فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب حلاوة الإيمان

قَوْله بَاب حلاوة الْإِيمَان)
مَقْصُود الصِّنْف أَنَّ الْحَلَاوَةَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ مِنَ الْإِيمَانِ أَرْدَفَهُ بِمَا يُوجِدُ حَلَاوَةَ ذَلِكَ



[ قــ :16 ... غــ :16] .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى هُوَ أَبُو مُوسَى الْعَنَزِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ بَعْدَهَا زَايٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ هُوَ بن عبد الْمجِيد حَدثنَا أَيُّوب هُوَ بن أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيُّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ .

     قَوْلُهُ  ثَلَاثٌ هُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الْخَبَرُ وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّ التَّنْوِينَ عِوَضُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَالتَّقْدِيرُ ثَلَاثُ خِصَالٍ وَيُحْتَمَلُ فِي إِعْرَابِهِ غَيْرُ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  كُنَّ أَيْ حَصَلْنَ فَهِيَ تَامَّةٌ وَفِي قَوْلِهِ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ شَبَّهَ رَغْبَةَ الْمُؤْمِنَ فِي الْإِيمَانِ بِشَيْءٍ حُلْوٍ وَأَثْبَتَ لَهُ لَازِمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قِصَّةِ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ لِأَنَّ الْمَرِيضَ الصَّفْرَاوِيَّ يَجِدُ طَعْمَ الْعَسَلِ مُرًّا وَالصَّحِيحُ يَذُوقُ حَلَاوَتَهُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَكُلَّمَا نَقَصَتِ الصِّحَّةُ شَيْئًا مَا نَقَصَ ذَوْقُهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَكَانَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ أَوْضَحِ مَا يُقَوِّي اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْحَلَاوَةِ لِأَنَّ اللَّهَ شَبَّهَ الْإِيمَانَ بِالشَّجَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَثَلًا كلمة طيبَة كشجرة طيبَة فَالْكَلِمَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ وَالشَّجَرَةُ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَأَغْصَانُهَا اتِّبَاعُ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ وَوَرَقُهَا مَا يَهْتَمُّ بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْخَيْرِ وَثَمَرُهَا عَمَلُ الطَّاعَاتِ وَحَلَاوَةُ الثَّمَرِ جَنْيُ الثَّمَرَةِ وَغَايَةُ كَمَالِهِ تَنَاهِي نُضْجِ الثَّمَرَةِ وَبِهِ تَظْهَرُ حَلَاوَتُهَا .

     قَوْلُهُ  أَحَبَّ إِلَيْهِ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ يَكُونَ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمُرَادُ بِالْحُبِّ هُنَا الْحُبُّ الْعَقْلِيُّ الَّذِي هُوَ إِيثَارُ مَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ السَّلِيمُ رُجْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ كَالْمَرِيضِ يَعَافُ الدَّوَاءَ بِطَبْعِهِ فَيَنْفِرُ عَنْهُ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى عَقْلِهِ فَيَهْوَى تَنَاوُلَهُ فَإِذَا تَأَمَّلَ الْمَرْءُ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحٌ عَاجِلٌ أَوْ خَلَاصٌ آجِلٌ وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي رُجْحَانَ جَانِبَ ذَلِكَ تَمَرَّنَ عَلَى الِائْتِمَارِ بِأَمْرِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ هَوَاهُ تَبَعًا لَهُ وَيَلْتَذُّ بِذَلِكَ الْتِذَاذًا عَقْلِيًّا إِذِ الِالْتِذَاذُ الْعَقْلِيُّ إِدْرَاكُ مَا هُوَ كَمَالُ وَخَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ وَعَبَّرَ الشَّارِعُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْحَلَاوَةِ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ اللَّذَائِذِ الْمَحْسُوسَةِ قَالَ وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةِ عُنْوَانًا لِكَمَالِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا تَأَمَّلَ أَنَّ الْمُنْعِمَ بِالذَّاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ لَا مَانِحَ وَلَا مَانِعَ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ وَأَنَّ مَا عَدَاهُ وَسَائِطُ وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُ مُرَادَ رَبِّهِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَتَوَجَّهَ بِكُلِّيَّتِهِ نَحْوَهُ فَلَا يُحِبُّ إِلَّا مَا يُحِبُّ وَلَا يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ إِلَّا مِنْ أَجْلِهِ وَأَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّ جُمْلَةَ مَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ حَقٌّ يَقِينًا وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ الْمَوْعُودُ كَالْوَاقِعِ فَيَحْسَبُ أَنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ رِيَاضٌ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الْكُفْرِ إِلْقَاءٌ فِي النَّارِ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَشَاهِدُ الْحَدِيثِ مِنَ الْقُرْآنِ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ إِلَى أَنْ قَالَ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُوله ثُمَّ هَدَّدَ عَلَى ذَلِكَ وَتَوَعَّدَ بِقَوْلِهِ فَتَرَبَّصُوا فَائِدَةٌ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَالتَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ فَالْأَوَّلُ مِنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرُ مِنَ الثَّانِي.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَلَى قِسْمَيْنِ فَرْضٌ وَنَدْبٌ فَالْفَرْضُ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ مَعَاصِيهِ وَالرِّضَا بِمَا يُقَدِّرُهُ فَمَنْ وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ مِنْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ فَلِتَقْصِيرِهِ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ حَيْثُ قَدَّمَ هَوَى نَفْسِهِ وَالتَّقْصِيرُ تَارَةً يَكُونُ مَعَ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا فَيُورِثُ الْغَفْلَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّوَسُّعِ فِي الرَّجَاءِ فَيُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَوْ تَسْتَمِرُّ الْغَفْلَةُ فَيَقَعُ وَهَذَا الثَّانِي يُسْرِعُ إِلَى الْإِقْلَاعِ مَعَ النَّدَمِ وَإِلَى الثَّانِي يُشِيرُ حَدِيثُ لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَالنَّدْبُ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى النَّوَافِلِ وَيَتَجَنَّبَ الْوُقُوعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَالْمُتَّصِفُ عُمُومًا بِذَلِكَ نَادِرٌ قَالَ وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ عَلَى قِسْمَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيُزَادُ أَنْ لَا يَتَلَقَّى شَيْئًا مِنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ إِلَّا مِنْ مِشْكَاتِهِ وَلَا يَسْلُكُ إِلَّا طَرِيقَتَهُ وَيَرْضَى بِمَا شَرَعَهُ حَتَّى لَا يَجِدَ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَاهُ وَيَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِهِ فِي الْجُودِ وَالْإِيثَارِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ وَغَيْرِهَا فَمَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ ذَلِكَ.

     وَقَالَ  الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَمَعْنَى حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ اسْتِلْذَاذُ الطَّاعَاتِ وَتَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي الدِّينِ وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَحْصُلُ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مُخَالَفَتِهِ وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ وَإِنَّمَا قَالَ مِمَّا سِوَاهُمَا وَلَمْ يَقُلْ مِمَّنْ لِيَعُمَّ مَنْ يَعْقِلَ وَمَنْ لَا يَعْقِلَ قَالَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَذِهِ التَّثْنِيَةِ.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  لِلَّذِي خَطَبَ فَقَالَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْخُطَبِ الْإِيضَاحُ.
وَأَمَّا هُنَا فَالْمُرَادُ الْإِيجَازُ فِي اللَّفْظِ لِيُحْفَظَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا وَرَدَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ خُطْبَةِ النِّكَاحِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ أَيْضًا الْإِيجَازُ فَلَا نَقْضٌ وَثَمَّ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى مِنْهَا دَعْوَى التَّرْجِيحِ فَيَكُونُ حَيِّزُ الْمَنْعِ أَوْلَى لِأَنَّهُ عَامٌّ وَالْآخَرُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ وَلِأَنَّهُ نَاقِلٌ وَالْآخُرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ وَالْآخَرُ فِعْلٌ وَرُدَّ بِأَنَّ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ فِي الْقَوْلِ أَيْضًا حَاصِلٌ بِكُلِّ قَوْلٍ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ أَصْلًا وَمِنْهَا دَعْوَى أَنَّهُ مِنَ الْخَصَائِصِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ لِأَنَّ غَيْرَهُ إِذَا جَمَعَ أَوْهَمَ إِطْلَاقُهُ التَّسْوِيَةَ بِخِلَافِهِ هُوَ فَإِنَّ مَنْصِبَهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ إِيهَامُ ذَلِكَ وَإِلَى هَذَا مَال بن عَبْدِ السَّلَامِ وَمِنْهَا دَعْوَى التَّفْرِقَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَحْسُنُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ فِيهَا مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَكَلَامُ الَّذِي خَطَبَ جُمْلَتَانِ لَا يُكْرَهُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ فِيهِمَا مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَتُعُقِّبَ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يُكْرَهُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ فِيهِمَا مَقَامَ الْمُضْمَرِ أَن يكره إِقَامَة الْمُضمر فيهمَا مَقَامَ الظَّاهِرِ فَمَا وَجْهُ الرَّدِّ عَلَى الْخَطِيبِ مَعَ أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ كَمَا تَقَدَّمَ وَيُجَابُ بِأَنَّ قِصَّةَ الْخَطِيبِ كَمَا قُلْنَا لَيْسَ فِيهَا صِيغَةُ عُمُومٍ بَلْ هِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ تَوَهُّمُ التَّسْوِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ مَحَاسِنِ الْأَجْوِبَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ وَقِصَّةِ الْخَطِيبِ أَنَّ تَثْنِيَةَ الضَّمِيرِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَحَبَّتَيْنِ لَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهَا وَحْدَهَا لَاغِيَةٌ إِذَا لَمْ تَرْتَبِطْ بِالْأُخْرَى فَمَنْ يَدَّعِي حُبَّ اللَّهِ مَثَلًا وَلَا يُحِبُّ رَسُولَهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فَأَوْقَعَ مُتَابَعَتَهُ مُكْتَنِفَةً بَيْنَ قُطْرَيْ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِبَادِ.
وَأَمَّا أَمْرُ الْخَطِيبِ بِالْإِفْرَادِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِصْيَانَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِاسْتِلْزَامِ الْغَوَايَةِ إِذِ الْعَطْفُ فِي تَقْدِيرِ التَّكْرِيرِ وَالْأَصْلُ اسْتِقْلَالُ كُلٍّ مِنَ الْمَعْطُوفَيْنِ فِي الْحُكْمِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَأَعَادَ أَطِيعُوا فِي الرَّسُولِ وَلَمْ يُعِدْهُ فِي أُولِي الْأَمْرِ لِأَنَّهُمْ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمْ فِي الطَّاعَةِ كَاسْتِقْلَالِ الرَّسُولِ انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ وَالطِّيبِيِّ وَمِنْهَا أَجْوِبَةٌ أُخْرَى فِيهَا تَكَلُّمٌ مِنْهَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ وَمِنْهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .

     قَوْلُهُ  وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ حَقِيقَةُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ أَنْ لَا يَزِيدَ بِالْبِرِّ وَلَا يَنْقُصَ بِالْجَفَاءِ .

     قَوْلُهُ  وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى شَيْخِ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَكَذَا هُوَ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى لِلْمُصَنِّفِ وَالْإِنْقَاذُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْعِصْمَةِ مِنْهُ ابْتِدَاءٌ بِأَنْ يُولَدَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيَسْتَمِرَّ أَوْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَيُحْمَلُ .

     قَوْلُهُ  يَعُودُ عَلَى مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّ الْعود فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ عَدَّى الْعَوْدَ بِفِي وَلَمْ يُعَدِّهِ بِإِلَى فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ضَمَّنَهُ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَكَأَنَّهُ قَالَ يَسْتَقِرُّ فِيهِ وَمثله قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ لنا أَن نعود فِيهَا تَنْبِيهٌ هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى فَضْلِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَتُرِكَ الْبَتَّةَ إِلَى أَنْ قُتِلَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَدَبِ فِي فَضْلِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَلَفْظُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ لَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ لِأَنَّهُ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَهُنَا جُعِلَ الْوُقُوعُ فِي نَارِ الدُّنْيَا أَوْلَى مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي أَنْقَذَهُ الله بِالْخرُوجِ مِنْهُ من نَارِ الْأُخْرَى وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَرَّحَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ بِسَمَاعِ قَتَادَةَ لَهُ مِنْ أَنَسٍ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَنَسٍ وَزَادَ فِي الْخَصْلَةِ الثَّانِيَةِ ذِكْرَ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَلَفْظُهُ وَأَنْ يُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضَ فِي اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ فِي تَرْجَمَتِهِ وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَة وَالله أعلم