فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: المعدن جبار والبئر جبار

( بابٌُ المَعْدِنُ جُبارٌ والبِئْرُ جُبارٌ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ الْمَعْدن جَبَّار بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: هدر لَا شَيْء فِيهِ، وَمعنى: الْمَعْدن جَبَّار، هُوَ أَن يحْفر معدناً فِي موَات أَو فِي ملكه فَيهْلك فِيهِ الْأَجِير أَو غَيره مِمَّن يمر بِهِ، فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي ذَلِك.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: الْمَعْدن جَبَّار إِذا احتفر الرجل معدناً فَوَقع فِيهَا إِنْسَان فَلَا غرم عَلَيْهِ، ذكره فِي تَفْسِير حَدِيث الْبابُُ.
قَوْله: والبئر جَبَّار، يَعْنِي إِذا احتفر بِئْر للسبيل فِي ملك أَو موَات فَوَقع فِيهَا إِنْسَان فَلَا غرم على صَاحبهَا، وَيُقَال: المُرَاد بالبئر هُنَا العادية الْقَدِيمَة الَّتِي لَا يعلم لَهَا مَالك، تكون فِي الْبَادِيَة فَيَقَع فِيهَا إِنْسَان أَو دَابَّة فَلَا شَيْء فِي ذَلِك على أحد.



[ قــ :6547 ... غــ :6912 ]
- حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ، حَدثنَا اللّيْثُ، حَدثنَا ابنُ شِهابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسيَّبِ وَأبي سَلَمَة بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ، عنْ أبي هُرَيْرَةَ: أنَّ رسولَ الله قَالَ: العَجْماءُ جُرْحُها جُبارٌ، والبئْرُ جُبارٌ، والمَعْدِنُ جُبارٌ، وَفِي الرِّكازِ الخُمُسُ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة بعض الحَدِيث.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه بَقِيَّة الْأَئِمَّة السّنة.
فَمُسلم عَن يحيى بن يحيى وَغَيره، وَأَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد، وَالتِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد بن منيع.
وَالنَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِبَعْضِه وَعَن هِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن مَيْمُون بباقيه، وَكلهمْ قَالُوا فِيهِ: عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة، وَهَكَذَا قَالَ الإِمَام مَالك بن أنس، وَخَالفهُم يُونُس بن يزِيد فَرَوَاهُ: عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة كِلَاهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ كَذَلِك مُسلم وَالنَّسَائِيّ، وَقَول اللَّيْث وَمَالك أصح، وَيجوز أَن يكون ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ سَمعه من الثَّلَاثَة جَمِيعًا.

قَوْله العجماء مُبْتَدأ أَو قَوْله: جرحها بدل مِنْهُ وَخَبره قَوْله: جَبَّار وَالْجرْح هُنَا بِفَتْح الْجِيم مصدر، وَالْجرْح بِالضَّمِّ اسْم قَالَ القَاضِي: إِنَّمَا عبر بِالْجرْحِ لِأَنَّهُ الْأَغْلَب، أَو هُوَ مِثَال مِنْهُ على مَا عداهُ، وَأما الرِّوَايَة الَّتِي لم يذكر فِيهَا لفظ الْجرْح فَمَعْنَاه إِتْلَاف العجماء بِأَيّ وَجه كَانَ بِجرح أَو غَيره جَبَّار أَي: هدر لَا شَيْء فِيهِ والعجماء تَأْنِيث الْأَعْجَم وَهِي الْبَهِيمَة،.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: فسره بعض أهل الْعلم فَقَالُوا: العجماء الدَّابَّة المنفلتة من صَاحبهَا فَمَا أَصَابَت فِي انفلاتها فَلَا غرم على صَاحبهَا.
انْتهى.
وَاحْتج بِهِ أَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على أَنه لَا ضَمَان فِيمَا أتلفته الْبَهَائِم مُطلقًا سَوَاء فِيهِ الْجرْح وَغَيره، وَسَوَاء فِيهِ اللَّيْل وَالنَّهَار، وَسَوَاء كَانَ مَعهَا أَو لَا إلاَّ أَن يحملهَا الَّذِي مَعهَا على الْإِتْلَاف أَو يَقْصِدهُ فحينئذٍ يضمن لوُجُود التَّعَدِّي مِنْهُ، وَهُوَ قَول دَاوُد وَأهل الظَّاهِر،.

     وَقَالَ  مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: إِن كَانَ مَعهَا أحد من مَالك أَو مُسْتَأْجر أَو مستعير أَو مُودع أَو وَكيل أَو غَاصِب أَو غَيرهم وَجب عَلَيْهِ ضَمَان مَا أتلفته، وحملوا الحَدِيث على مَا إِذْ لم يكن مَعهَا أحد فأتلفت شَيْئا بِالنَّهَارِ أَو انفلتت بِاللَّيْلِ بِغَيْر تَفْرِيط من مَالِكهَا فأتلفت شَيْئا، وَلَيْسَ مَعهَا أحد.
وَأجَاب أَصْحَاب أبي حنيفَة: بِأَن الحَدِيث مُطلق عَام فَوَجَبَ الْعَمَل بِعُمُومِهِ، وَأما التَّعَدِّي فخارج عَنهُ.
قَوْله: والبئر جَبَّار قد مر تَفْسِيره آنِفا، وَفِي رِوَايَة مُسلم: والبئر جرحها جَبَّار، وَالْمرَاد بجرحها مَا يحصل للْوَاقِع فِيهَا من الْجراحَة،.

     وَقَالَ  ابْن الْعَرَبِيّ: اتّفقت الرِّوَايَات الْمَشْهُورَة على التَّلَفُّظ بالبئر وَجَاءَت رِوَايَة شَاذَّة بِلَفْظ: النَّار جَبَّار بنُون وَألف سَاكِنة قبل الرَّاء وَمَعْنَاهُ عِنْدهم أَن من استوقد نَارا مِمَّا يجوز لَهُ فتعدت حَتَّى أتلفت شَيْئا فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ.
قَالَ:.

     وَقَالَ  بَعضهم: صحفها بَعضهم لِأَن أهل الْيمن يَكْتُبُونَ النَّار بِالْيَاءِ لَا بِالْألف فَظن بَعضهم الْبِئْر بِالْبَاء الْمُوَحدَة: النَّار، بالنُّون فرواها كَذَلِك.
قَوْله: والمعدن جَبَّار قد مر تَفْسِيره.
قَوْله: وَفِي الرِّكَاز الْخمس بِكَسْر الرَّاء وَهُوَ مَا وجد من دفن الْجَاهِلِيَّة مِمَّا تجب فِيهِ الزَّكَاة من ذهب أَو فضَّة، أَي: مِقْدَار مَا تجب فِيهِ الزَّكَاة، وَهُوَ النّصاب فَإِنَّهُ يجب فِيهِ الْخمس على سَبِيل الزَّكَاة الْوَاجِبَة، كَذَا قَالَ شَيخنَا فِي شرح التِّرْمِذِيّ ثمَّ قَالَ: هَذَا عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد.
وَفِيه حجَّة على أبي حنيفَة وَغَيره من الْعِرَاقِيّين حَيْثُ: قَالُوا: الرِّكَاز هُوَ الْمَعْدن وجعلوهما لفظين مترادفين.
وَقد عطف الشَّارِع أَحدهمَا على الآخر، وَذكر لهَذَا حكما غير الحكم الَّذِي ذكره فِي الأول.
انْتهى.
قلت: الْمَعْدن هُوَ الرِّكَاز، فَلَمَّا أَرَادَ أَن يذكر لَهُ حكما آخر ذكره بِالِاسْمِ الآخر وَهُوَ: الرِّكَاز، وَلَو قَالَ: وَفِيه الْخمس بِدُونِ أَن يَقُول: وَفِي الرِّكَاز الْخمس لحصل الالتباس بِاحْتِمَال عود الضَّمِير إِلَى الْبِئْر، وَقد أورد أَبُو عمر فِي التَّمْهِيد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عمر.

     وَقَالَ  النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كنز وجده رجل: إِن كنت وجدته فِي قَرْيَة مسكونة، أَو فِي غير سَبِيل، أَو فِي سَبِيل ميتاء فَعرفهُ، وَإِن كنت وجدته فِي خربة جَاهِلِيَّة أَو فِي قَرْيَة غير مسكونة أَو فِي غير سَبِيل ميتاء، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَاز الْخمس.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: وَعطف الرِّكَاز على الْكَنْز دَلِيل على أَن الرِّكَاز غير الْكَنْز وَأَنه الْمَعْدن كَمَا يَقُوله أهل الْعرَاق، فَهُوَ حجَّة لمخالف الشَّافِعِي.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: الرِّكَاز وَجْهَان: فَالْمَال الَّذِي يُوجد مَدْفُونا لَا يعلم لَهُ مَالك ركاز، وعروق الذَّهَب وَالْفِضَّة ركاز.
قلت: وَعَن هَذَا قَالَ صَاحب الْهِدَايَة الرِّكَاز يُطلق على الْمَعْدن وعَلى المَال المدفون.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ: اخْتلف فِي تَفْسِير الرِّكَاز أهل الْعرَاق وَأهل الْحجاز، فَقَالَ أهل الْعرَاق: هِيَ الْمَعَادِن،.

     وَقَالَ  أهل الْحجاز: هِيَ كنوز أهل الْجَاهِلِيَّة، وكلٌّ مُحْتَمل فِي اللُّغَة، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْلهم: ركز فِي الأَرْض إِذا ثَبت أَصله.