فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل صلاة العصر


[ قــ :539 ... غــ :554]
- حدَّثنا الحُمَيْدِي قَالَ حدَّثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ قَيْسٍ عنْ جَرِير قَالَ كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَظَرَ إلَى القَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي البَدْرَ فَقَالَ إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَما تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فإنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لاَ تُغْلَوْا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فافْعَلُوا ثمَّ قَرَأَ وَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ.
قالَ إسْمَاعِيلُ افْعَلوا لاَ تَفُوتَنَّكُمْ.
.
[/ نه

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَقبل غُرُوبهَا) ، أَي: قبل غرُوب الشَّمْس، وَالصَّلَاة فِي هَذَا الْوَقْت هِيَ صَلَاة الْعَصْر، وَلَو قَالَ: بابُُ فضل الصَّلَاة الْفجْر وَالْعصر لَكَانَ أولى، لِأَن الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَالْآيَة صَلَاة الْفجْر وَالْعصر كلتاهما.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: بابُُ فضل صَلَاة الْعَصْر، أَي: على جَمِيع الصَّلَوَات، إلاَّ قلت هَذَا التَّقْدِير الْمَذْكُور فِي الحَدِيث فِيهِ تعسف، وَلِأَن جَمِيع الصَّلَوَات مُشْتَركَة فِي الْفضل غَايَة مَا فِي الْبابُُ أَن لصلاتي الْفجْر وَالْعصر مزية على غَيرهمَا، وَإِنَّمَا خصص الْعَصْر بِالذكر للاكتفاء، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} (لنحل: 81) .
أَي: وَالْبرد أَيْضا.
وَقيل: إِنَّمَا خص الْعَصْر لِأَن فِي وقته ترْتَفع الْأَعْمَال وَتشهد فِيهِ مَلَائِكَة اللَّيْل، وَلِهَذَا ذكر فِي الحَدِيث: (فَإِن اسْتَطَعْتُم) .
الحَدِيث.
قلت: وَفِي الْفجْر أَيْضا تشهد فِيهِ مَلَائِكَة النَّهَار، وَالْأَوْجه فِي الْجَواب مَا ذكرته الْآن.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَن الْعَصْر ذَات فَضِيلَة لَا ذَات أَفضَلِيَّة.
قلت: كل الصَّلَوَات ذَوَات فَضِيلَة، والترجمة أَيْضا تنبىء عَن ذَلِك.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: واسْمه عبد الله بن الزبير بن عِيسَى بن عبد الله بن الزبير بن عبد الله بن حميد، ونسبته إِلَى جده: حميد الْقرشِي الْمَكِّيّ، مَاتَ سنة تسع عشرَة وماتين.
الثَّانِي: مَرْوَان بن مُعَاوِيَة بن الْحَارِث الْفَزارِيّ، مَاتَ بِدِمَشْق سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة، قبل التَّرويَة بِيَوْم فجاة.
الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
الرَّابِع: قيس بن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة.
الْخَامِس: جُبَير بن عبد الله بن جَابر البَجلِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل، وَوَقع عِنْد أبي مرْدَوَيْه من طَرِيق شُعْبَة عَن إِسْمَاعِيل التَّصْرِيح بِسَمَاع إِسْمَاعِيل من قيس، وَسَمَاع قيس عَن جرير.
وَفِيه: ذكر الْحميدِي بنسبته إِلَى أحد أجداده، وَأَنه من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مكي وكوفي.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وهما: إِسْمَاعِيل وَقيس.
وَفِيه: أَن أحد الروَاة من المخضرمين، وَهُوَ: قيس، فَإِنَّهُ قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد فِي الصَّلَاة أَيْضا وَأخرجه فِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير، وَفِي التَّوْحِيد عَن عَمْرو بن عون عَن خَالِد وهشيم وَعَن يُوسُف ابْن مُوسَى عَن عَاصِم وَعَن عَبدة بن عبد الله.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن مَرْوَان بِهِ وَعَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة عَن عبد الله بن نمير وَأبي اسامة ووكيع ثَلَاثَتهمْ عَن اسماعيل بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن عُثْمَان بن ابي شيبَة عَن جرير ووكيع وَأبي أُسَامَة بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن يحيى بن كثير وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه ووكيع وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن خَالِد ويعلى بن عبيد ووكيع وَأبي مُعَاوِيَة، أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَيْلَة) ، قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه من بابُُ تنَازع الْفِعْلَيْنِ عَلَيْهِ.
قلت: الظَّاهِر أَن: لَيْلَة، نصب على الظَّرْفِيَّة، وَالتَّقْدِير: نظر إِلَى الْقَمَر فِي لَيْلَة من اللَّيَالِي، وَهَذِه اللَّيْلَة كَانَت لَيْلَة الْبَدْر.
وَبِه صرح فِي رِوَايَة مُسلم، وَسَنذكر اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ.
قَوْله: (لَا تضَامون) ، رُوِيَ بِضَم التَّاء وبتخفيف الْمِيم: من الضيم، وَهُوَ التَّعَب، وبتشديدها من: الضَّم.
وبفتح التَّاء وَتَشْديد الْمِيم، قَالَ الْخطابِيّ: يرْوى على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَفْتُوحَة التَّاء مُشَدّدَة الْمِيم، وَأَصله: تتضامون، حذفت إِحْدَى التائين، أَي: لَا يضام بَعْضكُم بَعْضًا كَمَا تَفْعَلهُ النَّاس فِي طلب الشَّيْء الْخَفي الَّذِي لَا يسهل دركه فيتزاحمون عِنْده، يُرِيد أَن كل وَاحِد مِنْهُم وادع مَكَانَهُ لَا ينازعه فِي رُؤْيَته أحد.
وَالْآخر: لَا تضَامون من: الضيم، أَي: لَا يضيم بَعْضكُم بَعْضًا فِي رُؤْيَته.
.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: لَا تضَامون، بتَشْديد الْمِيم، مُرَاده: أَنكُمْ لَا تختلفون إِلَى بعض فِيهِ حَتَّى تجتمعوا للنَّظَر، وينضم بَعْضكُم إِلَى بعض فَيَقُول وَاحِد: هُوَ ذَاك، وَيَقُول الآخر: لَيْسَ ذَاك، كَمَا تَفْعَلهُ النَّاس عِنْد النّظر إِلَى الْهلَال أول الشَّهْر، وبتخفيفها، مَعْنَاهُ: لَا يضيم بَعْضكُم بَعْضًا بِأَن يَدْفَعهُ عَنهُ أَو يستأثر بِهِ دونه.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَنْبَارِي أَي: لَا يَقع لكم فِي الرُّؤْيَة ضيم وَهُوَ الذل، وَأَصله: تضيمون فالقيت حَرَكَة الْيَاء على الضَّاد فَصَارَت الْيَاء ألفا لانفتاح مَا قبلهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: لَا تضَامون، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَخْفِيف الْمِيم، وَعَلِيهِ أَكثر الروَاة، وَالْمعْنَى لَا ينالكم ضيم، والضيم أَصله: الظُّلم، وَهَذَا الضيم يلْحق الرَّائِي من وَجْهَيْن: أَحدهمَا من مزاحمة الناظرين لَهُ، أَي: لَا تزدحمون فِي رُؤْيَته فيراه بَعْضكُم دون بعض، وَلَا يظلم بَعْضكُم بَعْضًا.
وَالثَّانِي: من تَأَخره عَن مقَام النَّاظر الْمُحَقق، فَكَأَن الْمُتَقَدِّمين ضاموه، ورؤية الله عز وَجل يَسْتَوِي فِيهَا الْكل، فَلَا ضيم وَلَا ضَرَر وَلَا مشقة.
وَفِي رِوَايَة: (لَا تضَامون، أَو لَا تضاهون) .
يَعْنِي: على الشَّك، أَي: لَا يشْتَبه عَلَيْكُم وترتابون فيعارض بَعْضكُم بَعْضًا فِي رُؤْيَته.
وَقيل: لَا تشبهونه فِي رُؤْيَته بِغَيْرِهِ من المرئيات.
وَرُوِيَ: (تضَارونَ) ، بالراء الْمُشَدّدَة وَالتَّاء مَفْتُوحَة ومضمومة.
.

     وَقَالَ  الزّجاج: مَعْنَاهُمَا لَا تتضارون أَي: لَا يضار بَعْضكُم بَعْضًا فِي رُؤْيَته بالمخالفة.
وَعَن ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ تتفاعلون من الضرار، أَي: لَا تتنازعون وتختلفون.
وَرُوِيَ إيضا: لَا تضَارونَ، بِضَم التَّاء وَتَخْفِيف الرَّاء، أَي: لَا يَقع للمرء فِي رُؤْيَته ضير مَا بالمخالفة أَو الْمُنَازعَة أَو الخفأ.
وَرُوِيَ: تمارون، برَاء مُخَفّفَة يَعْنِي: تجادلون أَي لَا يدخلكم شكّ قَوْله (فان اسْتَطَعْتُم ان لَا تغلبُوا) بِلَفْظ الْمَجْهُول وَكلمَة ان مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير ان لاتغلبوا أَي: من الْغَلَبَة بِالنَّوْمِ والاشتغال بِشَيْء من الْأَشْيَاء الْمَانِعَة عَن الصَّلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس، وَقبل غُرُوبهَا قَوْله: (فافعلوا) أَي: الصَّلَاة فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ، وَزَاد مُسلم بعد قَوْله: قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا يَعْنِي الْعَصْر وَالْفَجْر وَفِي رِوَايَة ابْن مردوية من وَجه آخر عَن اسماعيل (قبل طُلُوع الشَّمْس صَلَاة الصُّبْح، وَقبل غُرُوبهَا صَلَاة الْعَصْر) .
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا المُرَاد بِلَفْظ: إفعلوا؟ إِذْ لَا يَصح أَن يُرَاد إفعلوا الِاسْتِطَاعَة، أَو إفعلوا عدم المغلوبية؟ قلت: عدم المغلوبية كِنَايَة عَن الْإِتْيَان بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَازم الْإِتْيَان، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَأتوا بِالصَّلَاةِ فاعلين لَهَا.
انْتهى.
قلت: لَو وَقدر مفعول: إفعلوا، مثل مَا قَدرنَا لَكَانَ اسْتغنى عَن هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب.
قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ) لم يبين فَاعل: قَرَأَ، من هُوَ فِي جَمِيع رِوَايَات البُخَارِيّ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: الظَّاهِر أَنه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: هَذَا تخمين وحسبان.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي شَرحه: لم يبين أحد فِي رِوَايَته من قَرَأَ، ثمَّ سَاق من طَرِيق أبي نعيم فِي (مستخرجه) أَن جَرِيرًا قَرَأَهُ.
قلت: وَقع عِنْد مُسلم عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة بِإِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَرَأَ جرير، أَي الصَّحَابِيّ.
وَكَذَا أخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) : من طَرِيق يعلى بن عبيد عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، فالعجب من الشَّيْخ قطب الدّين كَيفَ ذهل عَن عُرْوَة إِلَى مُسلم.
قَوْله: (فسبح) التِّلَاوَة، وَسبح: بِالْوَاو، لَا: بِالْفَاءِ، المُرَاد بالتسبيح: الصَّلَاة.
قَوْله: (افعلوا) ، أَي: افعلوا هَذِه الصَّلَاة لَا تفوتكم، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع إِلَى الصَّلَاة، وَهُوَ بنُون التَّأْكِيد، وَهُوَ مدرج من كَلَام إِسْمَاعِيل، كَذَلِك ثمَّ قَرَأَ مدرج.

ذكر الرِّوَايَات فِي قَوْله: (إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر لَا تضَامون فِي رُؤْيَته) ، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (إِذْ نظر إِلَى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، فَقَالَ: أما أَنكُمْ سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ هَذَا، لَا تضَامون، أَو لَا تضاهون فِي رُؤْيَته) .
وَفِي كتاب التَّوْحِيد: (أَنكُمْ سَتَرَوْنَ ربكُم عيَانًا) .
وَفِي التَّفْسِير: (فَنظر إِلَى الْقَمَر لَيْلَة أَربع عشرَة) ، وَعَن اللالكائي عَن البُخَارِيّ: (أَنكُمْ ستعرضون على ربكُم وترونه كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر) .
وَعند الدَّارَقُطْنِيّ:.

     وَقَالَ  زيد بن أبي أنيسَة: (فتنظرون إِلَيْهِ كَمَا تنْظرُون إِلَى هَذَا الْقَمَر) ،.

     وَقَالَ  وَكِيع: (ستعاينون) ، وَسَيَأْتِي عِنْد البُخَارِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد: (هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الشَّمْس فِي الظهيرة لَيست فِي سَحَابَة؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر لَيْسَ فِيهِ سَحَابَة؟) .
قَالُوا: لَا.
قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا تضَارونَ فِي رُؤْيَته إِلَّا كَمَا تضَارونَ فِي رُؤْيَة أَحدهمَا) .
وَعَن أبي مُوسَى عِنْده بِنَحْوِهِ، وَعَن أبي رزين الْعقيلِيّ: (قلت: يَا رَسُول الله أكلنَا يرى ربه منجليا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة؟ .
قَالَ: نعم.
قَالَ: وَمَا آيَة ذَلِك فِي خلقه؟ قَالَ: يَا أَبَا رزين، أَلَيْسَ كلكُمْ يرى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر منجليا بِهِ؟ قَالَ: فَالله أعظم وَأجل، وَذَلِكَ آيَة فِي خلقه) .
وَعند ابْن مَاجَه عَن جَابر: (بَينا أهل الْجنَّة فِي نعيمهم إِذْ سَطَعَ لَهُم نور فَرفعُوا رؤوسهم فَإِذا الرب قد أشرف عَلَيْهِم، فَينْظر إِلَيْهِم وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) .
وَعَن صُهَيْب عِنْد مُسلم، فَذكر حَدِيثا فِيهِ: (فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فوَاللَّه مَا أَعْطَاهُم الله تَعَالَى شَيْئا أحب إِلَيْهِم من النّظر إِلَيْهِ) .
وَفِي (سنَن اللالكائي) : عَن أنس وَأبي بن كَعْب وَكَعب بن عجْرَة: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الزِّيَادَة فِي كتاب الله تَعَالَى، قَالَ: النّظر إِلَى وَجهه) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث وَبِالْقُرْآنِ وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ على إِثْبَات رُؤْيَة الله فِي الْآخِرَة للْمُؤْمِنين، وَقد روى أَحَادِيث الرُّؤْيَة أَكثر من عشْرين صحابيا،.

     وَقَالَ  أَبُو الْقَاسِم: روى رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ لرَبهم عز وَجل فِي الْقِيَامَة: أَبُو بكر وَعلي بن أبي طَالب ومعاذ بن جبل وَابْن مَسْعُود وَأَبُو مُوسَى وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَحُذَيْفَة وَأَبُو أُمَامَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَأنس وعمار بن يَاسر وَزيد بن ثَابت وَعبادَة بن الصَّامِت وَبُرَيْدَة بن حصيب وجنادة بن أبي أُميَّة وفضالة بن عبيد وَرجل لَهُ صُحْبَة بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ ذكر أَحَادِيثهم بأسانيد غالبها جيد، وَذكر أَبُو نعيم الْحَافِظ فِي (كتاب تثبيت النّظر) أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وَعمارَة بن رؤيبة وَأَبا رزين الْعقيلِيّ وَأَبا بَرزَة.
وَزَاد الْآجُرِيّ فِي (كتاب الشَّرِيعَة) وَأَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي الشَّيْخ فِي (كتاب السّنة الْوَاضِحَة) تأليفهما: عدي بن حَاتِم الطَّائِي بِسَنَد جيد، والرؤية مُخْتَصَّة بِالْمُؤْمِنِينَ مَمْنُوعَة من الْكفَّار.
وَقيل: يرَاهُ مُنَافِقُو هَذِه الْأمة، وَهَذَا ضَعِيف، وَالصَّحِيح أَن الْمُنَافِقين كالكفار بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَعَن ابْن عمر وَحُذَيْفَة: من أهل الْجنَّة من ينظر إِلَى وَجهه غدْوَة وَعَشِيَّة.

وَمنع من ذَلِك الْمُعْتَزلَة والخوارج وَبَعض المرجئة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِوُجُوه: الأول: قَوْله تَعَالَى: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} (الْأَنْعَام: 103) .
وَقَالُوا: يلْزم من نفي الْإِدْرَاك بالبصر نفي الرُّؤْيَة.
الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {لن تراني} (الْأَعْرَاف: 143) .
و: لن، للتأييد بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {قل لن تتبعونا} (الْفَتْح: 15) .
وَإِذا ثَبت فِي حق مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عدم الرُّؤْيَة ثَبت فِي حق غَيره، الثَّالِث: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل رَسُولا} (الشورى: 51) .
فالآية دلّت على أَن كل من يتَكَلَّم الله مَعَه فَإِنَّهُ لَا يرَاهُ، فَإِذا ثَبت عدم الرُّؤْيَة فِي وَقت الْكَلَام ثَبت فِي غير وَقت الْكَلَام ضَرُورَة، أَنه لَا قَائِل بِالْفَصْلِ.
الرَّابِع: أَن الله تَعَالَى مَا ذكر فِي طلب الرُّؤْيَة فِي الْقُرْآن إلاَّ وَقد استعظمه وذم عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي آيَات: مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وَأَنْتُم تنْظرُون} (الْبَقَرَة: 55) .
الْخَامِس: لَو صحت رُؤْيَة الله تَعَالَى لرأيناه الْآن، والتالي بَاطِل، والمقدم مثله.

وَلأَهل السّنة مَا ذَكرْنَاهُ من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} (الْقِيَامَة: 22) .
وَقَوله تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} (المطففين: 55) .
، بِهَذَا يدل على أَن الْمُؤمنِينَ لَا يكونُونَ محجوبين، وَالْجَوَاب عَن قَوْله تَعَالَى: لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} (الْأَنْعَام: 103) .
أَن المُرَاد من الْإِدْرَاك الْإِحَاطَة، وَنحن أَيْضا نقُول بِهِ، وَعَن قَوْله: {لن تراني} (الْأَعْرَاف: 143) .
أَنا لَا نسلم أَن: لن، تدل على التَّأْبِيد، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} (الْبَقَرَة: 95) .
مَعَ أَنهم يتمنونه فِي الْآخِرَة.
وَعَن قَوْله: {وَمَا كَانَ لبشر} (الشورى: 51) .
الْآيَة أَن الْوَحْي كَلَام يسمع بالسرعة، وَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على كَون الْمُتَكَلّم محجوبا عَن نظر السَّامع أَو غير مَحْجُوب عَن نظره، وَعَن قَوْله: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} (الْبَقَرَة: 55) .
الْآيَة أَن الاستعظام لِمَ لَا يجوز أَن يكون لأجل طَلَبهمْ الرُّؤْيَة على سَبِيل التعنت والعناد؟ بِدَلِيل الاستعظام فِي نزُول الْمَلَائِكَة فِي قَوْله: {لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة} (الْفرْقَان: 21) .
وَلَا نزاع فِي جَوَاز ذَلِك، وَالْجَوَاب عَن قَوْلهم: لَو صحت رُؤْيَة الله تَعَالَى ... إِلَخ أَن عدم الْوُقُوع لَا يسْتَلْزم عدم الْجَوَاز، فَإِن قَالُوا: الرُّؤْيَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِثمَانِيَة أَشْيَاء: سَلامَة الحاسة، وَكَون الشَّيْء بِحَيْثُ يكون جَائِز الرُّؤْيَة، وَأَن يكون المرئي مُقَابلا للرائي، أَو فِي حكم الْمُقَابل، فَالْأول كالجسم المحاذي للرائي وَالثَّانِي كالأعراض المرئية، فَإِنَّهَا لَيست مُقَابلَة للرائي إِذْ الْعرض لَا يكون مُقَابلا للجسم، وَلكنهَا حَالَة فِي الْجِسْم الْمُقَابل للرائي فَكَانَ فِي حكم الْمُقَابل، وَأَن لَا يكون المرئي فِي غَايَة الْقرب وَلَا فِي غَايَة الْبعد، وَأَن لَا يكون فِي غَايَة الصغر وَلَا فِي غَايَة اللطافة، وَأَن لَا يكون بَين الرَّائِي والمرئي حجاب.
قُلْنَا: الشَّرَائِط السِّتَّة الْأَخِيرَة لَا يُمكن اعْتِبَارهَا إلاَّ فِي رُؤْيَة الْأَجْسَام، وَالله تَعَالَى لَيْسَ بجسم، فَلَا يُمكن اعْتِبَار هَذِه الشَّرَائِط فِي رُؤْيَته، وَلَا يعْتَبر فِي حُصُول الرُّؤْيَة إلاَّ أَمْرَانِ: سَلامَة الحاسة، وَكَونه بِحَيْثُ يَصح أَن يرى، وَهَذَانِ الشرطان حاصلان.
فَإِن قلت: الْكَاف، فِي: كَمَا ترَوْنَ، للتشبيه، وَلَا بُد أَن تكون مُنَاسبَة بَين الرَّائِي والمرئي؟ قلت: معنى التَّشْبِيه فِيهِ أَنكُمْ تَرَوْنَهُ رُؤْيَة مُحَققَة لَا شكّ فِيهَا وَلَا مشقة وَلَا خَفَاء، كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر كَذَلِك فَهُوَ تَشْبِيه للرؤية بِالرُّؤْيَةِ لَا المرئي بالمرئي.

الْوَجْه الثَّانِي: فِيهِ زِيَادَة شرف الصَّلَاتَيْنِ، وَذَلِكَ لتعاقب الْمَلَائِكَة فِي وقتيهما، وَلِأَن وَقت صَلَاة الصُّبْح وَقت لَذَّة النّوم كَمَا قيل:
(ألذ الْكرَى عِنْد الصَّباح يطيب)

وَالْقِيَام فِيهِ أشق على النَّفس من الْقيام فِي غَيره، وَصَلَاة الْعَصْر وَقت الْفَرَاغ عَن الصناعات وإتمام الْوَظَائِف، وَالْمُسلم إِذا حَافظ عَلَيْهَا مَعَ مَا فِيهِ من التثاقل والتشاغل فَلِأَن يحافظ على غَيرهَا بِالطَّرِيقِ الأولى.

الْوَجْه الثَّالِث: مَا قَالَه الْخطابِيّ إِن قَوْله: (إفعلوا) ، يدل على أَن الرُّؤْيَة قد يُرْجَى نيلها بالمحافظة على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ.





[ قــ :540 ... غــ :555]
-
حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُف قَالَ حدَّثنا مالِكٌ عنْ أبي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أَبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ ومَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ باتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر) وَقد ذكرنَا أَن اقْتِصَاره فِي التَّرْجَمَة على الْعَصْر من بابُُ الإكتفاء.




[ قــ :540 ... غــ :555 ]
- حدَّثنا يَحْيَى حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حدَّثنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرنِي ابنُ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ علَيْهَا مَسْرُوراً تَبْرُقُ أسَارِيرُ وجْهِهِ فَقَالَ ألَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ المُدْلِجِيُّ لِزَيْدٍ وأُسَامَةَ ورَأي أقْدَامَهُمَا إنَّ بَعْضَ هاذِهِ الأقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( تبرق أسارير وَجهه) فَإِن هَذَا من جملَة صِفَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحيى: إِمَّا ابْن مُوسَى بن عبد ربه السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: خت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَإِمَّا يحيى بن جَعْفَر ابْن أعين البيكندي، وَكِلَاهُمَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَكِلَاهُمَا رويا عَن عبد الرَّزَّاق بن همام عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق.

قَوْله: ( مَسْرُورا) حَال، أَي: فرحان.
قَوْله: ( تبرق) بِضَم الرَّاء، أَي: تضيء وتستنير من الْفَرح، قَوْله: ( أسارير وَجهه) الأسارير جمع الْأَسْرَار، وَهُوَ جمع السرر: وَهِي الخطوط الَّتِي تكون فِي الجبين، وبرقانها يكون عِنْد الْفَرح.
قَوْله: ( ألم تسمعي) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة: ألم تسمعي مَا قَالَ المدلجي؟ بِضَم الْمِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَكسر اللَّام وبالجيم، واسْمه: مجزز، بِضَم الْمِيم وَفتح الْجِيم وَكسر الزَّاي الأولى الْمُشَدّدَة، ونسبته إِلَى مُدْلِج بن مرّة بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، بطن من كنَانَة كَبِير مَشْهُور بالقيافة، والقائف هُوَ من يتتبع الْآثَار ويعرفها وَيعرف شبه الرجل بأَخيه وَأَبِيهِ، وَالْجمع: الْقَافة، يُقَال: فلَان يقوف الْأَثر ويقتافه قيافة، مثل: قفا الْأَثر واقتفاه، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تقدح فِي نسب أُسَامَة بن زيد لكَونه أسود وَزيد أَبيض، فَمر بهما مجزز وهما تَحت قطيفة قد بَدَت أقدامهما من تحتهَا، فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض، فَلَمَّا قضى هَذَا الْقَائِف بإلحاق نسبه، وَكَانَت الْعَرَب تعتمد قَول الْقَائِف ويعترفون بحقية القيافة، فَرح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكَونه زجرا لَهُم عَن الطعْن فِي النّسَب، وَكَانَت أم أُسَامَة بركَة حبشية سَوْدَاء، وَكَانَ أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة بن شرَاحِيل بن كَعْب بن عبد الْعُزَّى، وَأمه أم أَيمن حاضنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُسمى حب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَاخْتلفُوا فِي الْعَمَل بقول الْقَائِف: فأثبته الشَّافِعِي وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث، وَالْمَشْهُور عَن مَالك إثْبَاته فِي الْإِمَاء ونفيه فِي الْحَرَائِر، ونفاه أَبُو حنيفَة مُطلقًا لقَوْله تَعَالَى: { وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} ( الْإِسْرَاء: 63) .
وَلَيْسَ فِي حَدِيث المدلجي دَلِيل على وجوب الحكم بقول الْقَافة لِأَن أُسَامَة كَانَ نسبه ثَابتا من زيد قبل ذَلِك، وَلم يحْتَج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك إِلَى قَول أحد، وَإِنَّمَا تعجب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِصَابَة مجزز كَمَا يتعجب من ظن الرجل الَّذِي يُصِيب ظَنّه حَقِيقَة الشَّيْء الَّذِي ظَنّه، وَلَا يثبت الحكم بذلك، وَترك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِنْكَار عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يتعاطَ فِي ذَلِك إِثْبَات مَا لم يكن ثَابتا.