فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل مما لم ينزل عليه الوحي، فيقول: «لا أدري»، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا بقياس

( بابُُ مَا كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الوَحْيُ فَيَقُولُ: ( لَا أدْرِي) أوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، ولَمْ يَقُلْ بِرَأيٍ وَلَا بِقِياسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} )

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا كَانَ النَّبِي، الخ.
قَوْله: يسْأَل على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: لَا أَدْرِي قَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ حزازة حَيْثُ قَالَ: لَا أَدْرِي، إِذْ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ وَلم يثبت عَنهُ، ذَلِك.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: هُوَ تساهل شَدِيد مِنْهُ لِأَنَّهُ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَة إِلَى مَا ورد فِي ذَلِك وَلكنه لم يثبت عِنْده مِنْهُ شَيْء على شَرطه، ثمَّ ذكر حَدِيث ابْن مَسْعُود: من علم شَيْئا فَلْيقل بِهِ، وَمن لم يعلم فَلْيقل: الله أعلم وَذكر حَدِيث ابْن عمر: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي، فَقَالَ: أَي الْبِقَاع خير؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَأَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ: سل رَبك، فانتفض جِبْرِيل انتفاضة وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله، قَالَ: مَا أَدْرِي الْحُدُود كَفَّارَة لأَهْلهَا.
انْتهى.

قلَّة نِسْبَة الْكرْمَانِي إِلَى التساهل الشَّديد تساهل أَشد مِنْهُ لِأَن قَوْله: لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ، صَحِيح.
وَقَوله: وَلم يثبت عَنهُ ذَلِك، أَيْضا صَحِيح لِأَن مُرَاده أَنه لم يثبت عِنْده، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَقَوْل البُخَارِيّ: لَا أَدْرِي، غير وَاقع فِي مَحَله.
قَوْله: وَلم يقل بِرَأْي وَلَا قِيَاس قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: لَا فرق بَينهمَا وهما مُتَرَادِفَانِ، وَقيل: الرَّأْي هُوَ التفكر، أَي: لم يقل بِمُقْتَضى الْعقل وَلَا بِالْقِيَاسِ، وَقيل: الرَّأْي أَعم لتنَاوله مثل الِاسْتِحْسَان،.

     وَقَالَ  الْمُهلب مَا حَاصله الرَّد على البُخَارِيّ فِي قَوْله: وَلم يقل بِرَأْي وَلَا قِيَاس لِأَن النَّبِي، قد علم أمته كَيْفيَّة الْقيَاس والاستنباط فِي مسَائِل لَهَا أصُول وَمَعَان فِي كتاب الله عز وَجل لِيُرِيَهُمْ كَيفَ يصنعون فِيمَا عدموا فِيهِ النُّصُوص، وَالْقِيَاس هُوَ تَشْبِيه مَا لَا حكم فِيهِ بِمَا فِيهِ حكم فِي الْمَعْنى، وَقد شبه، الْحمر بِالْخَيْلِ فَقَالَ: مَا أنزل الله عليّ فيهمَا بِشَيْء غير هَذِه الْآيَة الفاذة الجامعة { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} .

     وَقَالَ  للَّتِي أخْبرته: إِن أَبَاهَا لم يحجّ: أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين أَكنت قاضيته؟ فَالله أَحَق بِالْقضَاءِ.
وَهَذَا هُوَ عين الْقيَاس عِنْد الْعَرَب، وَعند الْعلمَاء بمعاني الْكَلَام، وَأما سُكُوته، حَتَّى نزل الْوَحْي فَإِنَّمَا سكت فِي أَشْيَاء معضلة لَيست لَهَا أصُول فِي الشَّرِيعَة، فَلَا بُد فِيهَا من اطلَاع الْوَحْي، وَنحن الْآن قد فرغت لنا الشَّرَائِع وأكمل الله الدّين فَإِنَّمَا نَنْظُر ونقيس موضوعاتها فِيمَا أعضل من النَّوَازِل.
قَوْله: لقَوْله: { بِمَا أَرَاك الله} أَي: لقَوْل الله تَعَالَى، ويروى: هَكَذَا لقَوْل الله، وَهُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَاحْتج البُخَارِيّ بقوله تَعَالَى: { بِمَا أَرَاك الله} أَي: بِمَا أعلمك الله.
وَأجِيب عَن هَذَا بِأَنَّهُ إِذا حكم بَين النَّاس الْقيَاس فقد حكم أَيْضا بِمَا أرَاهُ الله، وَنقل ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ بِمَا حَاصله: إِن الَّذِي احْتج بِهِ البُخَارِيّ بِمَا ادَّعَاهُ من النَّفْي حجَّة فِي الْإِثْبَات، لِأَن المُرَاد بقوله: لَيْسَ محصوراً فِي النُّصُوص بل فِيهِ إِذن بالْقَوْل فِي الرَّأْي.
قلت: فحينئذٍ تنْقَلب الْحجَّة عَلَيْهِ.

وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النبيُّ عنِ الرُّوحِ فَسَكَتَ حتَّى نَزَلَتْ.

ذكر هَذَا التَّعْلِيق عَن عبد الله بن مَسْعُود دَلِيلا لقَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَلم يجب، لِأَن عدم الْإِجَابَة السُّكُوت وَلَا ينتهض هَذَا دَلِيلا لما ادَّعَاهُ لأَنا قد ذكرنَا أَن سُكُوته فِي مثل هَذَا الْموضع لكَونه فِي أَشْيَاء معضلة وَلَيْسَ لَهَا أصُول فِي الشَّرِيعَة، فَلَا بُد فِي مثل هَذَا من الْوَحْي، وَمَعَ هَذَا مَا أطلعه الله فِي هَذِه الْآيَة، وَهِي: { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} الْآيَة على حَقِيقَة كَيْفيَّة الرّوح، بل قَالَ: { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} وَهَذَا التَّعْلِيق مضى مَوْصُولا فِي آخر: بابُُ مَا يكره من كَثْرَة السُّؤَال، لكنه ذكر فِيهِ: فَقَامَ سَاعَة ينْتَظر، وَأوردهُ فِي كتاب الْعلم بِلَفْظ: فَسكت، وَأوردهُ فِي تَفْسِير سُبْحَانَ، بِلَفْظ: فَأمْسك، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فأسكت النَّبِي، فَلم يرد عَلَيْهِ شَيْئا.



[ قــ :6918 ... غــ :7309 ]
- حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله، حدّثنا سُفْيانُ قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ المُنْكَدِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله يَقُولُ: مَرِضْتُ فَجَاءَنِي رسولُ الله يَعُودُني وأبُو بَكْرٍ وهُما ماشِيان، فَأَتَانِي وقعدْ أُغْمَيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأ رسولُ الله ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فأفَقْتُ فَقُلتُ يَا رسولَ الله ورُبَّما قَالَ سُفْيانُ: فَقُلْتُ: أيْ رسولَ الله كَيْفَ أقْضِي فِي مَالِي؟ كَيْفَ أصْنَعُ فِي مَالِي؟ قَالَ: فَما أجابَنْي بِشَيْءٍ حتَّى نَزَلَتْ آيَةُ المِيرَاثِ.

ا
مطابقته للتَّرْجَمَة على زَعمه تُؤْخَذ من آخر الحَدِيث.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة يروي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر.

والْحَدِيث مضى فِي سُورَة النِّسَاء فِي قَوْله تَعَالَى: { يُوصِيكُم الله} وَلَفظه فِي آخر الحَدِيث فَنزلت { يُوصِيكُم الله}
قَوْله: وَقد أغمى عَليّ أَي: غشي، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال.
قَوْله: وضوءه بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ.
قَالَ الدَّاودِيّ: وَفِي هَذَا الحَدِيث الْوضُوء للْمَرِيض شِفَاء.
قَوْله: وَرُبمَا قَالَ سُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة الرَّاوِي.

قَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ: جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، ورد عَلَيْهِ بِأَن هَذَا لَا يتَضَمَّن حكما، وَلَيْسَ من قَول رَسُول الله،