فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الشهادة على الخط المختوم، وما يجوز من ذلك وما يضيق عليهم، وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي

( بابُُ الشَّهادَةِ عَلى الخَطِّ المَخْتُومِ وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذالِكَ وَمَا يَضيقُ عَلَيْهِمْوكِتابِ الحاكمِ إِلَى عامِلهِ، والقاضِي إِلَى القاضِي)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الشَّهَادَة على الْخط الْمَخْتُوم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الْمَحْكُوم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف، وَلَيْسَت هَذِه اللَّفْظَة بموجودة عِنْد ابْن بطال، وَمَعْنَاهُ: هَل تصح الشَّهَادَة على خطّ بِأَنَّهُ خطّ فلَان؟ وَقيد: بالمختوم، لِأَنَّهُ أقرب إِلَى عدم التزوير على الْخط.
قَوْله: وَمَا يجوز من ذَلِك أَي: من الشَّهَادَة على الْخط.
قَوْله: وَمَا يضيق أَي: وَمَا لَا يجوز من ذَلِك، وَحَاصِل الْمَعْنى أَن القَوْل بِجَوَاز الشَّهَادَة على الْخط لَيْسَ على الْعُمُوم نفيا وإثباتاً لِأَنَّهُ لَو منع مُطلقًا تضيع الْحُقُوق وَلَا يعْمل بِهِ مُطلقًا، لِأَنَّهُ لَا يُؤمن فِيهِ التزوير، فحينئذٍ يجوز ذَلِك بِشُرُوط، قَوْله: وَكتاب الْحَاكِم إِلَى عماله عطف على قَوْله: بابُُ الشَّهَادَة، أَي: وَفِي بَيَان جَوَاز كتاب الْحَاكِم إِلَى عماله، بِضَم الْعين وَتَشْديد الْمِيم جمع عَامل.
قَوْله: وَكتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي أَي: وَفِي بَيَان جَوَاز كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي، وَهَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على ثَلَاثَة أَحْكَام كَمَا رَأَيْتهَا وَيَجِيء الْآن بَيَان حكم كل مِنْهَا مَعَ بَيَان الْخلاف فِيهَا.

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتابُ الحاكِمِ جائِزٌ إِلَّا فِي الحُدُودِ، ثمَّ قَالَ: إنْ كانَ القتْلُ خَطَأً فَهْوَ جائِزٌ لأنَّ هاذَا مالٌ بِزَعْمِهِ، وإنَّما صارَ مَالا بَعْدَ أنْ ثَبَتَ القَتْلُ، فالخَطَأُ والعَمْدُ واحِدٌ.

أَرَادَ بِبَعْض النَّاس الْحَنَفِيَّة، وَلَيْسَ غَرَضه من ذكر هَذَا وَنَحْوه مِمَّا مضى إلاَّ التشنيع على الْحَنَفِيَّة لأمر جرى بَينه وَبينهمْ، وَحَاصِل غَرَض البُخَارِيّ من هَذَا الْكَلَام إِثْبَات المناقضة فِيمَا قَالَه الْحَنَفِيَّة، فَإِنَّهُم قَالُوا: كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي جَائِز إلاَّ فِي الْحُدُود، ثمَّ قَالُوا: إِن كَانَ الْقَتْل خطأ يجوز فِيهِ كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي، لِأَن قتل الْخَطَأ فِي نفس الْأَمر مَال لعدم الْقصاص، فَيلْحق بِسَائِر الْأَمْوَال فِي هَذَا الحكم، وَقَوله: وَإِنَّمَا صَار مَالا إِلَى آخِره بَيَان وَجه المناقضة فِي كَلَام الْحَنَفِيَّة حَاصله إِنَّمَا يصير قتل الْخَطَأ مَالا بعد ثُبُوته عِنْد الْحَاكِم، وَالْخَطَأ والعمد وَاحِد يَعْنِي فِي أول الْأَمر حكمهمَا وَاحِد لَا تفَاوت فِي كَونهمَا حدا، وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن يُقَال: لَا نسلم أَن الْخَطَأ والعمد وَاحِد، وَكَيف يَكُونَا وَاحِدًا وَمُقْتَضى الْعمد الْقصاص، وَمُقْتَضى الْخَطَأ عدم الْقصاص وَوُجُوب المَال لِئَلَّا يكون دم الْمَقْتُول خطأ هدرا، وَسَوَاء كَانَ هَذَا قبل الثُّبُوت أَو بعده.

وقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عامِلِهِ فِي الحُدُودِ.

أَي: كتب عمر بن الْخطاب إِلَى عَامله فِي الْحُدُود، وغرضه من إِيرَاد هَذَا، الردُّ على الْحَنَفِيَّة أَيْضا فِي عدم رُؤْيَتهمْ جَوَاز كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي فِي الْحُدُود، وَلَا يرد على مَا نذكرهُ، وَذكر هَذَا الْأَثر عَن عمر للرَّدّ عَلَيْهِم فِيمَا قَالُوهُ.
قَوْله: فِي الْحُدُود، رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: فِي الْجَارُود، بِالْجِيم وبالراء المضمومة وَفِي آخِره دَال مُهْملَة وَهُوَ الْجَارُود بن الْمُعَلَّى يكنى أَبَا غياث كَانَ سيداً فِي عبد الْقَيْس رَئِيسا، قَالَ ابْن إِسْحَاق: قدم على رَسُول الله فِي سنة عشر فِي وَفد عبد الْقَيْس وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم وَحسن إِسْلَامه، وَيُقَال: إِن اسْمه بشر بن عَمْرو، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: الْجَارُود، لِأَنَّهُ أغار فِي الْجَاهِلِيَّة على بكر بن وَائِل وَمن مَعَه فَأَصَابَهُمْ وجردهم وَسكن الْبَصْرَة إِلَى أَن مَاتَ وَقيل: بِأَرْض فَارس، وَقيل: قتل بِأَرْض نهاوند مَعَ النُّعْمَان بن مقرن فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين، وَله قصَّة مَعَ قدامَة بن مَظْعُون عَامل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الْبَحْرين أخرجهُمَا عبد الرَّزَّاق من طَرِيق عبد الله بن عَامر بن ربيعَة قَالَ: اسْتعْمل عمر قدامَة بن مَظْعُون، فَقدم الْجَارُود سيد عبد الْقَيْس على عمر فَقَالَ: إِن قدامَة شرب فَسَكِرَ، فَكتب عمر إِلَى قدامَة فِي ذَلِك، فَذكر الْقِصَّة بِطُولِهَا فِي قدوم قدامَة وَشَهَادَة الْجَارُود وَأبي هُرَيْرَة عَلَيْهِ، وَجلده الْحَد ... وَالْجَوَاب عَنهُ أَن كتاب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى عَامله لم يكن فِي إِقَامَة الْحَد، وَإِنَّمَا كَانَ لأجل كشف الْحَال.
أَلا يرى أَن عمر هُوَ الَّذِي أَقَامَ الْحَد فِيهِ بِشَهَادَة الْجَارُود وَأبي هُرَيْرَة؟ .

وكَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ فِي سِنَ كُسِرَتْ.

أَي: كتب إِلَى عَامله زُرَيْق بن حَكِيم فِي شَأْن سنّ كسرت، وَكَانَ كتب إِلَيْهِ كتابا أجَاز فِيهِ شَهَادَة رجل على سنّ كسرت، وَهَذَا وَصله أَبُو بكر الْخلال فِي كتاب الْقصاص والديات من طَرِيق عبد الله بن الْمُبَارك عَن حَكِيم بن زُرَيْق عَن أَبِيه، فَذكر مَا ذَكرْنَاهُ.

وَقَالَ إبْراهِيمُ كِتابُ القاضِي إِلَى القاضِي جائِز إِذا عَرَفَ الكِتابَ والخاتِمَ.

إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن عِيسَى بن يُونُس عَن عُبَيْدَة عَنهُ.

وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجيزُ الكِتابَ المَخْتُومَ بِما فِيهِ مِنَ القاضِي.

الشّعبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل التَّابِعِيّ الْكَبِير، وَوَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عِيسَى بن أبي عزة، قَالَ: كَانَ عمر يَعْنِي: الشّعبِيّ يُجِيز الْكتاب الْمَخْتُوم يَجِيئهُ من القَاضِي.

ويُرْواى عنِ ابْن عُمَرَ نَحْوُهُ.

أَي: يرْوى عَن عبد الله بن عمر نَحْو مَا رُوِيَ عَن الشّعبِيّ، وَلم يَصح هَذَا، فَلذَلِك ذكره بِصِيغَة التمريض.

وَقَالَ مُعاوِيَةُ بنُ عَبْدِ الكَرِيم الثَّقَفِيُّ: شَهِدْتُ عَبْدَ المَلِكِ بنَ يَعْلَى قاضِي البَصْرَةِ وإياسَ بنَ مُعاوِيَةَ والحَسَنِ وثُمامَةَ بنَ عَبْدِ الله بنِ أنَسٍ وبلالَ بنَ أبي بُرْدَةَ وعَبْدَ الله بن بُرَيْدَةَ الأسْلَمِيَّ وعامِرَ بنَ عُبِيدَةَ وعَبَّادَ بنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ القُضاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، فإنْ قَالَ الّذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالكِتابِ: إنّه زُورٌ، قيلَ لهُ: اذْهَبْ فالْتَمِسِ المَخْرَجَ مِنْ ذالِكَ.

مُعَاوِيَة بن عبد الْكَرِيم الثَّقَفِيّ الْمَعْرُوف بالضال بالضاد الْمُعْجَمَة وَاللَّام الْمُشَدّدَة، سمي بذلك لِأَنَّهُ ضل فِي طَرِيق مَكَّة، وَثَّقَهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَمَات سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة، وَوصل أَثَره وَكِيع فِي مُصَنفه عَنهُ.
قَوْله: شهِدت أَي: حضرت عبد الْملك بن يعلى بِوَزْن.
يرضى، التَّابِعِيّ الثِّقَة، ولاه يزِيد بن هُبَيْرَة قَضَاء الْبَصْرَة لما ولي إمارتها من قبل يزِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان، وَمَات على الْقَضَاء بعد الْمِائَة بِسنتَيْنِ أَو ثَلَاث، وَيُقَال: بل عَاشَ إِلَى خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك، فَعَزله.
قَوْله: وَإيَاس بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة ابْن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ الْمَعْرُوف بالذكاء، وَكَانَ قد ولي قَضَاء الْبَصْرَة فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ولاه عدي بن أَرْطَأَة عَامل عمر عَلَيْهَا بعد امْتنَاع مِنْهُ، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَمِائَة وَهُوَ ثِقَة عِنْد الْجَمِيع.
قَوْله: وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ الإِمَام الْمَشْهُور، وَكَانَ ولي قَضَاء الْبَصْرَة مُدَّة لَطِيفَة، ولاه عدي بن أَرْطَاة عاملها وَأَبوهُ يسَار رأى مائَة وَعشْرين من أَصْحَاب رَسُول الله، مَاتَ فِي شهر رَجَب سنة عشر وَمِائَة وَهُوَ ابْن تسع وَثَمَانِينَ سنة.
قَوْله: وثمامة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الميمين ابْن عبد الله بن أنس بن مَالك، وَكَانَ تابعياً ثِقَة، ولي قَضَاء الْبَصْرَة فِي أَوَائِل خلَافَة ابْن هِشَام بن عبد الْملك، ولاه خَالِد الْقَسرِي سنة سِتّ وَمِائَة، وعزله سنة عشر، وَولى بِلَال بن أبي بردة، وَمَات ثُمَامَة بعد ذَلِك، روى عَن جده أنس بن مَالك والبراء بن عَازِب.
قَوْله: وبلال بن أبي بردة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة اسْمه عَامر أَو الْحَارِث بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَكَانَ صديق خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فولاه قَضَاء الْبَصْرَة لما ولي إمرتها من قبل هِشَام بن عبد الْملك، وَضم إِلَيْهِ الشرطة وَكَانَ أَمِيرا وقاضياً، إِلَى أَن قَتله يُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ لما ولي الإمرة بعد خَالِد، وَلم يكن مَحْمُودًا فِي أَحْكَامه.
قَوْله: وَعبد الله بن بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء الْأَسْلَمِيّ التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، وَكَانَ ولي قَضَاء مرو بعد أَخِيه سُلَيْمَان سنة خمس وَمِائَة إِلَى أَن مَاتَ وَهُوَ على قَضَائهَا سنة خمس عشرَة وَمِائَة، وَذَلِكَ فِي ولَايَة أَسد بن عبد الله الْقَسرِي على خُرَاسَان، وَهُوَ أَخُو خَالِد الْقَسرِي.
وَحَدِيث عبد الله بن بُرَيْدَة الْحصيب هَذَا فِي الْكتب السِّتَّة.
قَوْله: وعامر بن عُبَيْدَة بِضَم الْعين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقيل: عَبدة، بِفتْحَتَيْنِ، وَقيل: عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء وَهُوَ تَابِعِيّ قديم ثِقَة، وَحَدِيثه عِنْد النَّسَائِيّ وعامر كَانَ ولي الْقَضَاء بِالْكُوفَةِ مرّة.
قَوْله: وَعباد بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن مَنْصُور النَّاجِي بالنُّون وَالْجِيم أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ، قَالَ أَبُو دَاوُد: ولي قَضَاء الْبَصْرَة خمس مَرَّات، وَكَانَ يرْمى بِالْقدرِ فَلذَلِك ضَعَّفُوهُ، وَحَدِيثه فِي السّنَن الْأَرْبَعَة وعلق لَهُ البُخَارِيّ شَيْئا، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة.
قَوْله: يجيزون جملَة حَالية.
قَوْله: فالتمس الْمخْرج بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة أَي: اطلب الْخُرُوج من عُهْدَة ذَلِك إِمَّا بالقدح فِي الْبَيِّنَة بِمَا يقبل فَتبْطل الشَّهَادَة، وَإِمَّا بِمَا يدل على الْبَرَاءَة من الْمَشْهُود بِهِ.

وأوَّلُ مَنْ سَألَ عَلى كِتابِ القاضِي البَيِّنَةَ ابنُ أبي لَيْلَى وسَوَّارُ بنُ عَبْدِ الله.

ابْن أبي ليلى هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى، وَاسم أبي ليلى يسَار قَاضِي الْكُوفَة، وَأول مَا وَليهَا فِي زمن يُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ فِي خلَافَة الْوَلِيد بن يزِيد، وَمَات سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة وَهُوَ صَدُوق اتَّفقُوا على ضعف حَدِيثه من قبل سوء حفظه وَحَدِيثه فِي السّنَن الْأَرْبَعَة.
وسوار بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو ابْن عبد الله الْعَنْبَري نِسْبَة إِلَى بني العنبر من بني تَمِيم قَالَ ابْن حبَان فِي الثِّقَات: كَانَ فَقِيها ولاه الْمَنْصُور قَضَاء الْبَصْرَة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة فَبَقيَ على قَضَائهَا إِلَى أَن مَاتَ فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة.

{ وَقَالَ لنا أبُو نُعَيْمٍ: حدّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُحْرِزٍ جِئْتُ بِكِتابٍ مِنْ مُوساى بن أنَسٍ قاضِي البَصْرَةِ وأقَمْتُ عِنْدَهُ البَيِّنَةَ أنَّ لي عِنْدَ فُلانٍ كَذاا وكَذاا وهْوَ بِالكُوفَةِ وجِئْتُ بِهِ القَاسِمَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ فأجازَهُ} .

أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ نَقله عَنهُ مذاكرة، وَعبيد الله بن مُحرز بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره زَاي هُوَ كُوفِي، وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْأَثر، ومُوسَى بن أنس بن مَالك قَاضِي الْبَصْرَة التَّابِعِيّ الْمَشْهُور ثِقَة، وَحَدِيثه فِي الْكتب السِّتَّة، وَكَانَ ولي الْقَضَاء بِالْبَصْرَةِ فِي ولَايَة الحكم بن أَيُّوب الثَّقَفِيّ، وَالقَاسِم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن مَسْعُود وَكَانَ على قَضَاء الْبَصْرَة من عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ لَا يَأْخُذ على الْقَضَاء أجرا، وَكَانَ ثِقَة صَالحا من التَّابِعين، لَقِي جَابر بن سَمُرَة، قيل: إِنَّه مَاتَ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة.
قَوْله: فَأَجَازَهُ بِالْجِيم أَي: أَمْضَاهُ وَعمل بِهِ، وَفِي مُغنِي الْحَنَابِلَة يشْتَرط فِي قَول أَئِمَّة الْفَتْوَى أَن يشْهد بِكِتَاب القَاضِي إِلَى القَاضِي شَاهِدَانِ عَدْلَانِ وَلَا يَكْفِي مَعْرفَته خطّ القَاضِي وختمه، وَحكى عَن الْحسن وسوار وَالْحسن الْعَنْبَري أَنهم قَالُوا: إِذا كَانَ يعرف خطه وختمه قبله، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر أَيْضا.
وَفِي التَّوْضِيح وَاخْتلفُوا إِذا أشهد القَاضِي شَاهِدين على كِتَابه وَلم يقرأه عَلَيْهِمَا وَلَا عرفهما بِمَا فِيهِ، فَقَالَ مَالك: يجوز ذَلِك وَيلْزم القَاضِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ قبُوله.
بقول الشَّاهِدين: هَذَا كِتَابه دَفعه إِلَيْنَا مَخْتُومًا،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: إِذا لم يقرأه عَلَيْهِمَا القَاضِي وَلم يحرره لم يعْمل القَاضِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ بِمَا فِيهِ، وَرُوِيَ عَن مَالك مثله، وَاخْتلفُوا إِذا انْكَسَرَ ختم الْكتاب، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَزفر: لَا يقبله الْحَاكِم،.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف: يقبله وَيحكم بِهِ إِذا شهِدت بِهِ الْبَيِّنَة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.
وكَرِهَ الحَسَنُ وأبُو قِلاَبَةَ أنْ يَشْهَدَ عَلى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيها لأنَّه لَا يَدْرِي لَعَلَّ فِيها جَوْراً.

الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَأَبُو قلَابَة بِكَسْر الْقَاف وَتَخْفِيف اللَّام هُوَ عبد الله بن زيد الْجرْمِي بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء.
قَوْله: أَن يشْهد بِفَتْح الْيَاء وفاعله مَحْذُوف تَقْدِير: أَن يشْهد أحد على وَصِيَّة ... إِلَى آخِره.
قَوْله: جوراً بِفَتْح الْجِيم وَهُوَ فِي الأَصْل: الظُّلم، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا غير الْحق،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: هَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي لَا شكّ فِيهِ أَنه لَا يشْهد على وَصِيَّة حَتَّى يعلم مَا فِيهَا، وَتعقبه ابْن التِّين فَقَالَ: لَا أَدْرِي لم صَوبه وَهِي إِن كَانَ فِيهَا جور يُوجب الحكم أَن لَا يمْضِي لَا يمض وَإِن كَانَ يُوجب الحكم إمضاءه يمض، وَمذهب مَالك: جَوَاز الشَّهَادَة على الْوَصِيَّة وَإِن لم يعلم الشَّاهِد مَا فِيهَا.

وقَدْ كَتَبَ النبيُّ إِلَى أهْلِ خَيْبَرَ: إمَّا أنْ يَدُوا صاحِبَكُمْ وإمَّا أنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ.

هَذَا قِطْعَة من حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة فِي قصَّة حويصة ومحيصة وَقتل عبد الله بن سهل بِخَيْبَر، وَسَيَأْتِي هَذَا بعد عدَّة أَبْوَاب فِي: بابُُ كتاب الْحَاكِم إِلَى عماله.
قَوْله: إِمَّا أَن يدوا أَي: إِمَّا أَن يُعْطوا الدِّيَة، وَهُوَ من ودى يَدي إِذا أعْطى الدِّيَة، وأصل: يدوا، يوديوا، فحذفت الْوَاو الَّتِي هِيَ فَاء الْفِعْل فِي الْمُفْرد لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة، ثمَّ حذفت فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع تبعا للمفرد، ثمَّ نقلت ضمة الْيَاء إِلَى الدَّال فَالتقى ساكنان وهما الْيَاء وَالْوَاو فحذفت الْيَاء وَلم يحذف الْوَاو لِأَنَّهُ عَلامَة الْجمع، فَصَارَ: يدوا، على وزن: يعلوا.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي شَهادَةٍ عَلى المَرْأةِ مِنْ وراءِ السِّتْرِ: إنْ عَرَفْتَها فاشْهَدْ، وَإِلَّا فَلاَ تَشْهَدْ.

أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ فِي حكم الشَّهَادَة على الْمَرْأَة: إِن عرفهَا الشَّاهِد يشْهد لَهَا وَعَلَيْهَا، وَإِن لم يعرفهَا فَلَا يشْهد.
قَوْله: فِي شَهَادَة ويروى: فِي الشَّهَادَة، بِالْألف وَاللَّام.
قَوْله: من وَرَاء السّتْر إِمَّا بالتنقب وَإِمَّا بِغَيْر ذَلِك، وَحَاصِله أَنه إِذا عرفهَا بِأَيّ طَرِيق كَانَ يجوز الشَّهَادَة عَلَيْهَا، وَلَا يشْتَرط أَن يَرَاهَا حَال الْإِشْهَاد.

وَأثر الزُّهْرِيّ هَذَا وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق جَعْفَر بن يرقان عَنهُ، وَمذهب مَالك: جَوَاز شَهَادَة الْأَعْمَى فِي الْإِقْرَار وَفِي كل مَا طَرِيقه الصَّوْت سَوَاء عِنْده تحملهَا أعمى أَو بَصيرًا ثمَّ عمي،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا تقبل إِذا تحملهَا أعمى، وَدَلِيل مَالك أَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رووا عَن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ من وَرَاء حجاب وميزوا أشخاصهن بالصوت، وَكَذَا آذان ابْن أم مَكْتُوم، وَلم يفرقُوا بَين ندائه ونداء بِلَال إلاَّ بالصوت، وَلِأَن الْإِقْدَام على الْفروج أَعلَى من الشَّهَادَة بالحقوق، وَالْأَعْمَى لَهُ وَطْء زَوجته وَهُوَ لَا يعرفهَا إِلَّا بالصوت، وَهَذَا لم يمْنَع مِنْهُ أحد.



[ قــ :6780 ... غــ :7162 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، حدّثنا غُنْدَرٌ، حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَة عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ: لَمَّا أرادَ النبيُّ أنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قالُوا: إنَّهُمْ لَا يَقْرَأونَ كِتاباً إلاّ مَخْتُوماً، فاتَّخَذَ النبيُّ خاتَماً مِنْ فِضَّةٍ كأنِّي أنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ، ونَقَّشُهُ: مُحَمَّدٌ رسولُ الله.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا مُشْتَمِلَة على أَحْكَام.
مِنْهَا الشَّهَادَة على الْخط الْمَخْتُوم، وَهَذَا الحَدِيث فِيهِ الْخط والختم.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الْكتاب إِذا لم يكن مَخْتُومًا فالحجة بِمَا فِيهِ قَائِمَة لكَونه أَرَادَ أَن يكْتب إِلَيْهِم.
قَالُوا: إِنَّهُم لَا يقرؤون كتابا إِلَّا مَخْتُومًا فَلذَلِك اتخذ خَاتمًا من فضَّة.

والْحَدِيث تقدم بَيَانه شرح حَدِيث أبي سُفْيَان مطولا فِي بَدْء الْوَحْي.
وَأخرجه هُنَا عَن مُحَمَّد بن بشار الَّذِي يُقَال لَهُ بنْدَار عَن غنْدر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر.

قَوْله: وبيصه بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالصاد الْمُهْملَة أَي: بريقه ولمعانه.
<"