فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله

( قَولُهُ بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ)
أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ أَيْ مِنْ غَيْرِهِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيَكِلُ تَفْسِيرِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمُضَارِعِ بِتَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ أَيْ مَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ السُّؤَالِ هُوَ الْوُكُولُ وَفِي رِوَايَةِ أَنْ يكل وَهُوَ أَوْضَحُ



[ قــ :121 ... غــ :122] .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْجعْفِيّ المسندي وسُفْيَان هُوَ بن عُيَيْنَة وَعَمْرو هُوَ بن دِينَارٍ وَنَوْفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالْفَاءِ وَالْبَكَالِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَوَهِمَ مَنْ شَدَّدَهَا مَنْسُوبٌ إِلَى بَكَالٍ بَطْنٍ مِنْ حِمْيَرَ وَوَهَمَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى بَكِيلٍ بِكَسْرِ الْكَافِ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ لِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَنَوْفٌ الْمَذْكُورُ تَابِعِيٌّ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ فَاضِلٌ عَالِمٌ لَا سِيمَا بالاسرائيليات وَكَانَ بن امْرَأَةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  إِنَّ مُوسَى أَيْ صَاحِبَ الْخَضِرِ وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ .

     قَوْلُهُ  إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ كَذَا فِي رِوَايَتِنَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فِيهِمَا وَهُوَ عَلَمٌ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ قَالُوا إِنَّهُ مُوسَى بْنُ مِيشَا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُنَوَّنٌ مَصْرُوفٌ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ وَنقل عَن بن مَالِكٍ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِثَالًا لِلْعَلَمِ إِذَا نُكِّرَ تَخْفِيفًا قَالَ وَفِيهِ بَحْثٌ .

     قَوْلُهُ  كَذَبَ عَدُوُّ الله قَالَ بن التِّين لم يرد بن عَبَّاسٍ إِخْرَاجَ نَوْفٍ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ وَلَكِنَّ قُلُوبَ الْعُلَمَاءِ تَنْفِرُ إِذَا سَمِعَتْ غَيْرَ الْحَقِّ فَيُطْلِقُونَ أَمْثَالَ هَذَا الْكَلَامِ لِقَصْدِ الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ.

قُلْتُ وَيَجُوزُ أَنْ يكون بن عَبَّاسٍ اتَّهَمَ نَوْفًا فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ فِي حَقِّ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَعَ تَوَارُدِهِمَا عَلَيْهَا.
وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ لِلْعَالِمِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ فَسَمِعَ غَيْرَهُ يَذْكُرُ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنْ يُكَذِّبَهُ وَنَظِيرُهُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ أَيْ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .

     قَوْلُهُ  حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُتْقِنِ عِنْدَهُ حَيْثُ يُطْلِقُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامُ فِي حَقِّ مَنْ خَالَفَهُ وَفِي الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ وَهُمَا عَمْرٌو وَسَعِيدٌ وَصَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيّ وهما بن عَبَّاسٍ وَأُبَيٌّ .

     قَوْلُهُ  فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ فِي جَوَابِ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ قِيلَ إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ فِي بَابِ الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ قَالَ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ وَعِنْدِي لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَا أَنَا أَعْلَمُ أَيْ فِيمَا أَعْلَمُ فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ لَا فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ فِي إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ لَا إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِهَذَا السَّنَدِ قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فَعَرَضَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ مَا أُوتِيَ وَعَلِمَ اللَّهُ بِمَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ فَقَالَ يَا مُوسَى إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ آتَيْتُهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ أُوتِكْ وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ مَا أَجِدُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ مِنِّي وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِ مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ رجلا خيرا أَو أعلم مني قَالَ بن الْمُنِير ظن بن بَطَّالٍ أَنَّ تَرْكَ مُوسَى الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ أَوْلَى قَالَ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ رَدُّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَيِّنٌ أَجَابَ أَوْ لَمْ يُجِبْ فَلَوْ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ تَحْصُلِ الْمُعَاتَبَةُ وَإِنَّمَا عُوتِبَ عَلَى اقْتِصَارِهِ عَلَى ذَلِكَ أَيْ لِأَنَّ الْجَزْمَ يُوهِمُ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ الْإِخْبَارُ بِمَا فِي عِلْمِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَالْعَتْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ لَا عَلَى مَعْنَاهُ الْعُرْفِيِّ فِي الْآدَمِيِّينَ كَنَظَائِرِهِ .

     قَوْلُهُ  هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيٌّ بَلْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَلَزِمَ تَفْضِيلُ الْعَالِي عَلَى الْأَعْلَى وَهُوَ بَاطِلٌ مِنَ الْقَوْلِ وَلِهَذَا أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ سُؤَالًا وَهُوَ دَلَّتْ حَاجَةُ مُوسَى إِلَى التَّعْلِيمِ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ مُوسَى بْنُ مِيشَا كَمَا قِيلَ إِذِ النَّبِيُّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا نَقْصَ بِالنَّبِيِّ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْ نَبِيٍّ مِثْلِهِ.

قُلْتُ وَفِي الْجَوَابِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَا أَوْجَبَ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ تَقْيِيدُ الْأَعْلَمِيَّةِ بِأَمْرٍ مَخْصُوصٍ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ أَيْ مِمَّنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى مُرْسَلًا إِلَى الْخَضِرِ وَإِذًا فَلَا نَقْصَ بِهِ إِذَا كَانَ الْخَضِرُ أَعْلَمَ مِنْهُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ أَعْلَمَ مِنْهُ فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ وَيَنْحَلُّ بِهَذَا التَّقْرِيرِ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمِنْ أَوْضَحِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ .

     قَوْلُهُ  وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي وَيَنْبَغِي اعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَبِيًّا لِئَلَّا يَتَذَرَّعُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ من النَّبِي حاشا وكلا وَتعقب بن الْمُنِير على بن بَطَّالٍ إِيرَادَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرًا مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الدَّعْوَى فِي الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى قَوْلِ الْعَالِمِ لَا أَدْرِي بِأَنَّ سِيَاقَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ لَائِقٍ وَهُوَ كَمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ وَلَيْسَ قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَا أَعْلَمُ كَقَوْلِ آحَادِ النَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَا نَتِيجَةُ قَوْلِهِ كَنَتِيجَةِ قَوْلِهِمْ فَإِنَّ نَتِيجَةَ قَوْلِهِمُ الْعُجْبُ وَالْكِبْرُ وَنَتِيجَةَ قَوْلِهِ الْمَزِيدُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ وَالْحِرْصُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِالْعَقْلِ عَلَى الشَّرْعِ خَطَأً لِأَنَّ مُوسَى إِنَّمَا اعْتَرَضَ بِظَاهِرِ الشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الِاعْتِرَاضِ بِالشَّرْعِ عَلَى مَا لَا يَسُوغُ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ .

     قَوْلُهُ  فِي مِكْتَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ .

     قَوْلُهُ  فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ وَيَوْمَهُمَا بِالنَّصْبِ عَلَى إِرَادَةِ سَيْرِ جَمِيعِهِ وَنَبَّهَ بَعْضُ الْحُذَّاقِ عَلَى أَنَّهُ مَقْلُوبٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ لِأَنَّهُ لَا يُصْبِحُ إِلَّا عَنْ لَيْلٍ انْتَهَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَيْ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي الْيَوْمَ الَّذِي سَارَا جَمِيعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  أَنَّى أَيْ كَيْفَ بِأَرْضِكِ السَّلَامُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي التَّفْسِيرِ هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلَامٍ أَوْ مِنْ أَيْنَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى انى لَك هَذَا وَالْمَعْنَى مِنْ أَيْنَ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ فِيهَا وَكَأَنَّهَا كَانَتْ بِلَادَ كُفْرٍ أَوْ كَانَتْ تَحِيَّتُهُمْ بِغَيْرِ السَّلَامِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ دُونِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إِذْ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ لَعَرَفَ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ .

     قَوْلُهُ  فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ أَيْ مُوسَى وَالْخَضِرُ وَلَمْ يَذْكُرْ فَتَى مُوسَى وَهُوَ يُوشَعُ لِأَنَّهُ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْأَصَالَةِ .

     قَوْلُهُ  فَكَلَّمُوهُمْ ضَمَّ يُوشَعَ مَعَهُمَا فِي الْكَلَامِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي كَلَامَ التَّابِعِ .

     قَوْلُهُ  فَحَمَلُوهُمَا يُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي يَمْشِيَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُوشَعُ لَمْ يَرْكَبْ مَعَهُمَا لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذِكْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  فَجَاءَ عُصْفُورٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ قِيلَ هُوَ الصُّرَدُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَفِي الرِّحْلَةِ لِلْخَطِيبِ أَنَّهُ الْخُطَّافُ .

     قَوْلُهُ  مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ لَفْظُ النَّقْصِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ النَّقْصُ فَقِيلَ مَعْنَاهُ لَمْ يَأْخُذْ وَهَذَا تَوْجِيهٌ حَسَنٌ وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ وَاقِعًا عَلَى الْأَخْذِ لَا عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومُ بِدَلِيلِ دُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْقَائِمَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لَا تَتَبَعَّضُ وَالْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي يَتَبَعَّضُ.

     وَقَالَ  الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمُرَادُ أَنَّ نَقْصَ الْعُصْفُورِ لَا يَنْقُصُ الْبَحْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ كَمَا قِيلَ وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ عَيْبٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَفْيَ النَّقْصِ أُطْلِقَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَقِيلَ إِلَّا بِمَعْنَى وَلَا أَيْ وَلَا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ مَنْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ هُنَا تَجَوَّزَ لِقَصْدِهِ التَّمَسُّكَ وَالتَّعْظِيمَ إِذْ لَا نَقْصَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَلَا نِهَايَةَ لِمَعْلُومَاتِهِ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ بن جُرَيْجٍ بِلَفْظٍ أَحْسَنَ سِيَاقًا مِنْ هَذَا وَأَبْعَدَ إِشْكَالًا فَقَالَ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ هُنَا قَالَ وَفِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ وَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ مِمَّا يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ فَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي أَفْعَالِهِ وَلَا مُعَارَضَةَ لِأَحْكَامِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ فَإِنَّ إِدْرَاكَ الْعُقُولِ لِأَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ قَاصِرٌ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَى حُكْمِهِ لِمَ وَلَا كَيْفَ كَمَا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فِي وجوده أَيْن وَحَيْثُ وَإِن الْعقل لَا يحسن وَلَا يقبح وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الشَّرْعِ فَمَا حَسَّنَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ وَمَا قَبَّحَهُ بِالذَّمِّ فَهُوَ قَبِيح وان الله تَعَالَى فِيمَا يَقْضِيهِ حُكْمًا وَأَسْرَارًا فِي مَصَالِحَ خَفِيَّةٍ اعْتَبَرَهَا كُلَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ وَلَا حُكْمِ عَقْلٍ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بَلْ بِحَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَنَافِذِ حُكْمِهِ فَمَا أَطْلَعَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ عُرِفَ وَإِلَّا فَالْعَقْلُ عِنْدَهُ وَاقِفٌ فَلْيَحْذَرِ الْمَرْءُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ فَإِنَّ مَآلَ ذَلِكَ إِلَى الخيبة قَالَ ولننبه هُنَا على مغالطتين الْأُولَى وَقَعَ لِبَعْضِ الْجَهَلَةِ أَنَّ الْخَضِرَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى تَمَسُّكًا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِمَّنْ قَصَرَ نَظَرُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيمَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ وَإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ فِيهَا عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ داخلون تَحت شَرِيعَته ومخاطبون بِحُكْمِ نُبُوَّتِهِ حَتَّى عِيسَى وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي وَسَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى مَا فِيهِ كِفَايَةٌ قَالَ وَالْخَضِرُ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَيْسَ بِرَسُولٍ بِاتِّفَاقٍ وَالرَّسُولُ أَفْضَلُ مِنْ نَبِيٍّ لَيْسَ بِرَسُولٍ وَلَوْ تَنَزَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ فَرِسَالَةُ مُوسَى أَعْظَمُ وَأُمَّتُهُ أَكْثَرُ فَهُوَ أَفْضَلُ وَغَايَةُ الْخَضِرِ أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُوسَى أَفْضَلُهُمْ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ بَلْ وَلِيٌّ فَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْوَلِيِّ وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا وَالصَّائِرُ إِلَى خِلَافِهِ كَافِرٌ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ قَالَ وَإِنَّمَا كَانَتْ قِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى امْتِحَانًا لِمُوسَى لِيَعْتَبِرَ الثَّانِيَةُ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقَةٍ تَسْتَلْزِمُ هَدْمَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فَقَالُوا إِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْعَامَّةَ تَخْتَصُّ بِالْعَامَّةِ وَالْأَغْبِيَاءِ.
وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَالْخَوَاصُّ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى تِلْكَ النُّصُوصِ بَلْ إِنَّمَا يُرَادُ مِنْهُمْ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى خَوَاطِرِهِمْ لِصَفَاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ الْأَكْدَارِ وَخُلُوِّهَا عَنِ الْأَغْيَارِ فَتَنْجَلِي لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ وَيَعْلَمُونَ الْأَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَضِرِ فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِمَا يَنْجَلِي لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ عَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَهَذَا الْقَوْلُ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا عُلِمَ مِنَ الشَّرَائِعِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجْرَى سُنَّتَهُ وَأَنْفَذَ كَلِمَتَهُ بِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ السُّفَرَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ الْمُبَيِّنِينَ لِشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.

     وَقَالَ  الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته وَأمر بطاعتهم فِي كل مَا جاؤوا بِهِ وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَالتَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرُوا بِهِ فَإِنَّ فِيهِ الْهُدَى وَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفُ عَلَى ذَلِكَ فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا أُخْرَى يَعْرِفُ بِهَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ غَيْرَ الطُّرُقِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنِ الرَّسُولِ فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ قَالَ وَهِيَ دَعْوَى تَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ نُبُوَّةٍ بَعْدَ نَبِيِّنَا لِأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فقد أثبت لِنَفْسِهِ خَاصَّةً النُّبُوَّةَ كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي قَالَ وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ أَنَا لَا آخُذُ عَنِ الْمَوْتَى وَإِنَّمَا آخُذُ عَنِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَكَذَا قَالَ آخَرُ أَنَا آخُذُ عَنْ قَلْبِي عَنْ رَبِّي وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الشَّرَائِع نسْأَل اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ مِنْ خَفَايَا الْأُمُورِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةِ وَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَقَدْ ضَلَّ وَلَيْسَ مَا تَمَسَّكَ بِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَيْسَ فِي شَيْءٌ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ الشَّرْعَ فَإِنَّ نَقْضَ لَوْحٍ مِنَ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ لِدَفْعِ الظَّالِمِ عَنْ غَصْبِهَا ثُمَّ إِذَا تَرَكَهَا أُعِيدَ اللَّوْحُ جَائِزٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَلَكِنَّ مُبَادَرَةَ مُوسَى بِالْإِنْكَارِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ فَإِذَا جَاءَ الَّذِي يُسَخِّرُهَا فَوَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً تَجَاوَزَهَا فَأَصْلَحَهَا فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ وُجُوبُ التَّأَنِّي عَنِ الْإِنْكَارِ فِي الْمُحْتَمَلَاتِ.
وَأَمَّا قَتْلُهُ الْغُلَامَ فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ.
وَأَمَّا إِقَامَةُ الْجِدَارِ فَمِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فَعَمَدَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ وَكَذَا .

     قَوْلُهُ  عَمَدْتُ وَنَوْلٌ بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ أُجْرَةٌ .

     قَوْلُهُ  فَانْطَلَقَا أَيْ فَخَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَانْطَلَقَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ .

     قَوْلُهُ  قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى