فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم، والغلو في الدين والبدع

( بابُُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ والتَّنازُعِ فِي العِلْمِ والعُلُوِّ فِي الدِّينِ والبِدَعِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا يكره من التعمق وَهُوَ التشدد فِي الْأَمر حَتَّى يتَجَاوَز الْحَد فِيهِ.
قَوْله: والتنازع فِي الْعلم، أَي: التجادل فِيهِ يَعْنِي عِنْد الِاخْتِلَاف فِي الحكم إِذا لم يَتَّضِح الدَّلِيل فِيهِ.
قَوْله: والغلو، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَاللَّام وَتَشْديد الْوَاو وَهُوَ التجاوز فِي الْحَد، قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: الغلو فَوق التعمق وَهُوَ من غلا فِي الشَّيْء يغلو غلواً، وغلا فِي السّعر يغلو غلاءً، وَورد النَّهْي عَنهُ صَرِيحًا فِيمَا أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم من طَرِيق أبي الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله فَذكر حَدِيثا وَفِيه: وَإِيَّاكُم والغلو فِي الدّين فَإِنَّمَا أهلك من قبلكُمْ الغلو فِي الدّين، وَهُوَ مثل الْبَحْث فِي الربوبية حَتَّى يحصل نزغة من نزغات الشَّيْطَان فَيُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوج عَن الْحق، وَالَّذين غلوا فِي الفكرة آل بهم الْأَمر إِلَى أَن جعلُوا آلِهَة ثَلَاثَة، تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا، قَوْله: والبدع جمع بِدعَة وَهِي مَا لم يكن لَهُ أصل فِي الْكتاب وَالسّنة، وَقيل: إِظْهَار شَيْء لم يكن فِي عهد رَسُول الله وَلَا فِي زمن الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

لِقَوْلِهِ تَعَالى: { ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَاثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وَمَا فِى السَّمَاوَات وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
احْتج بِهَذِهِ الْآيَة على تَحْرِيم الغلو فِي الدّين، وَأهل الْكتاب: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَإِذا قُلْنَا: إِن لفظ أهل الْكتاب للتعميم يتَنَاوَل غير الْيَهُود وَالنَّصَارَى بالإلحاق.



[ قــ :6908 ... غــ :7299 ]
- حدّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ، حدّثنا هِشامٌ، أخبرنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهرِيِّ عَن أبي سَلَمَة، عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تُوَاصِلُوا قالُوا: إنّكَ تُوَاصلُ.
قَالَ: إنِّي لَسْتُ مِثْلكُمْ إنِّي أبِيتُ يُطْعِمُني رَبِّي ويَسْقِيني فَلَمْ يَنْتَهُوا عَن الوصالِ، قَالَ: فَوَاصَلَ بِهِم النبيُّ يَوْمَيْنِ أوْ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ رأُوا الهَلاَلَ فَقَالَ النبيُّ لَوْ تَأخَّرَ الهِلاَلُ لَزِدْتُكُمْ كالمُنَكِّلِ لَهُمْ
ا
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة هُنَا أصلا، ورد بِأَن عَادَته جرت بإيراد مَا لَا يُطَابق التَّرْجَمَة ظَاهرا لَكِن يُنَاسِبهَا طَرِيق من طرق الحَدِيث الَّذِي يُورِدهُ، وَهنا كَذَلِك.

وَمضى فِي حَدِيث أنس فِي كتاب التَّمَنِّي قَالَ: وَاصل النَّبِي، آخر الشَّهْر وواصل أنَاس من النَّاس، فَبلغ النَّبِي، فَقَالَ: لَو مد بِي الشَّهْر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إِنِّي لست مثلكُمْ، إِنِّي أظل يطعمني رَبِّي ويسقيني، فَإِن هَذَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَحَدِيث الْوِصَال وَاحِد وَإِن كَانَ رِوَايَة الصَّحَابَة مُتعَدِّدَة، وَقد رَوَاهُ فِي كتاب الصّيام فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب عَن أنس وَابْن عمر وَابْن سعيد وَعَن عَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة، وَحَدِيث الْبابُُ رَوَاهُ فِي: بابُُ التنكيل لمن أَكثر الْوِصَال، أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَهنا أخرجه عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي عَن هِشَام بن يُوسُف الْيَمَانِيّ قاضيها، عَن معمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.

قَوْله: لَا تواصلوا أَي: فِي الصَّوْم.
قَوْله: إِنِّي أَبيت يطعمني رَبِّي ويسقيني قيل: إِذا كَانَ يطعمهُ الله لَا يكون مواصلاً بل مُفطرا.
وَأجِيب: بِأَن المُرَاد بِالْإِطْعَامِ لَازمه وَهُوَ التقوية، أَو المُرَاد من طَعَام الْجنَّة وَهُوَ لَا يفْطر آكله، قَوْله: فَلم ينْتَهوا عَن الْوِصَال قيل: لم خالفوا النَّهْي؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُم ظنُّوا أَنه لَيْسَ للتَّحْرِيم.
قَوْله: لزدتكم أَي: فِي المواصلة حَتَّى تعجزوا عَنهُ وَعَن سَائِر الطَّاعَات.
قَوْله: كالمنكل أَي: كالمعاقب من التنكيل وَهُوَ التعذيب وَمِنْه النكال، هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين والكشميهني، ويروى: كالمنكي، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَبعد الْكَاف يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة من النكاية والإنكاء وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر عَن السَّرخسِيّ، وَعَن الْمُسْتَمْلِي: كالمنكر، من الْإِنْكَار، وَمضى فِي كتاب الصَّوْم من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: كالتنكيل لَهُم حِين أَبُو أَن ينْتَهوا.





[ قــ :6909 ... غــ :7300 ]
- حدّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِياثٍ، حدّثنا أبي، حَدثنَا الأعْمَشُ، حدّثني إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ حدّثني أبي قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ، رَضِي الله عَنهُ، عَلى منبَرٍ مِنْ آجُرَ وعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَة مُعَلَّقَةَ، فَقَالَ: وَالله، مَا عِنْدَنا مِنْ كِتاب يُقْرَأُ إلاّ كِتابُ الله وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، فَنَشَرَها فإذَا فِيها أسْنانُ الإبِلِ، وَإِذا فِيها: المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أحْدَثَ فِيها حَدَثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ الله مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً؛ وَإِذا فِيهِ: ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ يَسْعاى بِها أدْناهُمْ، فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ الله مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً، وَإِذا فِيها: مَنْ وَالَى قَوْماً بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ الله مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً.

ا
مطابقته للتَّرْجَمَة مَا قَالَه الْكرْمَانِي: لَعَلَّه اسْتَفَادَ من قَول عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تبكيت من تنطع فِي الْكَلَام وَجَاء بِغَيْر مَا فِي الْكتاب وَالسّنة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: الْغَرَض من إِيرَاد الحَدِيث هُنَا لعن من أحدث حَدثا فَإِنَّهُ وَإِن قيد فِي الْخَبَر بِالْمَدِينَةِ فَالْحكم عَام فِيهَا وَفِي غَيرهَا إِذا كَانَ من متعلقات الدّين.
انْتهى.
قلت: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الْمُنَاسب لألفاظ التَّرْجَمَة، وَالَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل بعيد من ذَلِك يعرف بِالتَّأَمُّلِ.

وَشَيخ البُخَارِيّ يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث بالغين الْمُعْجَمَة والثاء الْمُثَلَّثَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، وَإِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه يزِيد بن شريك التَّيْمِيّ.

والْحَدِيث مضى فِي آخر الْحَج فِي: بابُُ حرم الْمَدِينَة، وَمضى الْكَلَام مُسْتَوفى فِيهِ، ولنذكر بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة.

قَوْله: من آجر قَالَ الْكرْمَانِي: الْآجر بِالْمدِّ وَضم الْجِيم وَتَشْديد الرَّاء مُعرب،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الْآجر الَّذِي يبْنى بِهِ فَارسي مُعرب، وَيُقَال أَيْضا: آجور، على وزن فاعول.
.

     وَقَالَ  فِي بابُُ الدَّال: الترميد الْآجر.
قلت: فِي لُغَة أهل مصر هُوَ الطوب المشوي.
قَوْله: أَسْنَان الْإِبِل أَي: إبل الدِّيات لاختلافها فِي الْعمد وَالْخَطَأ.
وَشبه الْعمد.
قَوْله: عير بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء جبل بِمَكَّة.
قَوْله: إِلَى كَذَا كِنَايَة عَن مَوضِع أَو جبل.
قَوْله: حَدثا أَي: بِدعَة أَو ظلما.
قَوْله: لعنة الله المُرَاد باللعنة هُنَا الْبعد عَن الْجنَّة أول الْأَمر بِخِلَاف لعنة الْكفَّار فَإِنَّهَا الْبعد عَنْهَا كل الإبعاد أَولا وآخراً.
قَوْله: صرفا وَلَا عدلا الصّرْف الْفَرِيضَة وَالْعدْل النَّافِلَة، وَقيل بِالْعَكْسِ.
قَوْله: وَإِذا فِيهَا ذمَّة الْمُسلمين أَي: فِي الصَّحِيفَة، ويروى: فِيهِ، أَي: فِي الْكتاب، والذمة الْعَهْد والأمان يَعْنِي أَمَان الْمُسلم للْكَافِرِ صَحِيح، والمسلمون كَنَفس وَاحِدَة فَيعْتَبر أَمَان أَدْنَاهُم من العَبْد وَالْمَرْأَة وَنَحْوهمَا.
قَوْله: فَمن أَخْفَر أَي: نقض عَهده قَوْله: والى أَي: نسب نَفسه إِلَيْهِم كانتمائه إِلَى غير أَبِيه أَو انتمائه إِلَى غير مُعْتقه وَذَلِكَ لما فِيهِ من كفر النِّعْمَة وتضييع حُقُوق الْإِرْث وَالْوَلَاء وَقطع الرَّحِم وَنَحْوه، وَلَفظ: بِغَيْر إِذن موَالِيه لَيْسَ لتقييد الحكم بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِيرَاد الْكَلَام على مَا هُوَ الْغَالِب.





[ قــ :6910 ... غــ :7301 ]
- حدّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ، حدّثنا أبي، حَدثنَا الأعْمَشُ، حدّثنا مُسْلِمٌ، عنْ مَسْرُوق قَالَ: قالَتْ عائِشَةُ، رَضِي الله عَنْهَا: صَنَعَ النبيُّ شَيْئاً تَرَخَّصَ فِيهِ وتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذالِكَ النبيَّ فَحَمِدَ الله ثُمَّ قَالَ: مَا بالُ أقْوامٍ يَتَنَزَّهُونَ عنِ الشَّيءِ أصْنَعُهُ؟ فَوالله إنِّي أعْلَمُهُمْ بِالله وأشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً.

انْظُر الحَدِيث 6101
مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ترخص فِيهِ وتنزه عَنهُ قوم لِأَن تنزيههم عَمَّا رخص فِيهِ النَّبِي تعمق.

وَالثَّلَاثَة الأول من رجال الحَدِيث قد ذكرُوا الْآن، وَمُسلم قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون ابْن صبيح مصغر الصُّبْح وَيحْتَمل أَن يكون ابْن أبي عمرَان البطين بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة لِأَنَّهُمَا يرويان عَن مَسْرُوق وَالْأَعْمَش يروي عَنْهُمَا.
.

     وَقَالَ  غَيره: هُوَ مُسلم بن صبيح أَبُو الضُّحَى مَشْهُور بكنيته أَكثر من اسْمه، وَقد وَقع عِنْد مُسلم مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة جرير عَن الْأَعْمَش فَقَالَ: عَن أبي الضُّحَى بِهِ، قلت: وَكَذَا نَص عَلَيْهِ الْحَافِظ الْمزي، فَقَالَ: مُسلم بن صبيح أَبُو الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة، ثمَّ ذكر الحَدِيث الْمَذْكُور.

وَقد مضى الحَدِيث فِي الْأَدَب فِي: بابُُ من لم يواجه بالعتاب.

قَوْله: صنع النَّبِي شَيْئا فَرخص فِيهِ أَي: أسهل فِيهِ مثل الْإِفْطَار فِي بعض الْأَيَّام وَالصَّوْم فِي بَعْضهَا من غير رَمَضَان، وَمثل التَّزَوُّج وتنزه قوم عَنهُ أَي: احترزوا عَنهُ بِأَن سردوا الصَّوْم واختاروا الْعُزُوبَة، وَأَشَارَ ابْن بطال إِلَى أَن الَّذِي تنزهوا عَنهُ الْقبْلَة للصَّائِم،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: التَّنَزُّه عَمَّا رخص فِيهِ الشَّارِع من أعظم الذُّنُوب لِأَن هَذَا يرى نَفسه أتقى فِي ذَلِك من رَسُوله، وَهَذَا إلحاد.
وَكَذَا قَالَ ابْن التِّين: وَلَا شكّ أَنه إلحاد إِذا اعْتقد ذَلِك قَوْله: أعلمهم بِاللَّه إِشَارَة إِلَى الْقُوَّة العلمية، وأشدهم خشيَة إِلَى الْقُوَّة العملية، أَي: هم يتوهمون أَن رغبتهم عَمَّا فعلت أفضل لَهُم عِنْد الله، وَلَيْسَ كَمَا توهموا، إِذْ أَنا أعلمهم بالأفضل وأولاهم بِالْعَمَلِ.





[ قــ :6911 ... غــ :730 ]
- حدّثني مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ، أخبرنَا وَكِيعٌ، عنْ نافعِ بنِ عُمَرَ، عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ قَالَ: كادَ الخَيِّرانِ أنْ يَهْلِكا أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ لَمَّا قَدِمَ عَلى النبيِّ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ أشارَ أحَدُهُما بالأقْرَعِ بن حابِسٍ التَّيْميِّ الحَنْظَلِيِّ أخِي بَنِي مُجاشِعٍ، وأشارَ الآخَرُ بِغَيْرِهِ، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: إنّما أرَدْتَ خِلافي فَقَالَ عُمَرُ: مَا أرَدْتُ خِلافَكَ.
فارْتَفَعتْ أصْواتُهُما عِنْدَ النبيَّ فَنَزَلَتْ { ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُو اْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} إِلَى قَوْله { عَظِيم} .

قَالَ ابنُ أبي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابنُ الزُّبَيْرِ: فَكانَ عُمَرُ بَعْدُ ولَمْ يَذْكُرْ ذالِكَ عَن أبِيهِ يَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ إِذا حَدَّثَ النبيَّ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كأخِي السِّرارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حتَّى يَسْتَفْهِمَهُ.


مطابقته للجزء الثَّانِي وَهُوَ التَّنَازُع فِي الْعلم تُؤْخَذ من قَوْله: فارتفعت أصواتهما أَي: أصوات أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَمَا يَجِيء الْآن، وَكَانَ تنازعهما فِي تَوْلِيَة اثْنَيْنِ فِي الْإِمَارَة كل مِنْهُمَا كَانَ يُرِيد تَوْلِيَة خلاف مَا يُريدهُ الآخر فتحاربا على ذَلِك عِنْد النَّبِي وَارْتَفَعت أصواتهما فَأنْزل الله تَعَالَى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُو اْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} إِنَّمَا قُلْنَا: تنازعهما فِي الْعلم لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا أَشَارَ بالتولية لكل وَاحِد من الِاثْنَيْنِ وَاخْتلفَا، وَقد ذكرنَا أَن معنى التَّنَازُع فِي الْعلم الِاخْتِلَاف.

وَشَيخ البُخَارِيّ مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي المجاور بِمَكَّة، وَنَافِع بن عمر الجُمَحِي يروي عَن عبد الله بن أبي مليكَة بِضَم الْمِيم واسْمه زُهَيْر الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي على عهد عبد الله بن الزبير.

والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة الحجرات فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يسرة بن صَفْوَان عَن نَافِع بن عمر إِلَى آخِره.

قَوْله: الخيّران تَثْنِيَة خيّر بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَكْسُورَة، وَأَرَادَ بهما أَبَا بكر وَعمر، وفسرهما بقوله: أَبُو بكر وَعمر أَي: هما أَبُو بكر وَعمر.
قَوْله: لما قدم على النَّبِي وَفد بني تَمِيم وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: ركب بني تَمِيم.
قَوْله: أَشَارَ أَحدهمَا أَي: أحد الخيرين وَهُوَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بتأمير الْأَقْرَع بن حَابِس الْحَنْظَلِي أخي بني مجاشع، أَي: وَاحِد مِنْهُم، وَبَنُو مجاشع بِضَم الْمِيم وبالجيم والشين الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة ابْن دارم بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم وَكَانَت عامتهم بِالْبَصْرَةِ.
قَوْله: وَأَشَارَ الآخر أَرَادَ بِهِ أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: بِغَيْرِهِ أَي: بِغَيْر الْأَقْرَع وَهُوَ الْقَعْقَاع بن معبد بن زُرَارَة التَّمِيمِي أحد وَفد بني تَمِيم، وَكَانَا يطلبان الْإِمَارَة، وَلما تنَازع أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي ذَلِك وَارْتَفَعت أصواتهما عِنْد النَّبِي نزلت: إِلَى قَوْله { ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُو اْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وَقيل: نزلت فِي غير ذَلِك على مَا ذكره فِي التَّفْسِير.
قَوْله: { وَلَا تَجْهَرُوا بالْقَوْل} أَي: فِي المخاطبة، وَقيل: لَا تَدعُوهُ باسمه: يَا مُحَمَّد، كَمَا يَدْعُو بَعْضكُم بَعْضًا.
قَوْله: { أَن تحبط أَعمالكُم} أَي: خشيَة أَن تحبط أَعمالكُم، وَالْحَال أَي: لَا تعلمُونَ.
قَوْله: { إِن الَّذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتهم} الغض النَّقْض من كل شَيْء قَوْله: للتقوى أَي: أخْلص من الْمعْصِيَة.
قَوْله:
قَالَ ابْن الزبير أَي: عبد الله بن الزبير: فَكَانَ عمر بعد أَي: بعد نزُول هَذِه الْآيَة إِذا حدث النَّبِي إِلَى آخِره.
قَوْله: وَلم يذكر عَن أَبِيه يَعْنِي أَبَا بكر معترض بَين قَوْله: بعد وَبَين قَوْله: إِذا حدث وَفسّر قَوْله: عَن أَبِيه بقوله: يَعْنِي أَبَا بكر وَلم يكن أَبُو بكر أَبَا لعبد الله بن الزبير حَقِيقَة وَإِنَّمَا كَانَ جده للْأُم وَأطلق عَلَيْهِ الْأَب وَفهم مِنْهُ أَن الْجد للْأُم يُسمى أَبَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} وَالْجد للْأُم دَاخل فِي ذَلِك.
قَوْله: كَأَخِي السرَار قَالَ أَبُو الْعَبَّاس النَّحْوِيّ لفظ: أخي، صلَة أَي: صَاحب الْمُشَاورَة، والسرار بِكَسْر السِّين،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: كَأَخِي السرَار السرَار المساررة أَي: كصاحب السرَار وكمثل المساررة لخفص صَوته.
قَوْله: لم يسمعهُ بِضَم الْيَاء أَي: لم يسمع عمر النبيَّ حَدِيثه حَتَّى يستفهم النَّبِي مِنْهُ، من الِاسْتِفْهَام وَهُوَ طلب الْفَهم.





[ قــ :691 ... غــ :7303 ]
- حدّثنا إسْماعِيلُ، حدّثني مالِكٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أنَّ رسولَ الله قَالَ فِي مَرَضِهِ: مُرُوا أَبَا بَكْرِ يُصَلِّي بالنَّاسِ قالتْ عائِشَةُ.

قُلْتُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ إذَا قامَ فِي مَقَامِكَ لَم يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنِّاسِ فقالَتْ عائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي: إنَّ أَبَا بَكْرٍ إذَا قامَ فِي مَقامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النّاسَ مِنَ البُكاء، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بالنَّاس، فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقَالَ رسولُ الله إنَّكُنَّ لأنْتُنَّ صَواحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فقالَتْ حَفْصَةُ لِعائِشَة: مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْراً.

ا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ المراددة والمراجعة فِي الْأَمر وَهُوَ مَذْمُوم دَاخل فِي معنى التعمق لِأَن التعمق الْمُبَالغَة فِي الْأَمر وَالتَّشْدِيد فِيهِ.

وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس.

والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب من أَبْوَاب الْإِمَامَة آخرهَا: بابُُ إِذا بَكَى الإِمَام فِي الصَّلَاة.
وَأخرجه هُنَاكَ عَن إِسْمَاعِيل أَيْضا إِلَى آخِره.

قَوْله: فَفعلت حَفْصَة أَي: قَالَت، لِأَن الْفِعْل أَعم الْأَفْعَال.
قَوْله: صَوَاحِب يُوسُف أَي: أنتن تشوشن الْأَمر عليّ كَمَا أَنَّهُنَّ شوشن على يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام.





[ قــ :6913 ... غــ :7304 ]
- حدّثنا آدَمُ، حَدثنَا ابنُ أبي ذئْبٍ، حَدثنَا الزُّهْرِيُّ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: جاءَ عُوَيْمِرٌ العَجْلاَنِيُّ إِلَى عاصِمِ بنِ عَدِيَ فَقَالَ: أَرَأيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلاً فَيَقْتُلُهُ أفَتَقْتُلُونَهُ بِهِ؟ سَلْ لِي يَا عاصِمُ رسولَ الله فَسألَهُ فَكَرِهَ النَّبيُّ المَسائِلَ وَعَابَ، فَرَجَعَ عاصِمٌ فأخْبَرَهُ أنَّ النَّبيَّ كَرِهَ المَسائِلَ فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَالله لآتِيَنَّ النَّبيَّ فَجاءَ وقَدْ أنْزَلَ الله تَعَالَى القُرْآنَ خَلْفَ عاصِم، فَقَالَ لَهُ: قَدْ أنْزَلَ الله فِيكُمْ قُرْآناً، فَدَعا بِهِما فَتَقدَّما فَتَلاعَنا، ثُمَّ قَالَ عُوَيْمرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْها يَا رسولَ الله إنْ أمْسَكْتُها.
فَفَارَقَها ولَمْ يَأْمُرُهُ النبيُّ بِفِراقِها، فَجَرَتِ السُّنَّةُ فِي المُتَلاعِنَيْنِ.
.

     وَقَالَ  النبيُّ انْظُرُوها فإنْ جاءَتْ بِهِ أحْمَرَ قَصِيراً مِثْلَ وَحَرَةٍ فَلا أُراهُ إلاَّ قَدْ كَذَبَ، وإنْ جاءَتْ بِهِ أسْحَمَ أعْيَنَ ذَا ألَيَتَيْنِ فَلا أحْسِبُ إلاّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْها، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الأمْرِ المَكْرُوهِ
ا
مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة لِأَن عويمراً أفحش فِي السُّؤَال، فَلهَذَا كره النَّبِي الْمسَائِل وعابها.

وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس يروي عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة واسْمه هِشَام بن سعيد.

والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب اللّعان فِي مَوَاضِع وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: خلف عَاصِم أَي: بعد رُجُوعه، وَأَرَادَ بِالْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} الْآيَة.
قَوْله: فَدَعَا بهما أَي: بعويمر وَزَوجته.
قَوْله: وَلم يَأْمُرهُ لِأَن نفس اللّعان يُوجب الْمُفَارقَة، وَفِيه خلاف.
قَوْله: فجرت السّنة أَي: صَار الحكم بالفراق بَينهمَا شَرِيعَة.
قَوْله: وحرة بِفَتْح الْوَاو والحاء الْمُهْملَة وَالرَّاء وَهِي دويبة فَوق العرسة حَمْرَاء، وَقيل: دويبة حَمْرَاء تلزق بِالْأَرْضِ كالوزغة تقع فِي الطَّعَام فتفسده.
قَوْله: أسحم أَي: أسود أعين أَي: وَاسع الْعين.
قَوْله: ذَا أليتين هُوَ على الأَصْل وإلاَّ فالاستعمال على حذف التَّاء مِنْهُ، قيل: كل النَّاس ذُو إليتين أَي: عجيزتين.
وَأجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ إليتين كبيرتين.
قَوْله: على الْأَمر الْمَكْرُوه أَي: الأسحم الْأَعْين، لِأَنَّهُ مُتَضَمّن لثُبُوت زنَاهَا عَادَة.





[ قــ :6914 ... غــ :7305 ]
- حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ، حدّثنا اللَّيْثُ حدّثني عُقَيْلٌ، عَنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: أَخْبرنِي مالكُ بنُ أوْسٍ النَّضْرِيُّ وكانَ مُحَمَّدُ بنُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْراً مِنْ ذَلِكَ، فَدَخَلْتُ عَلى مالِكٍ فَسألْتُهُ فَقَالَ: انْطَلَقْتُ حتَّى أدْخُلَ عَلى عُمَرَ أتاهُ حاجِبُهُ يَرْفأ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمانَ وعبْدِ الرَّحْمانِ والزُّبَيْرِ وسَعْدٍ يَسْتأذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وجَلَسُوا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عليَ وعبَّاسٍ؟ فأذِنَ لَهُما.
قَالَ العَبَّاسُ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَ الظَّالِمِ، اسْتَبَّا.
فَقَالَ الرَّهْطُ، عُثْمانُ وأصْحابُهُ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُما وأرِحْ أحَدَهُما مِنَ الآخَرِ، فَقَالَ: اتَّئدُوا أنْشُدُكُمْ بِاللَّه الَّذِي بإذْنِهِ تَقُومُ السَّماءُ والأرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنَّ رسُولَ الله قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنا صَدَقَةٌ يُرِيدُ رسولُ الله نَفْسَهُ قَالَ الرهْطُ: قَدْ قَالَ ذالِكَ، فأقْبَلَ عُمَرُ عَلَى علِيَ وعبَّاسٍ، فَقَالَ: أنْشُدُكُما بِاللَّه هَلْ تَعْلَمانِ أنَّ رسولَ الله قَالَ ذالِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ.
قَالَ عُمَرُ: فإنِّي مُحَدِّثكُم عنْ هاذَا الأمْرِ: إنَّ الله كانَ خَصَّ رسولَهُ فِي هاذَا المالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أحَداً غَيْرَهُ، فإنَّ الله يَقُولُ: { وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} الآيةَ فَكانَتْ هذِهِ خالِصَةً لِرَسُولِ الله ثُمَّ وَالله مَا احْتازَها دُوَنكُمْ، وَلَا اسْتأْثَرَ بِها عَلَيْكُمْ، وقَدْ أعْطاكُمُوها وبَثَّهافِيكُمْ، حتَّى بَقَيَ مِنْها هَذَا المالُ، وكانَ النبيُّ يُنْفِقُ عَلى أهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا المالِ، ثُمَّ يأخذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلَهُ مَجْعلَ مالِ الله، فَعَمَلَ النبيُّ بِذَلِكَ حَياتَهُ أنْشُدُكُمْ بِاللَّه هَلْ تَعْلَمُونَ ذالِكَ؟ فقالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيَ وعبَّاسٍ: أنْشُدُكما الله هَلْ تَعْلَمانِ ذالِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، ثُمَّ تَوَفَّى الله نَبِيَّهُ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: أَنا وَلِيُّ رسولِ الله فَقَبَضَها أبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيها بِما عَمِلَ فِيهَا رسولُ الله وأنْتُما حِينَئذٍ، وأقْبَلَ عَلى عَلِيَ وعَبَّاسٍ فَقَالَ: تَزْعُمانِ أنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيها كَذَا؟ وَالله يَعْلَمُ أنَّهُ فِيها صادِقٌ بارٌّ راشِدٌ تابِعٌ لِلْحَقِّ؟ ثُمَّ تُوَفَّى الله أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: أَنا وَلِيُّ رسولِ الله وَأبي بَكْرٍ، فَقَبَضَتُها سَنَتْينِ أعْمَلُ فِيها بِما عَمِلَ بِهِ رَسُولُ الله وأبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمانِي وكَلِمَتُكُما عَلى كَلِمَةٍ واحِدَةٍ وأمْرُكُما جَمِيعٌ، جِئْتَنِي تَسْألُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابنِ أخِيكَ، وأتانِي هَذا يَسْألُنِي نَصِيبَ امْرَأتِهِ مِنْ أبِيهَا، فَقُلْتُ: إنْ شِئْتُما دَفَعْتُها إلَيْكُما عَلى أنَّ عَلَيْكُما عَهْدَ الله ومِيثاقَهُ، تَعْمَلانِ فِيها بِما عَمِلَ بِهِ رسولُ الله وبِما عَمِلَ فِيها أبُو بَكْرٍ وبِما عَمِلْتُ فِيها مُنْذُ وَلِيتُها، وإلاّ فَلَا تُكَلِّمانِي فِيها فقُلْتُما: ادْفَعْها إلَيْنا بِذالِكَ، فَدَفَعْتُها إلَيْكُما بِذالِكَ، أنْشُدُكُمْ بِالله هَلْ دَفَعْتُها إلَيْهِما بِذالِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ.
فأقْبَلَ عَلى عَلِيَ وعَبَّاسٍ فَقَالَ: أنْشُدُكُما بِالله هَلْ دَفَعْتُها إلَيْكُما؟ بِذالِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ.
قَالَ: أفَتَلْتَمِسانِ مِنِّي قَضاءً غيْرَ ذالِكَ؟ فَوالّذِي بِإذْنِهِ تَقُومُ السَّماءُ والأرْضُ لَا أقْضي فِيها قَضاءً غَيْرَ ذالِكَ حتَّى تَقُوم السَّاعَةُ، فإنْ عَجَزْتُما عَنْها فادْفَعاها إلَيَّ فَأَنا أكْفِيكُماها.

ا
مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة لِأَن مُنَازعَة عَليّ وعباس قد طَالَتْ واشتدت عِنْد عمر، وَفِيه نوع من التعمق.
أَلا ترى إِلَى قَول عُثْمَان وَمن مَعَه: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اقْضِ بَينهمَا.
وأرح أَحدهمَا من الآخر.

وَمَالك بن أَوْس النضري بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة نِسْبَة إِلَى النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر، وَفِي هَمدَان أَيْضا النَّضر بن ربيعَة، قَالَ ابْن دُرَيْد: النَّضر الذَّهَب.

والْحَدِيث مضى فِي بابُُ فرض الْخمس بِطُولِهِ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا.

قَوْله (يرفأ بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الرَّاء وبالفاء مهموزاً وَغير مَهْمُوز اسْم حَاجِب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ومولاه.
قَوْله: الظَّالِم إِنَّمَا جَازَ للْعَبَّاس مثل هَذَا القَوْل لِأَن عليّاً كَانَ كَالْوَلَدِ لَهُ وللوالد مَا لَيْسَ لغيره، أَو هِيَ كلمة لَا يُرَاد بهَا حَقِيقَتهَا إِذْ الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَهُوَ متناول للصغيرة وللخصلة الْمُبَاحَة الَّتِي لَا تلِيق بِهِ عرفا، وَبِالْجُمْلَةِ حاشا لعَلي أَن يكون ظَالِما، وَلَا يصير ظَالِما بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَلَا بُد من التَّأْوِيل.
قَالَ بَعضهم: هَاهُنَا مُقَدّر أَي: هَذَا الظَّالِم إِن لم ينصف، أَو: كالظالم.
.

     وَقَالَ  الْمَازرِيّ: هَذَا اللَّفْظ لَا يَلِيق بِالْعَبَّاسِ وحاشا عَليّ من ذَلِك، فَهُوَ سَهْو من الروَاة، وَإِن كَانَ لَا بُد من صِحَّته فيؤول بِأَن الْعَبَّاس تكلم بِمَا لَا يعْتَقد ظَاهره مُبَالغَة فِي الزّجر وردعاً لما يعْتَقد أَنه مخطىء فِيهِ، وَلِهَذَا لم يُنكره أحد من الصَّحَابَة لَا الْخَلِيفَة وَلَا غَيره مَعَ تشددهم فِي إِنْكَار الْمُنكر، وَمَا ذَاك إلاَّ أَنهم فَهموا بِقَرِينَة الْحَال أَنه لَا يُرِيد بِهِ الْحَقِيقَة.
قَوْله: اسْتَبَّا أَي: تخاشنا فِي الْكَلَام، تكلما بغليظ القَوْل كالمستبين.
قَوْله: اتئدوا من الافتعال أَي: اصْبِرُوا وأمهلوا.
قَوْله: أنْشدكُمْ بِاللَّه وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أنْشدكُمْ الله، بِحَذْف الْبَاء أَي: أَسأَلكُم بِاللَّه.
قَوْله: لَا نورث بِفَتْح الرَّاء.
قَوْله: صَدَقَة بِالرَّفْع يُرِيد بِهِ نَفسه، أَي: لَا يُرِيد بِهِ الْأمة، وَقيل: إِنَّمَا جمع لِأَن ذَلِك حكم عَام لكل الْأَنْبِيَاء.
قَوْله: هَذَا الْأَمر أَي: قصَّة مَا تَركه رَسُول الله، وَكَيْفِيَّة تصرفه فِيهِ فِي حَيَاته وَتصرف أبي بكر فِيهِ وَدَعوى فَاطِمَة وَالْعَبَّاس الْإِرْث وَنَحْوه.
قَوْله: فِي هَذَا المَال أَي: الْفَيْء.
قَوْله: لم يُعْط أحدا غَيره لِأَنَّهُ أَبَاحَ الْكل لَهُ لَا لغيره، قَوْله: احتازها بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي يَعْنِي: جمعهَا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِالْجِيم وَالزَّاي.
قَوْله: اسْتَأْثر بهَا أَي: اسْتَقل واستبد.
قَوْله: وبثها أَي: فرقها.
قَوْله: مجعل مَال الله أَي: مَا هُوَ لمصَالح الْمُسلمين.
قَوْله: وأنتما مُبْتَدأ.
قَوْله: تزعمان خَبره.
قَوْله: كَذَا وَكَذَا أَي: لَيْسَ محقّاً وَلَا فَاعِلا بِالْحَقِّ.
فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ لَهما مثل هَذَا الِاعْتِقَاد فِي حَقه؟ قلت: قَالَاه باجتهادهما قبل وُصُول حَدِيث: لَا نورث، إِلَيْهِمَا وَبعد ذَلِك رجعا عَنهُ، واعتقد أَنه محق بِدَلِيل أَن عليّاً، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يُغير الْأَمر عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ حِين انْتَهَت نوبَة الْخلَافَة إِلَيْهِ، قَوْله: على كلمة وَاحِدَة يَعْنِي: لم يكن بَيْنكُمَا مُخَالفَة وأمركما مُجْتَمع لَا تفرق فِيهِ وَلَا تنَازع عَلَيْهِ.
قَوْله: عَنْهَا أَي: فَإِن عجزتما عَن التَّصَرُّف فِيهَا مُشْتَركا فَأَنا أكفيكماها وأتصرف فِيهَا لَكمَا.