فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب وقت العصر

( بابُُ وَقْتِ العَصْرِ.
وقَالَ أبُو أُسامَةَ عنْ هِشَامٍ منْ قَعْرِ حُجْرَتِهَا)


أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان وَقت صَلَاة الْعَصْر.

والمناسبة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهِرَة، خُصُوصا بَين هَذَا الْبابُُ وَالَّذِي قبله.



[ قــ :529 ... غــ :544]
- حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عَيَّاضٍ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي العَصْرَ والشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي بابُُ مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي آخر حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة مُعَلّقا حَيْثُ قَالَ: قَالَ عُرْوَة: ( وَلَقَد حَدَّثتنِي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا قبل أَن تظهر) ، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ معنى الحَدِيث، وَهِشَام فِيهِ هُوَ: هِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
قَوْله: ( وَالشَّمْس) الْوَاو: فِيهِ للْحَال.
قَوْله: ( من حُجْرَتهَا) أَي: من حجرَة عَائِشَة، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: من حُجْرَتي،.

     وَقَالَ  بَعضهم: فِيهِ نوع الْتِفَات.
قلت: لَيْسَ الْتِفَات هُنَا، وَلَا يصدق عَلَيْهِ حد الِالْتِفَات، وَإِنَّمَا هُوَ من بابُُ التَّجْرِيد، فَكَأَنَّهَا جردت وَاحِدَة من النِّسَاء وأثبتت لَهَا حجرَة وأخبرت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس لم تخرج من حُجْرَتهَا، وَفِيه: الْمجَاز أَيْضا، لِأَن المُرَاد من الشَّمْس ضوؤها، لِأَن عين الشَّمْس لَا تدخل حَتَّى تخرج.
.



[ قــ :530 ... غــ :545]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ قالَ حدَّثنااللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى العَصْرَ والشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ منْ حُجْرَتِهَا.
.


قُتَيْبَة هُوَ ابْن سعيد، وَاللَّيْث بن سعد، وأبن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير، كلهم قد ذكرُوا غير مرّة.

وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين بلخي وبصري ومدني.

قَوْله: ( وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا) أَي: بَاقِيَة، و: الْوَاو، فِيهِ للْحَال.
قَوْله: ( لم يظْهر الْفَيْء) أَي: الظل، فِي الْموضع الَّذِي كَانَت الشَّمْس فِيهِ، وَقد مر فِي بابُُ الْمَوَاقِيت وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا قبل أَن تظهر، وَمعنى الظُّهُور هُنَا الصعُود.
يُقَال: ظَهرت على الشَّيْء إِذا علوته، وحجرة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت ضيقَة الرقعة، وَالشَّمْس تقلص عَنْهَا سَرِيعا، وَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْعَصْر قبل أَن تصعد الشَّمْس عَنْهَا.
فَإِن قلت: مَا المُرَاد بِظُهُور الشَّمْس وبظهور الْفَيْء؟ قلت: المُرَاد بِظُهُور الشَّمْس: خُرُوجهَا من الْحُجْرَة، وبظهور الْفَيْء: انبساطه فِي الْحُجْرَة، وَلَيْسَ بَين الرِّوَايَتَيْنِ اخْتِلَاف، لِأَن انبساط الْفَيْء لَا يكون، إلاَّ بعد خُرُوج الشَّمْس، وَاسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي وَمن تبعه على تَعْجِيل صَلَاة الْعَصْر فِي أول وَقتهَا.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: لَا دلَالَة فِيهِ على التَّعْجِيل لاحْتِمَال أَن الْحُجْرَة كَانَت قَصِيرَة الْجِدَار، فَلم تكن الشَّمْس تحتجب عَنْهَا إلاَّ بِقرب غُرُوبهَا، فَيدل على التَّأْخِير لَا على التَّعْجِيل.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَتعقب بِأَن الَّذِي ذكره من الِاحْتِمَال إِنَّمَا يتَصَوَّر مَعَ اتساع الْحُجْرَة، وَقد عرف بالاستفاضة والمشاهدة أَن حجر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تكن متسعة، وَلَا يكون ضوء الشَّمْس بَاقِيا فِي قَعْر الْحُجْرَة الصَّغِيرَة إلاَّ وَالشَّمْس قَائِمَة مُرْتَفعَة، وإلاَّ مَتى مَالَتْ جدا ارْتَفع ضوؤها عَن قاع الْحُجْرَة، وَلَو كَانَت الْجدر قَصِيرَة.
قلت: لَا وَجه للتعقب فِيهِ لِأَن الشَّمْس لَا تحتجب عَن الْحُجْرَة القصيرة الْجِدَار إلاَّ بِقرب غُرُوبهَا، وَهَذَا يعلم بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يحْتَاج إِلَى المكابرة، وَلَا دخل هُنَا لاتساع الْحُجْرَة وَلَا لضيقها، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي قصر جدرها، وبالنظر على هَذَا فَالْحَدِيث حجَّة على من يرى تَعْجِيل الْعَصْر فِي أول وَقتهَا.
فَإِن قلت: عقد البُخَارِيّ بابُُا لوقت الْعَصْر وَذكر فِيهِ أَحَادِيث لَا يدل وَاحِد مِنْهَا على أَن أول وقته بِمَاذَا يكون؟ بصيرورة ظلّ كل شَيْء مثله أَو مثلَيْهِ؟ قلت: قَالَ بَعضهم: لم يَقع لَهُ حَدِيث فِي شَرطه على تعْيين ذَلِك، فَذكر الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة الدَّالَّة على ذَلِك بطرِيق الاستنباط قلت: لَا يلْزم من عدم وُقُوعه لَهُ أَن لَا يَقع لغيره فِي تعْيين ذَلِك.

وَقد روى جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي هَذَا الْبابُُ، مِنْهُم ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أمني جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عِنْد الْبَيْت مرَّتَيْنِ) الحَدِيث.
وَفِيه: ( صلى بِي الْعَصْر حِين كَانَ ظله مثله) .
هَذَا فِي الْمرة الأولى،.

     وَقَالَ  فِي الثَّانِيَة: ( وَصلى بِي الْعَصْر حِين كَانَ ظله مثلَيْهِ) .
أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ،.

     وَقَالَ : حَدِيث حسن.
وَأخرجه ابْن حبَان فِي ( صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي ( مُسْتَدْركه) .

     وَقَالَ : صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه،.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر فِي ( التَّمْهِيد) : وَقد تكلم بعض النَّاس فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا بِكَلَام لَا وَجه لَهُ، وَرُوَاته كلهم مَشْهُورُونَ بِالْعلمِ.
قلت: هَذَا الحَدِيث هُوَ الْعُمْدَة فِي هَذَا الْبابُُ.
وَقَوله: ( حِين كَانَ ظله مثلَيْهِ) ، بالتثنية، وَهَذَا آخر وَقت الظّهْر عِنْد أبي حنيفَة، لِأَن عِنْده: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ سوى فَيْء الزَّوَال يخرج وَقت الظّهْر، وَيدخل وَقت الْعَصْر، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله يخرج وَقت الظّهْر وَيدخل وَقت الْعَصْر، وَهِي رِوَايَة الْحسن بن زِيَاد عَنهُ، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالثَّوْري وَإِسْحَاق، وَلَكِن قَالَ الشَّافِعِي: آخر وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ لمن لَيْسَ لَهُ عذر، وَأما أَصْحَاب الْعذر والضرورات فآخر وَقتهَا لَهُم غرُوب الشَّمْس.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: خَالف النَّاس كلهم أَبَا حنيفَة فِيمَا قَالَه حَتَّى أَصْحَابه.
قلت: إِذا كَانَ اسْتِدْلَال أبي حنيفَة بِالْحَدِيثِ فَمَا يضرّهُ مُخَالفَة النَّاس لَهُ، وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه أَبُو حنيفَة حَدِيث عَليّ بن شَيبَان، قَالَ: ( قدمنَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فَكَانَ يُؤَخر الْعَصْر مَا دَامَت الشَّمْس بَيْضَاء نقية) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر عِنْد صيرورة ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَهُوَ حجَّة على خَصمه.
وَحَدِيث جَابر: ( صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَصْر حِين صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ قدر مَا يسير الرَّاكِب إِلَى ذِي الحليفة الْعُنُق) ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ.
وَقَالَ أبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ منْ قَعْرِ حُجْرَتِهَا
هَذَا التَّعْلِيق وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي وكريمة على رَأس الحَدِيث الَّذِي عقيب الْبابُُ، وَالصَّوَاب وُقُوعه هَهُنَا، وأسنده الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن مَاجَه، وَغَيره عَن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة.
قَالَت: ( كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي صَلَاة الْعَصْر وَالشَّمْس فِي قَعْر حُجْرَتي) ، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، وَهِشَام بن عُرْوَة.





[ قــ :531 ... غــ :546]
- حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ قالَتْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي صَلاَةَ العَصْرِ والشَّمْسُ طالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ بَعْدُ.
.


أَبُو نعيم: الْفضل بن دُكَيْن، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ: سُفْيَان.
وَفِي ( مُسْند الْحميدِي) عَن ابْن عُيَيْنَة: حَدثنَا الزُّهْرِيّ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد ابْن مَنْصُور عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن سُفْيَان: ( سمعته أذناي ووعاه قلبِي من الزُّهْرِيّ) ، وَالزهْرِيّ هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
قَوْله: ( وَالشَّمْس طالعة) أَي: ظَاهِرَة، و: الْوَاو، فِيهِ للْحَال.
قَوْله: ( بعد) مَبْنِيّ على الضَّم لِأَنَّهُ من الغايات الْمَقْطُوع عَنْهَا الْإِضَافَة الْمَنوِي بهَا، وَلَو لم تنو الْإِضَافَة لَقلت من بعد التَّنْوِين.

قَالَ أبُو عَبْدِ الله.

     وَقَالَ  مالِكٌ وَيَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وَشُعَيْبٌ وابنُ أبي حَفْصَةَ والشَّمْسُ قَبْلَ أنْ تَظْهَرَ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورين رووا الحَدِيث الْمَذْكُور بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَعِنْدهم: ( وَالشَّمْس قبل أَن تظهر) ، فالظهور فِي روايتهم للشمس، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة الظُّهُور للفيء، وَقد ذكرنَا عَن قريب طَريقَة الْجمع بَينهمَا، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة بِالْمُهْمَلَةِ، وَابْن أبي حَفْصَة مُحَمَّد بن ميسرَة أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ.
وَأما طَرِيق مَالك فقد أوصله البُخَارِيّ فِي بابُُ الْمَوَاقِيت، وَأما طَرِيق يحيى بن سعيد فَعِنْدَ الذهلي مَوْصُولا وَأما طَرِيق شُعَيْب فَعِنْدَ الطَّبَرَانِيّ فِي ( مُسْند الشاميين) وَأما طَرِيق ابْن أبي حَفْصَة فَعِنْدَ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان من طَرِيق ابْن عدي.





[ قــ :53 ... غــ :547]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا عَوْفٌ عَنْ سَيَّار بنِ سَلاَمَةَ قالَ دَخَلْتُ أنَا وَأبي عَلَى أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِي فَقَالَ لَهُ أبي كَيْفَ كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي المَكْتُوبَةَ فَقَالَ كانَ يُصَلِّي الهَجِرَةَ الَّتي تَدْعُونَهَا الأُولي حِين تَدْحَضُ الشَّمْسُ ويُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أقْصَى المَدِينَةِ والشَّمْسُ حَيّةٌ ونَسِيتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ وكانَ يَسْتَحِبُّ أنْ يُؤَخِّرَ العِشَاءَ الَّتي تَدْعُونَهَا العَتَمَةَ وكانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا والحَدِيثَ بَعْدَهَا وكانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجلُ جَلِيسَهُ ويَقْرَأ بِالسِّتِّين إِلَى المِائَةَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيُصلي الْعَصْر ثمَّ يرجع أَحَدنَا إِلَى رَحْله فِي أقْصَى الْمَدِينَة) .
وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي بابُُ وَقت الظّهْر عِنْد الزَّوَال: عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة عَن أبي الْمنْهَال، وَهُوَ سيار بن سَلامَة، وَهَهُنَا: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن عَوْف الْأَعرَابِي عَن سيار بن سَلامَة عَن أبي بَرزَة نَضْلَة بن عبيد، وَفِيه تَقْدِيم وَتَأْخِير وَزِيَادَة ونقصان، وَيظْهر ذَلِك بالمقابلة.
وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَة.
وَنَذْكُر هَهُنَا مَا لم نذْكر هُنَاكَ.
قَوْله: (قَالَ دخلت أَنا وَأبي) الْقَائِل هُوَ: سيار وَأَبوهُ سَلامَة، وَحكى عَنهُ (ابْنه هُنَا، ولابنه عَنهُ رِوَايَة فِي الطَّبَرَانِيّ (الْكَبِير) فِي ذكر الْحَوْض، وَكَانَ دخولهما على أبي بَرزَة زمن أخرج ابْن زِيَاد من الْبَصْرَة، قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَانَ ذَلِك فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ.
.

     وَقَالَ  الْإِسْمَاعِيلِيّ: لما كَانَ زمن أخرج ابْن زِيَاد، ووثب مَرْوَان بِالشَّام، قَالَ أَبُو الْمنْهَال: (انْطلق أبي إِلَى أبي بَرزَة وَانْطَلَقت مَعَه، فَإِذا هُوَ قَاعد فِي ظلّ علوله من قصب فِي يَوْم شَدِيد الْحر ... فَذكر الحَدِيث.
قَوْله: (الْمَكْتُوبَة) أَي: الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة الَّتِي كتبهَا الله تَعَالَى على عباده.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ على أَن الْوتر لَيْسَ من الْمَكْتُوبَة، لكَون أبي بَرزَة لم يذكرهُ.
قلت: عدم ذكره إِيَّاه لَا يسْتَلْزم نفي وجوب الْوتر، وَقد ثَبت وُجُوبه بدلائل أُخْرَى.
قَوْله: (يُصَلِّي الهجير) ، وَهُوَ الهاجرة، أَي: صَلَاة الهجير، وَهُوَ وَقت شدَّة الْحر، وَسمي الظّهْر بذلك لِأَن وَقتهَا يدْخل حِينَئِذٍ.
قَوْله: (الَّتِي تدعونها الأولى) ، وتأنيث الضَّمِير إِمَّا بِاعْتِبَار الهاجرة وَإِمَّا بِاعْتِبَار الصَّلَاة، ويروى: (يُصَلِّي الهجيرة) .
وَإِنَّمَا قيل لَهَا: الأولى، لِأَنَّهَا أول صَلَاة صليت عِنْد إِمَامَة جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيّ: لِأَنَّهَا أول صَلَاة النَّهَار قَوْله: (حِين تدحض) أَي: حِين تَزُول عَن وسط السَّمَاء إِلَى جِهَة الْمغرب من: الدحض وَهُوَ: الزلق.
وَمُقْتَضى ذَلِك أَنه كَانَ يُصَلِّي الظّهْر فِي أول وَقتهَا، وَلَكِن لَا يُعَارض حَدِيث الْأَمر بالإبراد لما ذكرنَا وَجه ذَلِك مستقصىً.
قَوْله: (إِلَى رَحْله) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ مسكن الرجل وَمَا يستصحبه من الأثاث.
قَوْله: (فِي أقْصَى الْمَدِينَة) صفة لرحل، وَلَيْسَ بظرف للْفِعْل.
قَوْله: (وَالشَّمْس حَيَّة) أَي: بَيْضَاء نقية، و: الْوَاو، فِيهِ للْحَال، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد صَحِيح: عَن خَيْثَمَة التَّابِعِيّ، قَالَ: حَيَاتهَا أَن تَجِد حرهَا) .
قَوْله: (ونسيت مَا قَالَ) قَائِل ذَلِك هُوَ: سيار، بَينه أَحْمد فِي رِوَايَته عَن حجاج عَن شُعْبَة بِهِ.
قَوْله: (وَكَانَ) ، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (أَن يُؤَخر الْعشَاء) ، أَي: صَلَاة الْعشَاء.
قَوْله: (الَّتِي تدعونها الْعَتَمَة) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَالْعَتَمَة من اللَّيْل بعد غيبوبة الشَّفق، وَقد أعتم اللَّيْل أَي: أظلم، وَفِيه إِشَارَة إِلَى ترك تَسْمِيَتهَا بذلك.
قَوْله: (والْحَدِيث بعْدهَا) ، أَي: التحدث.
قَوْله: (وَكَانَ يَنْفَتِل) أَي: ينْصَرف من الصَّلَاة، أَو يلْتَفت إِلَى الْمَأْمُومين.
قَوْله: (صَلَاة الْغَدَاة) أَي: الصُّبْح، وَفِيه أَنه لَا كَرَاهَة فِي تَسْمِيَة الصُّبْح بذلك.
قَوْله: (يقْرَأ) أَي: فِي الصُّبْح، (بالستين إِلَى الْمِائَة) أَي: من الْآي، وقدرها الطَّبَرَانِيّ بِسُورَة الحاقة وَنَحْوهَا.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث حجَّة على الْحَنَفِيَّة حَيْثُ قَالُوا: لَا يدْخل وَقت الْعَصْر حَتَّى يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ.
قلت: لَا نسلم أَن الْحَنَفِيَّة قَالُوا ذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ رِوَايَة أَسد بن عَمْرو عَن أبي حنيفَة وَحده، وروى الْحسن عَنهُ أَن أول وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وروى الْمُعَلَّى عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة: إِذا صَار الظل أقل من قامتين يخرج وَقت الظّهْر، وَلَا يدْخل وَقت الْعَصْر حَتَّى يصير قامتين، وَصَححهُ الْكَرْخِي، وَفِي رِوَايَة الْحسن أَيْضا: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء قامة خرج وَقت الظّهْر وَلَا يدْخل وَقت الْعَصْر حَتَّى يصير قامتين، وَبَينهمَا وَقت مهمل، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه النَّاس: بَين الصَّلَاتَيْنِ.
وَحكى ابْن قدامَة فِي (المغنى) : عَن ربيعَة أَن وَقت الظّهْر وَالْعصر إِذا زَالَت الشَّمْس، وَعَن عَطاء وطاووس: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله، دخل وَقت الظّهْر، وَمَا بَينهمَا وَقت لَهما على سَبِيل الِاشْتِرَاك حَتَّى تغرب الشَّمْس.
.

     وَقَالَ  ابْن رَاهَوَيْه والمزني وَأَبُو ثَوْر وَالطَّبَرَانِيّ: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله دخل وَقت الْعَصْر، وَيبقى وَقت الظّهْر قدر مَا يُصَلِّي أَربع رَكْعَات، ثمَّ يتمحض الْوَقْت للعصر، وَبِه قَالَ مَالك.





[ قــ :533 ... غــ :548]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنْ إسْحاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْ أنَسِ ابنِ مالِكٍ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَخْرُجُ الإنْسَانُ إلَى بنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ العَصْرَ.
.


مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث، ومطابقة بَقِيَّة أَحَادِيث هَذَا الْبابُُ للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن دلالتها على تَعْجِيل الْعَصْر، وتعجيله لَا يكون إلاَّ فِي أول وقته، وَهُوَ عِنْد صيرورة ظلّ كل شَيْء مثله أَو مثلَيْهِ على الْخلاف.

ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي، وَمَالك بن أنس وَإِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك، يكنى: أَبَا يحيى، مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، قَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ مَالك لَا يقدم عَلَيْهِ أحدا فِي الحَدِيث.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل.
فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث مُسْند أَو مَوْقُوف؟ قلت: قَول الصَّحَابِيّ: كُنَّا نَفْعل كَذَا، فِيهِ خلاف، فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه مُسْند، وَهُوَ اخْتِيَار الْحَاكِم، وإيراد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مشْعر بِأَنَّهُ مُسْند، وَإِن لم يُصَرح بإضافته إِلَى زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ والخطيب وَآخَرُونَ: إِنَّه مَوْقُوف، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن مثل هَذَا مَوْقُوف لفظا، مَرْفُوع حكما، لِأَن الصَّحَابِيّ أوردهُ فِي مقَام الِاحْتِجَاج فَيحمل على أَنه أَرَادَ كَونه فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد روى ابْن الْمُبَارك هَذَا الحَدِيث عَن مَالك، فَقَالَ فِيهِ: ( كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْعَصْر) ، الحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ.

ذكر تعدد موضه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عبد الله بن يُوسُف.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( بني عَمْرو بن عَوْف) ، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْوَاو وبالفاء، وَكَانَت مَنَازِلهمْ على ميلين من الْمَدِينَة بقباء.
قَوْله: ( فيجدهم يصلونَ الْعَصْر) أَي: عصر ذَلِك الْيَوْم، وَهَذَا يدل على أَنهم كَانُوا يؤخرون عَن أول الْوَقْت، لأَنهم كَانُوا عمالاً فِي أراضيهم وحروثهم.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فَدلَّ هَذَا الحَدِيث على تَعْجِيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَلَاة الْعَصْر فِي أول وَقتهَا، قلت: إِنَّمَا يدل ذَلِك على مَا ذكره إِذا كَانَ الحَدِيث مَرْفُوعا قطعا، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن فِي مثل هَذَا خلافًا، هَل هُوَ مَوْقُوف أَو فِي حكم الْمَرْفُوع؟




[ قــ :534 ... غــ :549]
- حدَّثنا ابنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا أبُو بَكْرِ بنُ عُثْمانَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ قَالَ سمِعْتُ أَبَا امامَةَ يَقُولُ صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أنَسِ بنِ مالِكٍ فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي العَصْرَ فَقُلْتُ يَا عَمِّ مَا هَذِهِ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّيْتَ قَالَ العَصْرُ وهَذِهِ صَلاَةُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ.

ابْن مقَاتل هُوَ: مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي، المجاور بِمَكَّة.
وَعبد الله هُوَ: ابْن الْمُبَارك، وَأَبُو بكر بن عُثْمَان بن سهل ابْن حنيف، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره فَاء: الْأنْصَارِيّ الأوسي، سمع عَمه أَبَا أُمَامَة، بِضَم الْهمزَة، واسْمه: أسعد بن سهل، الْمَوْلُود فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ صَحَابِيّ على الْأَصَح.
مَاتَ سنة مائَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل والسماعوفيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَفِيه: راويان مروزيان والبقية مدنيون.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مَنْصُور بن مُزَاحم.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر، كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن الْمُبَارك.

ذكر مَعْنَاهُ.
قَوْله: ( دَخَلنَا على أنس بن مَالك) ، وداره كَانَت بِجنب الْمَسْجِد.
قَوْله: ( يَا عَم) ، بِكَسْر الْمِيم، وَأَصله: يَا عمي، فحذفت الْيَاء، وَهَذَا من بابُُ التوقير وَالْإِكْرَام لأنس، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَمه على الْحَقِيقَة.
قَوْله: ( مَا هَذِه الصَّلَاة؟) أَي: مَا هَذِه الصَّلَاة فِي هَذَا الْوَقْت؟ وَالْإِشَارَة فِيهِ بِحَسب وَقت تِلْكَ الصَّلَاة لَا بِحَسب شخصها.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث صَرِيح فِي التبكير لصَلَاة الْعَصْر فِي أول وَقتهَا، فَإِن وَقتهَا يدْخل بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، وَلِهَذَا كَانَ الْآخرُونَ يؤخرون الظّهْر إِلَى ذَلِك الْوَقْت، وَإِنَّمَا أَخّرهَا عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على عَادَة الْأُمَرَاء قبل أَن تبلغه السّنة فِي تَقْدِيمهَا قبله، وَيحْتَمل أَنه أَخّرهَا لعذر عرض لَهُ، وَهَذَا كَانَ حِين ولي الْمَدِينَة نِيَابَة، لَا فِي خِلَافَته، لِأَن أنسا توفّي قبل خِلَافَته بِنَحْوِ تسع سِنِين.
انْتهى.
قلت: لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح فِي التبكير لصَلَاة الْعَصْر، وَمثل عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ يتبع الْأُمَرَاء وَيتْرك السّنة؟




[ قــ :535 ... غــ :550]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أنسُ بنُ مالِكٍ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي العَصْرَ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ فَيَذْهَبُ الذاهِبُ إلَى العَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ وَبَعْضُ العَوَالِي مِنَ المَدِينَةِ عَلَى أرْبَعَةِ أمْيَالٍ أوْ نَحْوِهِ.

أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع البهراني الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع آخر.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل.
وَفِيه: من الروَاة حمصيان ومدني.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن هَارُون بن سعيد عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس.
وَأخرجه أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد ابْن رمح.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( وَالشَّمْس مُرْتَفعَة) ، الْوَاو: فِيهِ للْحَال، وَقد مر تَفْسِير قَوْله: حَيَّة.
قَوْله: ( العوالي) ، جمع: عالية وَهِي الْقرى الَّتِي حول الْمَدِينَة من جِهَة نجد، وَأما من جِهَة تهَامَة فَيُقَال لَهَا: السافلة.
قَوْله: ( فيأتيهم وَالشَّمْس مُرْتَفعَة) أَي: دون ذَلِك الِارْتفَاع.
قَوْله: ( وَبَعض العوالي) ، إِلَى آخِره، قَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا كَلَام البُخَارِيّ وَإِمَّا كَلَام أنس أَو هُوَ لِلزهْرِيِّ، كَمَا هُوَ عَادَته فِي الإدراجات.
قلت: الظَّاهِر أَنه من الزُّهْرِيّ، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ فِيهِ، بعد قَوْله: ( وَالشَّمْس حَيَّة) ، قَالَ الزُّهْرِيّ: والعوالي من الْمَدِينَة على ميلين أَو ثَلَاثَة.
وروى الْبَيْهَقِيّ حَدِيث الْبابُُ من طَرِيق أبي بكر الصَّنْعَانِيّ عَن أبي الْيَمَان، شيخ البُخَارِيّ،.

     وَقَالَ  فِي آخِره: وَبعد العوالي، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وبالدال الْمُهْملَة، وَكَذَلِكَ أخرجه البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام تَعْلِيقا، وَوَصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق اللَّيْث: عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، لَكِن قَالَ: أَرْبَعَة أَمْيَال أَو ثَلَاثَة.
وروى هَذَا الحَدِيث أَبُو عوَانَة فِي ( صَحِيحه) وَأَبُو الْعَبَّاس السراج جَمِيعًا عَن أَحْمد بن الْفرج أبي عتبَة عَن مُحَمَّد بن حمير عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عبلة عَن الزُّهْرِيّ، وَلَفظه: ( والعوالي من الْمَدِينَة على ثَلَاثَة أَمْيَال) وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْمحَامِلِي عَن أبي عتبَة الْمَذْكُور بِسَنَدِهِ الْمَذْكُور، فَوَقع عَنهُ: ( على سِتَّة أَمْيَال) .
وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فَقَالَ فِيهِ: ( على ميلين أَو ثَلَاثَة) .
وَوَقع فِي ( الْمُدَوَّنَة) عَن مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى: أبعد العوالي مَسَافَة ثَلَاثَة أَمْيَال.
قَالَ عِيَاض: كَأَنَّهُ أَرَادَ مُعظم عمارتها، وإلاَّ فأبعدها ثَمَانِيَة أَمْيَال.
قلت: علم من هَذِه الاختلافات أَن أقرب العوالي من الْمَدِينَة مَسَافَة ميلين، وأبعدها ثَمَانِيَة أَمْيَال، وَأما الثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة والستة فباعتبار الْقرب والبعد من الْمَدِينَة، فَبِهَذَا الْوَجْه يحصل التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات، والميل: ثلث فَرسَخ، أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع بِذِرَاع مُحَمَّد بن فرج الشَّاشِي، طولهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ إصبعا بِعَدَد حُرُوف: لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله، وَعرض الإصبع: سِتّ حبات شعير ملصقة ظهرا لبطن، وزنة الْحبَّة من الشّعير: سَبْعُونَ حَبَّة خَرْدَل.
وَفسّر أَبُو شُجَاع الْميل: بِثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع، وَخَمْسمِائة ذِرَاع، إِلَى أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع.
وَفِي ( الْيَنَابِيع) الْميل: ثلث الفرسخ، أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة، كل خطْوَة ذِرَاع وَنصف بِذِرَاع الْعَامَّة، وَهُوَ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ إصبعا.





[ قــ :536 ... غــ :551]
- حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شَهَابٍ عَن أنَس بنِ مالِكٍ قَالَ كنَّا نُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا إلَى قُبَاءٍ فَيَأْتِيهِمْ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ
قد تكَرر ذكر هَؤُلَاءِ الروَاة.

وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل.

قَوْله: ( كُنَّا نصلي الْعَصْر) أَي: مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ خَالِد بن مخلد عَن مَالك، كَذَلِك مُصَرحًا بِهِ أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( غَرَائِبه) .
قَوْله: ( إِلَى قبَاء) ، قَالَ أَبُو عمر: قَول مَالك، قبَاء، وهم لَا شكّ فِيهِ وَلم يُتَابِعه أحد فِيهِ عَن ابْن شهَاب،.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ: لم يُتَابع مَالك على قَوْله: ( قبَاء) ، وَالْمَعْرُوف: العوالي، وَكَذَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ فِي آخَرين: إِلَى العوالي، وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حدديث الزُّهْرِيّ،.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: الصَّحِيح بدل قبَاء العوالي، كَذَلِك رَوَاهُ أَصْحَاب ابْن شهَاب كلهم غير مَالك فِي ( الْمُوَطَّأ) فَإِنَّهُ تفرد بِذكر: قبَاء، وَهُوَ مِمَّا يعد على مَالك أَنه وهم فِيهِ.
قلت: تَابع مَالِكًا ابْن أبي ذِئْب، فَإِنَّهُ روى عَن الزُّهْرِيّ: إِلَى قبَاء، كَمَا قَالَه مَالك، نَقله الْبَاجِيّ عَن الدَّارَقُطْنِيّ، فنسبة الْوَهم إِلَى مَالك غير موجه، وَلَئِن سلمنَا أَنه وهم، وَلَكِن لَا نسلم أَن يكون ذَلِك من مَالك قطعا، فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من الزُّهْرِيّ حِين حدث بِهِ مَالِكًا.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: روى خَالِد بن مخلد عَن مَالك فَقَالَ فِيهِ: إِلَى العوالي، كَمَا قَالَه الْجَمَاعَة، فَهَذَا يدل على أَن الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مَالك.
ورد هَذَا بِأَن مَالِكًا أثْبته فِي ( الْمُوَطَّأ) بِاللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ كَافَّة أَصْحَابه، فرواية خَالِد عَنهُ شَاذَّة، وَلَئِن سلمنَا الْوَهم فِيهِ، فَهُوَ إِمَّا من مَالك كَمَا جزم بِهِ الْبَزَّار وَالدَّارَقُطْنِيّ وَمن تبعهما، أَو من الزُّهْرِيّ حِين حدث بِهِ، وَمَعَ هَذَا كُله فقباء من العوالي، فَلَعَلَّ مَالِكًا رأى فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ إِجْمَالا وفسرها بقباء، فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى نِسْبَة الْوَهم إِلَى أحد.
فَافْهَم.
قَوْله: ( فيأتيهم) أَي: فَيَأْتِي أهل قبَاء، و: الْوَاو، فِي: ( وَالشَّمْس) للْحَال.





[ قــ :569 ... غــ :585]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ العَصْرِ كأنَّمَا وُتِرَ أهْلَهُ ومالَهُ.


رجال هَذَا الحَدِيث ولطائف إِسْنَاده قد مَرَرْت غير مرّة.

وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من طَرِيق مَالك، وَأخرجه الْكشِّي من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن نَافِع، وَزَاد فِي آخِره: وَهُوَ قَاعد، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة كَرِوَايَة ابْن عمر، وَفِي ( الْأَوْسَط) للطبراني: إِن نوفلاً رَوَاهُ عَن أَبِيه مُعَاوِيَة بِلَفْظ: ( لِأَن يُوتر أحدكُم أَهله وَمَاله خير لَهُ من أَن تفوته صَلَاة الْعَصْر) .
.

     وَقَالَ  الذَّهَبِيّ: نَوْفَل بن مُعَاوِيَة الديلِي، شهد الْفَتْح وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ سنة يزِيد، روى عَنهُ جمَاعَة،.

     وَقَالَ  فِي بابُُ الْمِيم: مُعَاوِيَة بن نَوْفَل الديلِي صَحَابِيّ روى عَنهُ ابْنه.
قَوْله: ( صَلَاة الْعَصْر) فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: ( يفوتهُ الْعَصْر) .
قَوْله: ( كَأَنَّمَا) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( فَكَأَنَّمَا) بِالْفَاءِ، والمبتدأ إِذا تضمن معنى الشَّرْط جَازَ فِي خَبره: الْفَاء، وَتركهَا.
قَوْله: ( وتر أَهله وَمَاله) بِنصب اللاَّمين فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين لِأَنَّهُ مفعول ثَان لقَوْله: ( وتر) ، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: ( الَّذِي تفوته صَلَاة الْعَصْر) ، وَهُوَ الْمَفْعُول الأول.
فَإِن قلت: الْفِعْل الَّذِي يَقْتَضِي المفعولين يكون من أَفعَال الْقُلُوب، ووتر لَيْسَ مِنْهَا.
قلت: إِذا كَانَ أحد المفعولين غير صَرِيح يَأْتِي أَيْضا من غير أَفعَال الْقُلُوب، وَهَهُنَا كَذَلِك، ووتر هَهُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى إِلَى مفعولين بِهَذَا الْوَجْه، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { لن يتركم أَعمالكُم} ( مُحَمَّد: 35) .
أَي: لن ينقصكم أَعمالكُم، فعلى هَذَا الْمَعْنى فِي: وتر، نقص من: وترته، إِذا نقصته فكأنك جعلته: وترا بعد أَن كَانَ كثيرا.
وَقيل: مَعْنَاهُ هَهُنَا: سلب أَهله وَمَاله، فَبَقيَ وترا لَيْسَ لَهُ أهل وَلَا مَال.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: رُوِيَ بِرَفْع الَّلامين، قلت: هِيَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَجههَا أَنه لَا يضمر شَيْء فِي: وتر، بل يقوم: الْأَهْل، مقَام مَا لم يسم فَاعله، و: مَاله، عطف عَلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: من رد النَّقْص إِلَى الرجل نصبهما، وَمن رده إِلَى الْأَهْل وَالْمَال رفعهما.
وَقيل: مَعْنَاهُ وتر فِي أَهله، فَلَمَّا حذف الْخَافِض انتصب، وَقيل: إِنَّه بدل اشْتِمَال أَو بدل بعض، وَمَعْنَاهُ: انتزع مِنْهُ أَهله وَمَاله.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الموتر: الَّذِي قتل لَهُ قَتِيل فَلم يدْرك بدمه، تَقول مِنْهُ: وتره يتره وترا ووترا وترة.
قلت: أصل: ترة وتر، فحذفت مِنْهَا الْوَاو تبعا لفعله الْمُضَارع، وَهُوَ: يتر، لِأَن أَصله يُوتر، فحذفت الْوَاو لوقوعها بَين يَاء وكسرة، فَلَمَّا حذفت الْوَاو فِي الْمصدر عوض عَنْهَا: التَّاء، كَمَا فِي: عدَّة.

وَتَكَلَّمُوا فِي معنى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ الْخطابِيّ: نقص هُوَ أَهله وَمَاله وسلبهم، فَبَقيَ بِلَا أهل وَلَا مَال، فليحذر من يفوتها كحذره من ذهَاب أَهله وَمَاله.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: مَعْنَاهُ كَالَّذي يصاب بأَهْله وَمَاله إِصَابَة يطْلب بهَا وترا، وَهِي الْجِنَايَة الَّتِي تطلب ثأرها، فيجتمع عَلَيْهِ غمان: غم الْمُصِيبَة، وغم مقاساة طلب الثأر.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: يتَوَجَّه عَلَيْهِ من الاسترجاع مَا يتَوَجَّه على من فقد أَهله وَمَاله، فَيتَوَجَّه عَلَيْهِ النَّدَم والأسف لتفويته الصَّلَاة.
وَقيل: مَعْنَاهُ فَاتَهُ من الثَّوَاب مَا يلْحقهُ من الأسف، كَمَا يلْحق من ذهب أَهله وَمَاله.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِفَوَات الْعَصْر فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ ابْن وهب وَغَيره: هُوَ فِيمَن لم يصلها فِي وَقتهَا الْمُخْتَار.
.

     وَقَالَ  الْأصيلِيّ وَسَحْنُون: هُوَ أَن تفوته بغروب الشَّمْس.
وَقيل: أَن يفوتها إِلَى أَن تصفر الشَّمْس، وَقد ورد مُفَسرًا فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ فِي هَذَا الحَدِيث.
قَالَ: وفواتها أَن تدخل الشَّمْس صفرَة.
وروى سَالم عَن أَبِيه أَنه قَالَ: هَذَا فِيمَن فَاتَتْهُ نَاسِيا،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: هَذَا فِي الْعَامِد، وَكَأَنَّهُ أظهر لما فِي البُخَارِيّ: ( من ترك صَلَاة الْعَصْر حَبط عمله) .
وَهَذَا ظَاهر فِي الْعمد.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: هُوَ فَوَاتهَا فِي الْجَمَاعَة لما يفوتهُ من شُهُود الْمَلَائِكَة الليلية والنهارية، وَلَو كَانَ فَوَاتهَا بغيبوبة أَو اصفرار لبطل الِاخْتِصَاص، لِأَن ذهَاب الْوَقْت كُله مَوْجُود فِي كل صَلَاة،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: يحْتَمل أَن يكون تَخْصِيص الْعَصْر لكَونه جَوَابا بالسائل سَأَلَ عَن صَلَاة الْعَصْر، وعَلى هَذَا يكون حكم من فَاتَهُ الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس، وَالْعشَاء بِطُلُوع الْفجْر، كَذَلِك.
وخصت الْعَصْر لفضلها ولكونها مَشْهُودَة.
وَقيل: خصت بذلك تَأْكِيدًا وحضا على المثابرة عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَأتي فِي وَقت اشْتِغَال النَّاس، وَقيل: يحْتَمل أَنَّهَا خصت بذلك لِأَنَّهَا على الصَّحِيح أَنَّهَا الصَّلَاة الْوُسْطَى، وَبهَا تختم الصَّلَوَات.
وَاعْترض النَّوَوِيّ لِابْنِ عبد الْبر فِي قَوْله: فعلى هَذَا يكون حكم من فَاتَهُ الصُّبْح.
.
إِلَى آخِره، فَإِن غير الْمَنْصُوص إِنَّمَا يلْحق بالمنصوص إِذا عرفت الْعلَّة واشتركا فِيهَا.
قَالَ: وَالْعلَّة فِي هَذَا الحكم لم تتَحَقَّق فَلَا يلْحق غير الْعَصْر بهَا.
انْتهى.
قلت: لقَائِل أَن يحْتَج لِابْنِ عبد الْبر بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَغَيره من طَرِيق أبي قلَابَة عَن أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: ( من ترك صَلَاة مَكْتُوبَة حَتَّى تفوته) الحَدِيث، ورد بِأَن فِي إِسْنَاده انْقِطَاعًا، لِأَن أَبَا قلَابَة لم يسمع من أبي الدَّرْدَاء، وَقد روى أَحْمد حَدِيث أبي الدَّرْدَاء بِلَفْظ: ( من ترك الْعَصْر) ، فَرجع حَدِيث أبي الدَّرْدَاء إِلَى تعْيين الْعَصْر.
قلت: روى ابْن حبَان وَغَيره عَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: ( من فَاتَتْهُ الصَّلَاة فَكَأَنَّمَا وتر أَهله وَمَاله) .
وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهَذَا يَشْمَل جَمِيع الصَّلَوَات المكتوبات، وَلَكِن روى الطَّبَرَانِيّ هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث الْبابُُ من وَجه آخر، وَزَاد فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ: ( قلت لأبي بكر يَعْنِي ابْن عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ الَّذِي حَدثهُ بِهِ مَا هَذِه الصَّلَاة؟ قَالَ: الْعَصْر) .
رَوَاهُ ابْن أبي خَيْثَمَة من وَجه آخر، فَصرحَ بِكَوْنِهَا الْعَصْر فِي نفس الْخَبَر، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من وَجه آخر فصرحا بِكَوْنِهَا الْعَصْر فِي نفس الْخَبَر، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من وَجه آخر، وَفِيه: إِن التَّفْسِير من قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَاعْترض ابْن الْمُنِير على قَول الْمُهلب الْمَذْكُور عَن قريب بِأَن الْفجْر أَيْضا فِيهَا شُهُود الْمَلَائِكَة الليلية والنهارية، فَلَا يخْتَص الْعَصْر بذلك.
قَالَ: وَالْحق أَن الله تَعَالَى يخص مَا شَاءَ من الصَّلَوَات بِمَا شَاءَ من الْفَضِيلَة.
وَبَوَّبَ التِّرْمِذِيّ على حَدِيث الْبابُُ مَا جَاءَ فِي السَّهْو عَن وَقت الْعَصْر فَحَمله على الساهي.
قلت: لَا تطابق بَين تَرْجَمته وَبَين الحَدِيث، فَإِن لفظ الحَدِيث: الَّذِي تفوته، أَعم من أَن يكون سَاهِيا أَو عَامِدًا، وتخصيصه بالساهي لَا وَجه لَهُ، بل الْقَرِينَة دَالَّة على أَن المُرَاد بِهَذَا الْوَعيد فِي الْعَامِد دون الساهي.

قَالَ أبُو عَبْدِ الله يَتِرُكُمْ أعْمَالُكُمْ وَتَرْتُ الرَّجُلَ إذَا قَتَلْتُ لَهُ قَتِيلاً أوْ أخَذْتُ لَهُ مَالا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن لَفْظَة: يتركم فِي قَوْله تَعَالَى: { وَلنْ يتركم} ( مُحَمَّد: 35) .
أَنه مُتَعَدٍّ إِلَى مفعولين، وَهَذَا يُؤَيّد نصب اللاَّمين فِي الحَدِيث، وَأَشَارَ بقوله ( وترت الرجل) ، إِلَى أَنه يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد، وَهُوَ يُؤَيّد رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.