وَأخرجه عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن مُسلم حَدثنَا طَاوُوس عَنْهَا رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
فَإِن قلت: روى الْحَاكِم من حَدِيث عبد الله بن جَعْفَر عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر قَالَ: أقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على حمَار فَلَقِيَهُ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله { رجل ترك عمَّة وَخَالَة لَا وَارِث لَهُ غَيرهمَا، فَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: اللَّهُمَّ} رجل ترك عمته وخالته لَا وَارِث لَهُ غَيرهمَا، ثمَّ قَالَ: أَيْن السَّائِل؟ قَالَ: هَا أَنا ذَا.
قَالَ: لَا مِيرَاث لَهما،.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد.

قلت: عبد الله بن جَعْفَر الْمَدِينِيّ فِيهِ مقَال، قَالَ أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث جدا يحدث عَن الثِّقَات بِالْمَنَاكِيرِ يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ،.

     وَقَالَ  الْجِرْجَانِيّ: واهي الحَدِيث،.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَعنهُ: لَيْسَ بِثِقَة.
وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي عَاصِم مَوْقُوفا.

وَشَيخ البُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَأَبُو أُسَامَة هُوَ حَمَّاد بن أُسَامَة وَإِدْرِيس هُوَ ابْن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن عبد الرَّحْمَن الأودي، وَطَلْحَة هُوَ ابْن مصرف بِكَسْر الرَّاء الْمُشَدّدَة وبالفاء.

والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا فِي الْفَرَائِض عَن هَارُون بن عبد الله عَن أبي أُسَامَة.

قَوْله: ( يَرث الْأنْصَارِيّ) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ فَاعل.
وَقَوله: ( الْمُهَاجِرِي) بِالنّصب مَفْعُوله، ولسيت الْيَاء فِيهِ للنسبة وَإِنَّمَا هِيَ للْمُبَالَغَة كَمَا يُقَال الأحمري فِي الْأَحْمَر، وَقيل: زيدت فِيهِ يَاء النِّسْبَة للمشاكلة،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَيْن الْعَائِد إِلَى اسْم كَانَ؟ .

قلت: وضع الْمُهَاجِرِي مَكَانَهُ وَاللَّازِم فِي مثله الارتباط بَينهمَا سَوَاء كَانَ بالضمير أَو بِغَيْرِهِ،.

     وَقَالَ  أَيْضا: تقدم فِي سُورَة النِّسَاء بِالْعَكْسِ،.

     وَقَالَ : يَرث الْمُهَاجِرِي الْأنْصَارِيّ.

قلت: الْمَقْصُود مِنْهُمَا بَيَان إِثْبَات الوراثة بَينهمَا فِي الْجُمْلَة ثمَّ قَالَ: وَفِيه آخر عكس ذَلِك وَهُوَ أَنه قَالَ ثمَّة: { وَلكُل جعلنَا} والمنسوخ { وَالَّذين عاقدت} وَالْمَفْهُوم هُنَا عَكسه.

قلت: فَاعل نسختها آيَة { وَلكُل جعلنَا} { وَالَّذين عاقدت} مَنْصُوب على الْعِنَايَة أَي: أَعنِي { وَالَّذين عاقدت} وَقيل: الضَّمِير فِي نسختها عَائِد على المؤاخاة لَا على الْآيَة وَالضَّمِير فِي نسختها وَهُوَ الْفَاعِل الْمُسْتَتر يعود على قَوْله: { وَلكُل جعلنَا موالى} وَقَوله: { وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} يدل من الضَّمِير، وأصل الْكَلَام: لما نزلت { لكل جعلنَا موَالِي} نسخت { وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} .