فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات

( بابُُ القِصاص بَيْنَ الرِّجالِ والنَّساءِ فِي الجراحاتِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان وجوب الْقصاص ... الخ، والجراحات جمع جِرَاحَة وَوُجُوب الْقصاص فِي ذَلِك قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: لَا قصاص بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء فِيمَا دون النَّفس من الْجِرَاحَات، لِأَن الْمُسَاوَاة مُعْتَبرَة فِي النَّفس دون الْأَطْرَاف، ألاَّ ترى أَن الْيَد الصَّحِيحَة لَا تُؤْخَذ بيد شلاء؟ وَالنَّفس الصَّحِيحَة تُؤْخَذ بالمريضة؟ .

وَقَالَ أهْلُ العِلْمِ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالمْرَأةِ.

أَرَادَ بِأَهْل الْعلم الْجُمْهُور من الْعلمَاء فَإِن عِنْدهم: يقتل الرجل بِالْمَرْأَةِ، بِالنَّصِّ.

ويُذْكَرُ عنْ عُمَرَ: تُقادُ المَرأةُ مِنَ الرَّجُلِ فِي كلِّ عَمْدٍ يَبْلُغُ نَفْسَهُ فَما دُونَها مِنَ الجِراحِ.

أَي: يذكر عَن عمر بن الْخطاب: تقتص الْمَرْأَة من الرجل، يَعْنِي: إِذا قتلت الرجل فِي قتل الْعمد الَّذِي يبلغ نفس الرجل فَمَا دونهَا من الْجراح، يَعْنِي فِي: كل عُضْو من أعضائها عِنْد قطعهَا من أَعْضَاء الرجل، وَفِيه الْخلاف الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا.

وَهَذَا الْأَثر وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق النَّخعِيّ قَالَ: فِيمَا جَاءَ بِهِ عُرْوَة الْبَارِقي إِلَى شُرَيْح من عِنْد عمر، قَالَ: جروح الرِّجَال وَالنِّسَاء سَوَاء.
قلت: لم يَصح سَماع النَّخعِيّ من شُرَيْح فَلذَلِك ذكر البُخَارِيّ أثر عمر هَذَا بِصِيغَة التمريض.

وبِهِ قَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ وإبْراهِيمُ وأبُو الزِّنادِ عنْ أصْحابِهِ.

أَي: وَبِمَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن الْخطاب قَالَ عَمْرو بن عبد الْعَزِيز وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان الْمدنِي.
قَوْله: عَن أَصْحَابه أَي: عَن أَصْحَاب أبي الزِّنَاد مثل عبد الرحمان بن هُرْمُز الْأَعْرَج وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَعُرْوَة بن الزبير وَغَيرهم.
وَأثر عمر بن عبد الْعَزِيز وَإِبْرَاهِيم أخرجه ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الثَّوْريّ عَن جَعْفَر بن برْقَان عَن عمر بن عبد الْعَزِيز وَعَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَا: الْقصاص بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْعمد سَوَاء.
وَأثر أبي الزِّنَاد أخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عبد الرحمان بن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه.
قَالَ: كل من أدْركْت من فقهائنا وَذكر السَّبْعَة فِي مشيخة سواهُم أهل فقه وَفضل وَدين، قَالَ: رُبمَا اخْتلفُوا فِي الشَّيْء فأخذنا بقول أَكْثَرهم وأفضلهم رَأيا أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَرْأَة تقاد بِالرجلِ عينا بِعَين وأذناً بأذن وكل شَيْء من الْجَوَارِح على ذَلِك وَإِن قَتلهَا قتل بهَا.

وجَرَحَتْ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ إنْساناً فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم القِصاصُ
هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ: وَالربيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف مصغر الرّبيع ضد الخريف بنت النَّضر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة وَالصَّوَاب: بنت النَّضر عمَّة أنس،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قيل صَوَابه حذف لفظ الْأُخْت وَهُوَ الْمُوَافق لما مر فِي سُورَة الْبَقَرَة فِي آيَة: { كتب عَلَيْكُم الْقصاص} أَن الرّبيع نَفسهَا كسرت ثنية جَارِيَة ... إِلَى آخِره اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يُقَال: هَذِه امْرَأَة أُخْرَى، لكنه لم ينْقل عَن أحد.
انْتهى.
قلت: وَقد ذكر جمَاعَة أَنَّهُمَا قضيتان،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: الْمَعْرُوف رِوَايَة البُخَارِيّ وَيحْتَمل أَن تَكُونَا قضيتين، وَجزم ابْن حزم أَنَّهُمَا قضيتان صحيحتان وقعتا لامْرَأَة وَاحِدَة.
إِحْدَاهمَا أَنَّهَا جرحت إنْسَانا فقضي عَلَيْهَا بِالضَّمَانِ، وَالْأُخْرَى أَنَّهَا كسرت ثنية جَارِيَة فقضي عَلَيْهَا بِالْقصاصِ، وَحلفت أمهَا فِي الأولى وأخوها فِي الثَّانِيَة،.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ بعد أَن أورد الرِّوَايَتَيْنِ: ظَاهر الْخَبَرَيْنِ يدل على أَنَّهُمَا قضيتان.
قَوْله: الْقصاص، بِالنّصب على الإغراء وَهُوَ التحريض على الْأَدَاء أَي: أدوه، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: كتاب الله الْقصاص، قيل: الْجراحَة غير مضبوطة فَلَا يتَصَوَّر التكافؤ فِيهَا.
وَأجِيب قد تكون مضبوطة، وَجوز بَعضهم: الْقصاص، على وَجه التَّحَرِّي.



[ قــ :6523 ... غــ :6886 ]
- حدّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيَ، حدّثنا يَحْياى، حدّثنا سُفْيانُ، حدّثنا مُوساى بنُ أبي عائِشَةَ، عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: لَدَدْنا النبيَّ فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: لَا تَلُدُّونِي فَقُلْنا: كَراهِيَةُ المَرِيضِ لِلدَّواءِ فَلمَّا أفاقَ قَالَ: لَا يَبْقَى أحَدٌ مِنْكُمْ إلاّ لُدَّ غَيْرَ العَبَّاسِ فإنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ قصاص الرجل من الْمَرْأَة لِأَن الَّذين لدوه كَانُوا رجَالًا وَنسَاء، بل أَكثر الْبَيْت كَانُوا نسَاء.

وَعَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، ومُوسَى بن أبي عَائِشَة الْهَمدَانِي الْكُوفِي أَبُو بكر، وَعبيد الله بن عبد الله بتصغير الابْن وتكبير الْأَب ابْن عتبَة بن مَسْعُود.

والْحَدِيث مضى فِي: بابُُ مرض النَّبِي ووفاته.

قَوْله: لددنا مُشْتَقّ من اللدود وَهُوَ مَا يصب فِي المسعط من الدَّوَاء فِي أحد شقي الْفَم، وَقد لد الرجل فَهُوَ ملدود وألددته أَنا والتد هُوَ.
قَوْله: لَا تلدوني بِضَم اللَّام.
قَوْله: كَرَاهِيَة الْمَرِيض للدواء يَعْنِي: لم ينهنا نهي تَحْرِيم بل نهي تَنْزِيه لِأَنَّهُ كرهه كَرَاهِيَة الْمَرِيض الدَّوَاء.
قَوْله: إلاَّ لد بِلَفْظ الْمَجْهُول أَي: لَا يبْقى أحد إلاَّ لد قصاصا ومكافأة لفعلهم.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك عُقُوبَة لَهُم لمخالفتهم نَهْيه،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ.
فِيهِ: حجَّة لمن رأى فِي اللَّطْمَة وَنَحْوهَا من الإيلام وَالضَّرْب الْقصاص على جِهَة التَّحَرِّي، وَإِن لم يُوقف على حَده، لِأَن اللدود يتَعَذَّر ضَبطه وَتَقْدِيره: على حد لَا يتَجَاوَز وَلَا يُوقف عَلَيْهِ إلاَّ بِالتَّحَرِّي.
قَوْله: فَإِنَّهُ لم يشهدكم أَي: لم يحضركم.


( مَنْ أخَذَ حَقَّهُ أوِ اقْتَصَّ دُونَ السُّلْطانِ) أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان من أَخذ حَقه من جِهَة غَرِيمه بِغَيْر حكم حَاكم.
قَوْله: أَو اقْتصّ مِمَّن وَجب لَهُ قصاص فِي نفس أَو طرف.
قَوْله: دون السُّلْطَان يَعْنِي بِغَيْر أَمر السُّلْطَان، وَمرَاده بالسلطان الْحَاكِم لِأَن من لَهُ حكم لَهُ تسلط وَالنُّون فِيهِ زَائِدَة، وَجَوَاب: من، غير مَذْكُور، وَفِيه بَيَان الحكم وَلم يذكرهُ على عَادَته إِمَّا اكْتِفَاء بِمَا ذكر فِي حَدِيث الْبابُُ، وَإِمَّا اعْتِمَادًا على ذهن مستنبط الحكم من الْخَبَر.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: اتّفق أَئِمَّة الْفَتْوَى على أَنه لَا يجوز لأحد أَن يقْتَصّ من حَقه دون السُّلْطَان.
قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِيمَن أَقَامَ الْحَد على عَبده، وَقد تقدم.
قَالَ: وَأما أَخذ الْحق فَإِنَّهُ يجوز عِنْدهم أَن يَأْخُذ حَقه من المَال خَاصَّة إِذا جَحده إِيَّاه وَلَا بَيِّنَة لَهُ عَلَيْهِ، وَقيل: إِذا كَانَ السُّلْطَان لَا ينصر الْمَظْلُوم وَلَا يوصله إِلَى حَقه جَازَ لَهُ أَن يقْتَصّ دون الإِمَام.