فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الإبراد بالظهر في شدة الحر

( بابُُ الإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الحَرِّ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل الْإِبْرَاد بِصَلَاة الظّهْر عِنْد شدَّة الْحر، وسنفسر الْإِبْرَاد فِي الحَدِيث، وَإِنَّمَا قدم الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ على بابُُ وَقت الظّهْر للاهتمام بِهِ.


[ قــ :519 ... غــ :533]
- ( حَدثنَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان قَالَ حَدثنَا أَبُو بكر عَن سُلَيْمَان قَالَ صَالح بن كيسَان حَدثنَا الْأَعْرَج عبد الرَّحْمَن وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة وَنَافِع مولى عبد الله بن عمر عَن عبد الله بن عمر أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ إِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا بِالصَّلَاةِ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن المُرَاد بقوله " فأبردوا بِالصَّلَاةِ " هِيَ صَلَاة الظّهْر لِأَن الْإِبْرَاد إِنَّمَا يكون فِي وَقت يشْتَد الْحر فِيهِ وَذَلِكَ وَقت الظّهْر وَلِهَذَا صرح بِالظّهْرِ فِي حَدِيث أبي سعيد حَيْثُ قَالَ " أبردوا بِالظّهْرِ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم " على مَا يَأْتِي فِي آخر هَذَا الْبابُُ فَالْبُخَارِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي هَذِه التَّرْجَمَة.
( ذكر رِجَاله) وهم ثَمَانِيَة.
الأول أَيُّوب بن سُلَيْمَان بن بِلَال الْمدنِي مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي أَبُو بكر واسْمه عبد الحميد بن أبي أويس الأصبحي توفّي سنة ثِنْتَيْنِ وَمِائَة.
الثَّالِث سُلَيْمَان بن بِلَال وَالِد أَيُّوب الْمَذْكُور.
الرَّابِع صَالح بن كيسَان.
الْخَامِس الْأَعْرَج وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
السَّادِس نَافِع مولى ابْن عمر.
السَّابِع أَبُو هُرَيْرَة.
الثَّامِن عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا ( ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة التَّثْنِيَة من الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته كلهم مدنيون وَفِيه صحابيان وَثَلَاثَة من التَّابِعين وهم صَالح بن كيسَان فَإِنَّهُ رأى عبد الله بن عمر قَالَه الْوَاقِدِيّ والأعرج وَنَافِع.
وَفِيه أَن أَبَا بكر من أَقْرَان أَيُّوب قَوْله " وَغَيره " أَي وَغير الْأَعْرَج الظَّاهِر أَنه أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وروى أَبُو نعيم هَذَا الحَدِيث فِي الْمُسْتَخْرج من طَرِيق آخر عَن أَيُّوب بن سُلَيْمَان وَلم يقل فِيهِ وَغَيره قَوْله " وَنَافِع " بِالرَّفْع عطف على قَوْله الْأَعْرَج ( ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ " أَي أَن أَبَا هُرَيْرَة وَابْن عمر حَدثا من حدث صَالح بن كيسَان وَيحْتَمل أَن يعود الضَّمِير فِي أَنَّهُمَا إِلَى الْأَعْرَج وَنَافِع أَي أَن الْأَعْرَج ونافعا حَدَّثَاهُ أَي صَالح بن كيسَان عَن شيخيهما بذلك وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " أَنَّهُمَا حَدثا " بِغَيْر ضمير فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّقْدِير الْمَذْكُور قَوْله " إِذا اشْتَدَّ " من الاشتداد من بابُُ الافتعال وَأَصله اشتدد أدغمت الدَّال الأولى فِي الثَّانِيَة قَوْله " فأبردوا " بِفَتْح الْهمزَة من الْإِبْرَاد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْفَائِق حَقِيقَة الْإِبْرَاد الدُّخُول فِي الْبرد وَالْبَاء للتعدية وَالْمعْنَى إِدْخَال الصَّلَاة فِي الْبرد وَيُقَال مَعْنَاهُ افعلوها فِي وَقت الْبرد وَهُوَ الزَّمَان الَّذِي يتَبَيَّن فِيهِ شدَّة انكسار الْحر لِأَن شدته تذْهب الْخُشُوع.

     وَقَالَ  السفاقسي أبردوا أَي ادخُلُوا فِي وَقت الْإِبْرَاد مثل أظلم دخل فِي الظلام وَأمسى دخل فِي الْمسَاء.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ الْإِبْرَاد انكسار شدَّة حر الظهيرة وَذَلِكَ أَن فتور حرهَا بِالْإِضَافَة إِلَى وهج الهاجرة برد وَلَيْسَ ذَلِك بِأَن يُؤَخر إِلَى آخر برد النَّهَار وَهُوَ برد العشى إِذْ فِيهِ الْخُرُوج عَن قَول الْأَئِمَّة قَوْله " بِالصَّلَاةِ " وَفِي حَدِيث أبي ذَر الَّذِي يَأْتِي بعد هَذَا الحَدِيث " عَن الصَّلَاة " وَالْفرق بَينهمَا أَن الْبَاء هُوَ الأَصْل وَأما عَن فَفِيهِ تضمين معنى التَّأْخِير أَي أخروا عَنْهَا مبردين وَقيل هما بِمَعْنى وَاحِد لِأَن عَن تَأتي بِمَعْنى الْبَاء كَمَا يُقَال رميت عَن الْقوس أَي بِالْقَوْسِ وَقيل الْبَاء زَائِدَة وَالْمعْنَى أبردوا بِالصَّلَاةِ وَقَوله " بِالصَّلَاةِ " بِالْبَاء هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " عَن الصَّلَاة " كَمَا فِي حَدِيث أبي ذَر.

     وَقَالَ  بَعضهم فِي قَوْله " بِالصَّلَاةِ " الْبَاء للتعدية وَقيل زَائِدَة وَمعنى أبردوا أخروا على سَبِيل التَّضْمِين ( قلت) قَوْله للتعدية غير صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يجمع فِي تَعديَة اللَّازِم بَين الْهمزَة وَالْبَاء وَقَوله على سَبِيل التَّضْمِين أَيْضا غير صَحِيح لِأَن معنى التَّضْمِين فِي رِوَايَة عَن كَمَا ذكرنَا لَا فِي رِوَايَة الْبَاء فَافْهَم وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد من الصَّلَاة هِيَ صَلَاة الظّهْر قَوْله " فَإِن شدَّة الْحر " الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل أَرَادَ أَن عِلّة الْأَمر بالإبراد هِيَ شدَّة الْحر وَاخْتلف فِي حِكْمَة هَذَا التَّأْخِير فَقيل دفع الْمَشَقَّة لكَون شدَّة الْحر مِمَّا يذهب الْخُشُوع وَقيل لِأَنَّهُ وَقت تسجر فِيهِ جَهَنَّم كَمَا روى مُسلم من حَدِيث عَمْرو بن عبسة حَيْثُ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اقصر عَن الصَّلَاة عِنْد اسْتِوَاء الشَّمْس فَإِنَّهَا سَاعَة تسجر فِيهَا جَهَنَّم " انْتهى فَهَذِهِ الْحَالة ينتشر فِيهَا الْعَذَاب ( فَإِن قلت) الصَّلَاة سَبَب الرَّحْمَة وإقامتها مَظَنَّة دفع الْعَذَاب فَكيف أَمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَرْكِهَا فِي هَذِه الْحَالة ( قلت) أُجِيب عَنهُ بجوابين أَحدهمَا قَالَه الْيَعْمرِي بِأَن التَّعْلِيل إِذا جَاءَ من جِهَة الشَّارِع وَجب قبُوله وَإِن لم يفهم مَعْنَاهُ وَالْآخر من جِهَة أهل الْحِكْمَة وَهُوَ أَن هَذَا الْوَقْت وَقت ظُهُور الْغَضَب فَلَا ينجع فِيهِ الطّلب إِلَّا مِمَّن أذن لَهُ كَمَا فِي حَدِيث الشَّفَاعَة حَيْثُ اعتذر الْأَنْبِيَاء كلهم عَلَيْهِم السَّلَام للأمم بذلك سوى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ أذن لَهُ فِي ذَلِك.
قَوْله " من فيح جَهَنَّم " بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة وَهُوَ سطوع الْحر وفورانه وَيُقَال بِالْوَاو فوح وفاحت الْقُدْرَة تفوح إِذا غلت.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده فاح الْحر يفيح فيحا سَطَعَ وهاج وَيُقَال هَذَا خَارج مخرج التَّشْبِيه والتمثيل أَي كَأَنَّهُ فار جَهَنَّم فِي حرهَا وَيُقَال هُوَ حَقِيقَة وَهُوَ أَن نثار وهج الْحر فِي الأَرْض من فيح جَهَنَّم حَقِيقَة ويقوى هَذَا حَدِيث " اشتكت النَّار إِلَى رَبهَا " كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما لفظ جَهَنَّم فقد قَالَ قطرب زعم يُونُس أَنه اسْم أعجمي وَفِي الزَّاهِر لِابْنِ الْأَنْبَارِي قَالَ أَكثر النَّحْوِيين هِيَ أَعْجَمِيَّة لَا تجْرِي للتعريف والعجمة.

     وَقَالَ  أَنه عَرَبِيّ وَلم تجر للتعريف والتأنيث وَفِي المغيث هِيَ نعريب كهنام بالعبرانية وَذكره فِي الصِّحَاح فِي الرباعي ثمَّ قَالَ هُوَ مُلْحق بالخماسي لتشديد الْحَرْف الثَّالِث وَفِي الْمُحكم سميت جَهَنَّم لبعد قعرها وَلم يَقُولُوا فِيهَا جهنام وَيُقَال بِئْر جهنام بعيدَة القعر وَبِه سميت جَهَنَّم.

     وَقَالَ  أَبُو عَمْرو جهنام اسْم وَهُوَ الغليظ الْبعيد القعر ( ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) وَهُوَ على وُجُوه.
الأول أَن فِيهِ الْأَمر بالإبراد فِي صَلَاة الظّهْر وَاخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة هَذَا الْأَمر فَحكى القَاضِي عِيَاض وَغَيره أَن بَعضهم ذهب إِلَى أَن الْأَمر فِيهِ للْوُجُوب.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي ( فَإِن قلت) ظَاهر الْأَمر للْوُجُوب فَلم قلت للاستحبابُ ( قلت) للْإِجْمَاع على عَدمه.

     وَقَالَ  بَعضهم وغفل الْكرْمَانِي فَنقل الْإِجْمَاع على عدم الْوُجُوب ( قلت) لَا يُقَال أَنه غفل بل الَّذين نقل عَنْهُم فِيهِ الْإِجْمَاع كَأَنَّهُمْ لم يعتبروا كَلَام من ادّعى الْوُجُوب فَصَارَ كَالْعدمِ وَأَجْمعُوا على أَن الْأَمر للاستحبابُ ( فَإِن قلت) مَا الْقَرِينَة الصارفة عَن الْوُجُوب وَظَاهر الْكَلَام يَقْتَضِيهِ ( قلت) لما كَانَت الْعلَّة فِيهِ دفع الْمَشَقَّة عَن الْمُصَلِّي لشدَّة الْحر وَكَانَ ذَلِك للشفقة عَلَيْهِ فَصَارَ من بابُُ النَّفْع لَهُ فَلَو كَانَ للْوُجُوب يصير عَلَيْهِ وَيعود الْأَمر على مَوْضِعه بِالنَّقْضِ وَفِي التَّوْضِيح اخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْإِبْرَاد بِالصَّلَاةِ فَمنهمْ من لم يره وَتَأَول الحَدِيث على إيقاعها فِي برد الْوَقْت وَهُوَ أَوله وَالْجُمْهُور من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم على القَوْل بِهِ ثمَّ اخْتلفُوا فَقيل أَنه عَزِيمَة وَقيل وَاجِب تعويلا على صِيغَة الْأَمر وَقيل رخصَة وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ وَصَححهُ الشَّيْخ أَبُو عَليّ من الشَّافِعِيَّة وَأغْرب النَّوَوِيّ فوصفه فِي الرَّوْضَة بالشذوذ لكنه لم يحكه قولا وبنوا على ذَلِك أَن من صلى فِي بَيته أَو مَشى فِي كن إِلَى الْمَسْجِد هَل يسن لَهُ الْإِبْرَاد إِن قُلْنَا رخصَة لم يسن لَهُ إِذْ لَا مشقة عَلَيْهِ فِي التَّعْجِيل وَإِن قُلْنَا سنة أبرد وَهُوَ الْأَقْرَب لوُرُود الْأَثر بِهِ مَعَ مَا اقْترن بِهِ من الْعلَّة من أَن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم.

     وَقَالَ  صَاحب الْهِدَايَة من أَصْحَابنَا يسْتَحبّ الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ فِي أَيَّام الصَّيف وَيسْتَحب تَقْدِيمه فِي أَيَّام الشتَاء ( فَإِن قلت) يُعَارض حَدِيث الْإِبْرَاد حَدِيث إِمَامَة جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن إِمَامَته فِي الْعَصْر فِي الْيَوْم الأول فِيمَا إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله فَدلَّ ذَلِك على خُرُوج وَقت الظّهْر وَحَدِيث الْإِبْرَاد دلّ على عدم خُرُوج وَقت الظّهْر لِأَن امتداد الْحر فِي دِيَارهمْ فِي ذَلِك الْوَقْت ( قلت) الْآثَار إِذا تَعَارَضَت لَا يَنْقَضِي الْوَقْت الثَّابِت بِيَقِين بِالشَّكِّ وَمَا لم يكن ثَابتا بِيَقِين هُوَ وَقت الْعَصْر لَا يثبت بِالشَّكِّ ( فَإِن قلت) هَل فِي الْإِبْرَاد تَحْدِيد ( قلت) روى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ قدر صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظّهْر فِي الصَّيف ثَلَاثَة أَقْدَام إِلَى خَمْسَة أَقْدَام وَفِي الشتَاء خَمْسَة أَقْدَام إِلَى سَبْعَة أَقْدَام فَهَذَا يدل على التَّحْدِيد.
اعْلَم أَن هَذَا الْأَمر مُخْتَلف فِي الأقاليم والبلدان وَلَا يَسْتَوِي فِي جَمِيع المدن والأمصار وَذَلِكَ لِأَن الْعلَّة فِي طول الظل وقصره هُوَ زِيَادَة ارْتِفَاع الشَّمْس فِي السَّمَاء وانحطاطها فَكلما كَانَت أَعلَى وَإِلَى محاذاة الرؤس فِي مجْراهَا أقرب كَانَ الظل أقصر وَكلما كَانَت أَخفض وَمن محاذاة الرؤس أبعد كَانَ الظل أطول وَلذَلِك ظلال الشتَاء ترَاهَا أبدا أطول من ظلال الصَّيف فِي كل مَكَان وَكَانَت صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّة وَالْمَدينَة وهما من الإقليم الثَّانِي ثَلَاثَة أَقْدَام ويذكرون أَن الظل فيهمَا فِي أول الصَّيف فِي شهر أدَار ثَلَاثَة أَقْدَام وَشَيْء وَيُشبه أَن تكون صلَاته إِذا اشْتَدَّ الْحر مُتَأَخِّرَة عَن الْوَقْت الْمَعْهُود قبله فَيكون الظل عِنْد ذَلِك خَمْسَة أَقْدَام وَأما الظل فِي الشتَاء فَإِنَّهُم يذكرُونَ أَنه فِي تشرين الأول خَمْسَة أَقْدَام وَشَيْء وَفِي الكانون سَبْعَة أَقْدَام أَو سَبْعَة وَشَيْء فَقَوْل ابْن مَسْعُود منزل على هَذَا التَّقْدِير فِي ذَلِك الإقليم دون سَائِر الأقاليم والبلدان الَّتِي هِيَ خَارِجَة عَن الإقليم الثَّانِي وَفِي التَّوْضِيح اخْتلف فِي مِقْدَار وقته فَقيل أَن يُؤَخر الصَّلَاة عَن أول الْوَقْت مِقْدَار مَا يظْهر للحيطان ظلّ وَظَاهر النَّص أَن الْمُعْتَبر أَن ينْصَرف مِنْهَا قبل آخر الْوَقْت وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي ذَر " حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول ".

     وَقَالَ  مَالك أَنه يُؤَخر الظّهْر إِلَى أَن يصير الْفَيْء ذِرَاعا وَسَوَاء فِي ذَلِك الصَّيف والشتاء.

     وَقَالَ  أَشهب فِي مدونته لَا يُؤَخر الظّهْر إِلَى آخر وَقتهَا.

     وَقَالَ  ابْن بزيزة ذكر أهل النَّقْل عَن مَالك أَنه كره أَن يصلى الظّهْر فِي أول الْوَقْت وَكَانَ يَقُول هِيَ صَلَاة الْخَوَارِج وَأهل الْأَهْوَاء وَأَجَازَ ابْن عبد الحكم التَّأْخِير إِلَى آخر الْوَقْت وَحكى أَبُو الْفرج عَن مَالك أول الْوَقْت أفضل فِي كل صَلَاة إِلَّا الظّهْر فِي شدَّة الْحر وَعَن أبي حنيفَة والكوفيين وَأحمد واسحق يؤخرها حَتَّى يبرد الْحر الْوَجْه الثَّانِي أَن بعض النَّاس استدلوا بقوله " فأبردوا بِالصَّلَاةِ " على أَن الْإِبْرَاد يشرع فِي يَوْم الْجُمُعَة أَيْضا لِأَن لفظ الصَّلَاة يُطلق على الظّهْر وَالْجُمُعَة وَالتَّعْلِيل مُسْتَمر فِيهَا وَفِي التَّوْضِيح اخْتلف فِي الْإِبْرَاد بِالْجمعَةِ على وَجْهَيْن لِأَصْحَابِنَا أصَحهمَا عِنْد جمهورهم لَا يشرع وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك أَيْضا فَإِن التبكير سنة فِيهَا انْتهى ( قلت) مَذْهَبنَا أَيْضا التبكير يَوْم الْجُمُعَة لما ثَبت فِي الصَّحِيح أَنهم كَانُوا يرجعُونَ من صَلَاة الْجُمُعَة وَلَيْسَ للحيطان ظلّ يَسْتَظِلُّونَ بِهِ من شدَّة التبكير لَهَا أول الْوَقْت فَدلَّ على عدم الْإِبْرَاد وَالْمرَاد بِالصَّلَاةِ فِي الحَدِيث الظّهْر كَمَا ذكرنَا فعلى هَذَا لَا يبرد بالعصر إِذا اشْتَدَّ الْحر فِيهِ.

     وَقَالَ  ابْن بزيزة إِذا اشْتَدَّ الْحر فِي الْعَصْر هَل يبرد بهَا أم لَا الْمَشْهُور نفي الْإِبْرَاد بهَا وَتفرد أَشهب بإبراده.

     وَقَالَ  أَيْضا وَهل يبرد الفذام لَا وَالظَّاهِر أَن الْإِبْرَاد مَخْصُوص بِالْجَمَاعَة وَهل يبرد فِي زمن الشتَاء أم لَا فِيهِ قَولَانِ وَالظَّاهِر نَفْيه وَهل يبرد بِالْجمعَةِ أم لَا الْمَشْهُور نَفْيه الْوَجْه الثَّالِث فِيهِ دَلِيل على وجود جَهَنَّم الْآن


[ قــ :50 ... غــ :535]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ المُهَاجِرِ أبي الحَسَنِ سَمِعَ زَيْدَ بنَ وَهَبٍ عنْ أبي ذَرٍّ قَالَ أذَّنَ مُؤَذِّنُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ فَقَالَ أبْرِدْ أَبْرِدْ أوْ قَالَ انْتَظِرْ انْتَظِرْ.

     وَقَالَ  شِدَّة الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فإذَ اشْتَدَّ الحَرُّ فأَبْرِدُوا عنِ الصَّلاَةِ حَتى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار الملقب ببندار، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: غنْدر، وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، ابْن امْرَأَة شُعْبَة، وَقد تقدم.
الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الرَّابِع: المُهَاجر، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من بابُُ المفاعلة، ويكنى بِأبي الْحسن.
الْخَامِس: زيد بن وهب أَبُو سُلَيْمَان الْهَمدَانِي الْجُهَنِيّ.
قَالَ: رحلت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقبض وَأَنا فِي الطَّرِيق، مَاتَ زمن الْحجَّاج.
السَّادِس: أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، واسْمه: جُنْدُب بن جُنَادَة على الْمَشْهُور.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي.
وَفِيه: ذكر أحد الروَاة بلقبه وَالْآخر بكنيته وَهُوَ المُهَاجر.
فَإِن كنيته أَبُو الْحسن ذكرت للتمييز، فَإِن فِي الروَاة الْمُهَاجِرين مِسْمَار الْمدنِي من أَفْرَاد مُسلم، وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للمح الصّفة، كَمَا فِي: الْعَبَّاس، فَإِنَّهُ فِي الأَصْل صفة وَلكنه صَار علما.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن آدم وَعَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَفِي صفة النَّار عَن أبي الْوَلِيد، كلهم عَن شُعْبَة عَن مهَاجر أبي الْحسن وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى عَن غنْدر بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي الْوَلِيد بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن أبي دَاوُد عَن شُعْبَة بِمَعْنَاهُ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( أذن مُؤذن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هُوَ: بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي بعض طرفَة: أذن بِلَال، أخرجه أَبُو عوَانَة.
وَفِي أُخْرَى لَهُ: ( فَأَرَادَ أَن يُؤذن فَقَالَ: مَه يَا بِلَال) .
قَوْله: ( الظّهْر) بِالنّصب، أَي: وَقت الظّهْر، وَلما حذف الْمُضَاف الْمَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة اقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه.
قَوْله: ( فَقَالَ: أبرد أبرد) يَعْنِي مرَّتَيْنِ، وَفِي لفظ أبي دَاوُد: ( فَأَرَادَ الْمُؤَذّن أَن يُؤذن الظّهْر، فَقَالَ: أبرد ثمَّ أبرد، ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن فَقَالَ: أبرد، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) .
قَوْله: ( عَن الصَّلَاة) ، قد ذكرنَا وَجه: عَن، هُنَا فِي الحَدِيث السَّابِق، قَوْله: ( حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول) ، التلول جمع: تل.
قَالَ ابْن سَيّده: من التُّرَاب مَعْرُوف، والتل من الرمل: كومة مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا من التل الَّذِي هُوَ القاذي جثة، والتل الرابية.
وَفِي ( الْجَامِع) للقزاز: التل من التُّرَاب وَهِي الرابية مِنْهُ تكون مكدوسا وَلَيْسَ بِحَلقَة، والفيء فِيمَا ذكره ثَعْلَب فِي ( الفصيح) يكون بالْعَشي، كَمَا أَن الظل يكون بِالْغَدَاةِ، وَأنْشد:
( فَلَا الظل من برد الضُّحَى تستطيعه ... وَلَا الْفَيْء من برد الْعشي تذوق)

قَالَ:.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: قَالَ رؤبة بن العجاج: كل مَا كَانَت عَلَيْهِ الشَّمْس فَزَالَتْ فَهُوَ فَيْء وظل، وَمَا لم يكن عَلَيْهِ شمس فَهُوَ ظلّ.
وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: الظل مَا نسخته الشَّمْس، والفيء مَا نسخ الشَّمْس.
.

     وَقَالَ  الْقَزاز: الْفَيْء رُجُوع الظل من جَانب الْمشرق إِلَى جَانب الْمغرب.
وَفِي ( الْمُخَصّص) و: الْجمع أفياء وفيوء، وَقد فَاء الْفَيْء فيأَ: تحول، وَهُوَ مَا كَانَ شمسا، فنسخه الظل.
وَقيل: الْفَيْء لَا يكون إلاَّ بعد الزَّوَال، وَأما الظل فيطلق على مَا قبل الزَّوَال، وَأما بعده، وروى فِيهِ: فِي، بتَشْديد الْيَاء.
وَاعْلَم أَن كلمة: حَتَّى، للغاية، وَلَا بُد لَهَا من المغيا وَهُوَ مُتَعَلق: بقال، أَي: كَانَ يَقُول إِلَى زمَان الرُّؤْيَة أبرد مرّة بعد أُخْرَى، أَو هُوَ مُتَعَلق بالإبراد، أَي: أبرد إِلَى أَن ترى الْفَيْء وانتظر إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يكون مُتَعَلقا بمقدر مَحْذُوف تَقْدِيره: أخرنا حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دلَالَة على أَن الْأَمر بالإبراد كَانَ بعد التأذين، وَلَكِن فِي لفظ آخر للْبُخَارِيّ: ( فَأَرَادَ أَن يُؤذن لِلظهْرِ) .
وَظَاهر هَذَا الْأَمر بالإبراد وَقع قبل الْأَذَان.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: يجمع بَينهمَا على أَنه شرع فِي الآذان، فَقيل لَهُ: أبرد، فَترك.
فَمَعْنَى: أذن، شرع فِي الْأَذَان، وَمعنى: أَرَادَ أَن يُؤذن، أَي: يتم بِهِ الْأَذَان.
قلت: هَذَا غير سديد لِأَنَّهُ لَا يُؤمر بِتَرْكِهِ بعد الشُّرُوع، وَلَكِن مَعْنَاهُ: أَرَادَ أَن يشرع فِي الْأَذَان، فَقيل لَهُ: أبرد، فَترك الشُّرُوع.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ لفظ أَبُو عوَانَة: فَأَرَادَ أَن يُؤذن، فَقَالَ: مَه يَا بِلَال.
كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَمَعْنَاهُ: اسْكُتْ لَا تشرع فِي الْأَذَان، وَالْأَقْرَب فِي هَذَا أَن يحمل اللفظان على حالتين فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر الْجمع بَينهمَا.





[ قــ :5 ... غــ :536]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ (انْظُر الحَدِيث 533) .
واشتكت النَّار إِلَى رَبهَا فَقَالَت يَا رب أكل بَعْضِي بَعْضًا فَأذن لَهَا بنفسين نفس فِي الشتَاء وَنَفس فِي الصَّيف فَهُوَ أَشد مَا تَجِدُونَ من الْحر وَأَشد مَا تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِير) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
(ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.
(ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه القَوْل وَالْحِفْظ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدثنَا الزُّهْرِيّ وَرِوَايَة البُخَارِيّ أبلغ لِأَن حفظ الحَدِيث عَن شيخ فَوق مُجَرّد سَمَاعه مِنْهُ وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
(ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله كِلَاهُمَا عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " اشتكت النَّار " قيل أَنه مَوْقُوف وَقيل أَنه مُعَلّق وَهُوَ غير صَحِيح بل هُوَ دَاخل فِي الْإِسْنَاد الْمَذْكُور وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ " واشتكت النَّار " أَي قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اشتكت النَّار وشكوى النَّار إِلَى رَبهَا يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون بطرِيق الْحَقِيقَة وَإِلَيْهِ ذهب عِيَاض.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ لَا إِحَالَة فِي حمل اللَّفْظ على الْحَقِيقَة لِأَن الْمخبر الصَّادِق بِأَمْر جَائِز لَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيله فَحَمله على حَقِيقَته أولى.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ نَحْو ذَلِك ثمَّ قَالَ حمله على حَقِيقَته هُوَ الصَّوَاب.

     وَقَالَ  نَحْو ذَلِك الشَّيْخ التوربشتي (قلت) قدرَة الله تَعَالَى أعظم من ذَلِك لِأَنَّهُ يخلق فِيهَا آلَة الْكَلَام كَمَا خلق لهدهد سُلَيْمَان مَا خلق من الْعلم والإدراك كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم وَحكى عَن النَّار حَيْثُ تَقول { هَل من مزِيد} وَورد أَن الْجنَّة إِذا سَأَلَهَا عبد أمنت على دُعَائِهِ وَكَذَا النَّار.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنِير حمله على الْحَقِيقَة هُوَ الْمُخْتَار لصلاحية الْقُدْرَة لذَلِك وَلِأَن اسْتِعَارَة الْكَلَام للْحَال وَإِن عهِدت وَسمعت لَكِن الشكوى وتفسيرها وَالتَّعْلِيل لَهُ وَالْإِذْن وَالْقَبُول والتنفس وقصره على اثْنَيْنِ فَقَط بعيد من الْمجَاز خَارج عَمَّا ألف من اسْتِعْمَاله.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ وَهُوَ يدل على أَن النَّار تفهم وتعقل وَقد جَاءَ أَنه لَيْسَ شَيْء أسمع من الْجنَّة وَالنَّار وَقد ورد أَن النَّار تخاطب سيدنَا مُحَمَّدًا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتخاطب الْمُؤمن بقولِهَا " جز يَا مُؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون بِلِسَان الْحَال كَمَا قَالَ عنترة
(وشكى إِلَيّ بعبرة وتحمحم ... )
وَقَالَ الآخر
(يشكو إِلَيّ جملي طول السرى ... مهلا رويدا فكلانا مبتلى)
وَرجع الْبَيْضَاوِيّ حمله على الْمجَاز فَقَالَ شكوها مجَاز عَن غليانها وأكلها بَعْضهَا بَعْضًا مجَاز عَن ازدحام أَجْزَائِهَا وتنفسها مجَاز عَن خُرُوج مَا يبرز مِنْهَا قَوْله " بنفسين " تَثْنِيَة نفس بِفَتْح الْفَاء وَهُوَ مَا يخرج من الْجوف وَيدخل فِيهِ من الْهَوَاء قَوْله " نفس " فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْجَرِّ على الْبَدَل أَو الْبَيَان وَيجوز فيهمَا الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالتَّقْدِير أَحدهمَا نفس فِي الشتَاء وَالْآخر نفس فِي الصَّيف وَيجوز فيهمَا النصب على تَقْدِير أَعنِي نفسا فِي الشتَاء ونفسا فِي الصَّيف قَوْله " أَشد مَا تَجِدُونَ " بجر أَشد على أَنه بدل من نفس أَو بَيَان ويروى بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي هُوَ أَشد مَا تَجِدُونَ.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيّ هُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره فَذَلِك أَشد.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ جعل أَشد مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أولى وَالتَّقْدِير أَشد مَا تَجِدُونَ من الْحر من ذَلِك النَّفس انْتهى وَيُؤَيّد الْوَجْه الأول رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ فَهُوَ أَشد وَيُؤَيّد الْوَجْه الثَّانِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من وَجه آخر بِلَفْظ " فأشد مَا تَجِدُونَ من الْحر من حر جَهَنَّم " وَفِي اللَّفْظ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ لف وَنشر على غير التَّرْتِيب وَلَا مَانع من حُصُول الزَّمْهَرِير من نفس النَّار لِأَن المُرَاد من النَّار محلهَا وَهُوَ جَهَنَّم وفيهَا طبقَة زمهريرية وَيُقَال لَا مُنَافَاة فِي الْجمع بَين الْحر وَالْبرد فِي النَّار لِأَن النَّار عبارَة عَن جَهَنَّم وَقد ورد أَن فِي بعض زواياها نَارا وَفِي الْأُخْرَى الزَّمْهَرِير وَلَيْسَ محلا وَاحِدًا يَسْتَحِيل أَن يجتمعا فِيهِ (قلت) الَّذِي خلق الْملك من ثلج ونار قَادر على جمع الضدين فِي مَحل وَاحِد وَأَيْضًا فَالنَّار من أُمُور الْآخِرَة وَأُمُور الْآخِرَة لَا تقاس على أُمُور الدُّنْيَا وَفِي التَّوْضِيح قَالَ ابْن عَبَّاس خلق الله النَّار على أَرْبَعَة فَنَار تَأْكُل وتشرب ونار لَا تَأْكُل وَلَا تشرب ونار تشرب وَلَا تَأْكُل وَعَكسه فَالْأولى الَّتِي خلقت مِنْهَا الْمَلَائِكَة وَالثَّانيَِة الَّتِي فِي الْحِجَارَة وَقيل الَّتِي رؤيت لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَيْلَة الْمُنَاجَاة وَالثَّالِثَة الَّتِي فِي الْبَحْر وَقيل الَّتِي خلقت مِنْهَا الشَّمْس وَالرَّابِعَة نَار الدُّنْيَا ونار جَهَنَّم تَأْكُل لحومهم وعظامهم وَلَا تشرب دموعهم وَلَا دِمَاءَهُمْ بل يسيل ذَلِك إِلَى طين الخبال وَأخْبر الشَّارِع أَن عصارة أهل النَّار شراب من مَاتَ مصرا على شرب الْخمر وَالَّذِي فِي الصَّحِيح أَن نَار الدُّنْيَا خلقت من نَار جَهَنَّم.
.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس ضربت بِالْمَاءِ سبعين مرّة وَلَوْلَا ذَلِك مَا انْتفع بهَا الْخَلَائق وَإِنَّمَا خلقهَا الله تَعَالَى لِأَنَّهَا من تَمام الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة وفيهَا تذكرة لنار الْآخِرَة وتخويف من عَذَابهَا (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ اسْتِحْبابُُ الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ عِنْد اشتداد الْحر فِي الصَّيف وَفِيه أَن جَهَنَّم مخلوقة الْآن خلافًا لمن يَقُول من الْمُعْتَزلَة أَنَّهَا تخلق يَوْم الْقِيَامَة.
وَفِيه أَن الشكوى تتَصَوَّر من جماد وَمن حَيَوَان أَيْضا كَمَا جَاءَ فِي معجزات النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شكوى الْجذع وشكوى الْجمل على مَا عرف فِي مَوْضِعه.
وَفِيه أَن المُرَاد من قَوْله " فأبردوا بِالصَّلَاةِ " هُوَ صَلَاة الظّهْر كَمَا ذَكرْنَاهُ


[ قــ :53 ... غــ :537]
حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَش قَالَ حدَّثنا أبُو صَالِحٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ منْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.
( الحَدِيث 538 طرفه فِي: 359) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تقدمُوا غير مرّة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان وَأَبُو صَالح ذكْوَان.
وَمن لطائف إِسْنَاده أَن فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة، وَبَين حَدِيث خباب ( شَكَوْنَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فَلم يشكنا) ، رَوَاهُ مُسلم؛ فَقَالَ بَعضهم: الْإِبْرَاد رخصَة والتقديم أفضل،.

     وَقَالَ  بَعضهم: حَدِيث خباب مَنْسُوخ بالإبراد، وَإِلَى هَذَا مَال أَبُو بكر الْأَثْرَم فِي كتاب ( النَّاسِخ والمنسوخ) وَأَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ،.

     وَقَالَ : وجدنَا ذَلِك فِي حديثين أَحدهمَا حَدِيث الْمُغيرَة: ( كُنَّا نصلي بالهاجرة فَقَالَ لنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبردوا) .
فَتبين بهَا أَن الْإِبْرَاد كَانَ بعد التهجير، وَحَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا كَانَ الْبرد بَكرُوا، وَإِذا كَانَ الْحر أبردوا.
وَحمل بَعضهم حَدِيث خباب على أَنهم طلبُوا تَأْخِيرا زَائِدا على قدر الْإِبْرَاد.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر فِي قَول خباب: فَلم يشكنا، يَعْنِي: لم يحوجنا إِلَى الشكوى، وَقيل: لم يزل شكوانا، وَيُقَال: حَدِيث خباب كَانَ بِمَكَّة، وَحَدِيث الْإِبْرَاد بِالْمَدِينَةِ، فَإِن فِيهِ من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة.
.

     وَقَالَ  الْخلال فِي ( علله) عَن أَحْمد: آخر الْأَمريْنِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِبْرَاد.
تابَعَهُ سُفْيَانُ وَيَحْيَى وأبُو عَوَانَةَ عنِ الأَعْمَشِ أَي: تَابع حَفْص بن غياث وَالِد عمر الْمَذْكُور سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي صفة الصَّلَاة عَن الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان ابْن سعيد.
قَوْله: ( وَيحيى) ، أَي: تَابع حفصا أَيْضا يحيى بن سعيد الْقطَّان، وَقد وَصله أَحْمد فِي ( مُسْند) عَنهُ بِلَفْظ: الصَّلَاة، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يعلى عَن الْمقدمِي عَن يحيى بِلَفْظ: بِالظّهْرِ، وروى الْخلال عَن الْمَيْمُونِيّ عَن أَحْمد عَن يحيى وَلَفظه: ( فوح جَهَنَّم) .
.

     وَقَالَ  أَحْمد: مَا أعرف أَن أحدا قَالَ: بِالْوَاو، وَغير الْأَعْمَش.
قَوْله: ( وَأَبُو عوَانَة) أَي: تَابع حفصا أَيْضا أَبُو عوَانَة الوضاح ابْن عبد الله، وَأَرَادَ بمتابعة سُفْيَان الثَّوْريّ وَيحيى الْقطَّان وَأبي عوَانَة لحفص بن غياث فِي روايتهم عَن الْأَعْمَش فِي لفظ: ( أبردوا بِالظّهْرِ) .