فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب سؤال الحاكم المدعي: هل لك بينة؟ قبل اليمين

( قَولُهُ بَابُ سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِي هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ قَبْلَ الْيَمِينِ)
أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْأَشْعَثِ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ قلت لَا قَالَ يحلف وَفِيه حَدِيث بن مَسْعُودٍ وَقَولُهُ فِي التَّرْجَمَةِ قَبْلَ الْيَمِينِ أَيْ قَبْلَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْمُدَّعِي بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الْحَاكِمُ يَمِينَ الِاسْتِظْهَارِ بِأَنَّ بَيِّنَتَهُ شَهِدَتْ لَهُ بِحَقٍّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْأَشْعَثِ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ بَلْ فِيهِ مَا قَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَنَّ يَمِينَ الِاسْتِظْهَارِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَالله أعلم وَسَيَأْتِي مبَاحث حَدِيثي الْأَشْعَث وبن مَسْعُودٍ فِي التَّفْسِيرِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ لَا تُعْرَضُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا اعْترف الْمُدَّعِي أَن لَهُ بَيِّنَة .

     قَوْلُهُ  بَابٌ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ أَيْ دُونَ الْمُدَّعِي وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا تَجِبَ يَمِينُ الِاسْتِظْهَارِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَضَاءُ بَشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِين الْمُدَّعِي واستشهاد المُصَنّف بِقصَّة بن شُبْرُمَةَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ الثَّانِيَ وَقَولُهُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْكُوفِيِّينَ فِي تَخْصِيصِهِمُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ إِلَى الْقَوْلِ بِعُمُومِ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُود وَالنِّكَاح وَنَحْوِهِ وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَالْفِدْيَةَ فَقَالَ لَا يَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا الْيَمِينُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَلَوْ شَاهِدًا وَاحِدًا .

     قَوْلُهُ  وقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ وَصَلَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَارْتَفَعَ شَاهِدَاكَ عَلَى أَنَّهُ خبر مبتدأمحذوف تَقْدِيرُهُ الْمُثْبِتُ لَكَ أَوِ الْحُجَّةُ أَوْ مَا يُثْبِتُ لَكَ وَالْمَعْنَى مَا يُثْبِتُ لَكَ شَهَادَةُ شَاهِدَيْكَ أَوْ لَكَ إِقَامَةُ شَاهِدَيْكِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ إِعْرَابَهُ فَارْتَفَعَ وَحُذِفَ الْخَبَرُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرَّهْنِ بِلَفْظِ شُهُودُكَ وَأَنَّهُ رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ .

     قَوْلُهُ  وقَال قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ بن عُيَيْنَةَ وَرَأَيْتُ بِخَطِّ الْقُطْبِ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَرَدَّ ذَلِكَ مُغَلْطَايْ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَحْتَجَّ بِابْنِ شُبْرُمَةَ وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ لَهُ فِي الشَّوَاهِدِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَهَذَا مِنَ الشَّوَاهِدِ فَإِنَّهُ حِكَايَة وَاقعَة اتّفقت لَهُ مَعَ بن عُيَيْنَةَ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ يُحْتَجُّ بِهِ قَوْله عَن بْنِ شُبْرُمَةَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ حَسَّانَ الضَّبِّيُّ قَاضِي الْكُوفَةِ لِلْمَنْصُورِ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ .

     قَوْلُهُ  كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ هُوَ قَاضِي الْمَدِينَةِ .

     قَوْلُهُ  فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي أَيْ فِي الْقَوْلِ بِجَوَازِهَا وَكَانَ مَذْهَبُ أَبِي الزِّنَادِ الْقَضَاءَ بِذَلِكَ كَأَهْلِ بَلَده وَمذهب بن شُبْرُمَةَ خِلَافَهُ كَأَهْلِ بَلَدِهِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ أَبُو الزِّنَادِ بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بن شُبْرُمَةَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَإِنَّمَا تَتِمُّ لَهُ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا وَرَدَ مُتَضَمِّنًا لِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا وَالسُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ أَوْ لَا يَكُونُ نَسْخًا بَلْ زِيَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِحُكْمٍ مُسْتَقِلٍّ إِذَا ثَبَتَ سَنَدُهُ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْحِجَازِيِّينَ وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ لَا تَنْتَهِضُ حجَّة بن شُبْرُمَةَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعَارَضَةً لِلنَّصِّ بِالرَّأْيِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِهِ وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ الْحَاجة إِلَى إذكار إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا شَهِدَتَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدَا قَامَتْ مَقَامَهُمَا يَمِينُ الطَّالِبِ بِبَيَانِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَالْيَمِينُ مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ لَوِ انْفَرَدَتْ لَحَلَّتْ مَحَلَّ الْبَيِّنَةِ فِي الْأَدَاءِ وَالْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ حَلَّتِ الْيَمِينُ هُنَا مَحَلَّ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِهَا مُضَافَةً لِلشَّاهِدِ الْوَاحِدِ قَالَ وَلَوْ لَزِمَ إِسْقَاطُ الْقَوْلِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَلَزِمَ إِسْقَاطُ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا فِي السُّنَّةِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ اه وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَى الشَّيْءِ نَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ لَكِنْ مُقْتَضَى مَا بَحَثَهُ أَنْ لَا يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُمَا مِنَ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَصَحَّحَهُ الْحَنَابِلَةُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الْحَقِّ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ أَخَذَ حَقَّهُ وَإِنْ جَاءَ بَشَاهِدٍ وَاحِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْقُرْآنِ نَسْخٌ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ لَا تَنْسَخُ الْمُتَوَاتِرَ وَلَا تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ مِنَ الْأَحَادِيثِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْخَبَرُ بِهَا مَشْهُورًا وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَلَا رفع هُنَا وَأَيْضًا فالناسخ والمنسوخ لابد أَنْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ تَسْمِيَةَ الزِّيَادَةِ كَالتَّخْصِيصِ نَسْخًا اصْطِلَاحٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لَكِنْ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْعَمَّةِ مَعَ بِنْتِ أَخِيهَا وَسَنَدُ الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ وَكَذَلِكَ قَطْعُ رِجْلِ السَّارِقِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَقَدْ أَخَذَ مَنْ رَدَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ كُلُّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ كَالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَالْوُضُوءِ مِنَ الْقَهْقَهَةِ وَمِنَ الْقَيْءِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ وَاسْتِبْرَاءِ الْمَسْبِيَّةِ وَتَرْكِ قَطْعِ مَنْ سَرَقَ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ وَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْوِلَادَةِ وَلَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ وَلَا جُمُعَةَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَلَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا يُؤْكَلُ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ وَيَحْرُمُ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَلَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مِنَ الْقَتِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ عَلَى عُمُومِ الْكِتَابِ وَأَجَابُوا بِأَنَّهَا أَحَادِيثُ شَهِيرَةٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا لِشُهْرَتِهَا فَيُقَالُ لَهُمْ وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ جَاءَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ بَلْ ثَبَتَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَمِنْهَا مَا أخرجه مُسلم من حَدِيث بن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ.

     وَقَالَ  فِي الْيَمِينِ إِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا يُرْتَابُ فِي صِحَّتِهِ.

     وَقَالَ  بن عَبْدِ الْبَرِّ لَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِي صِحَّتِهِ وَلَا إِسْنَادِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ لَا تُعْرَفُ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُمَا تَابِعِيَّانِ ثِقَتَانِ مَكِّيَّانِ وَقَدْ سَمِعَ قَيْسٌ مِنْ أَقْدَمَ مِنْ عَمْرٍو وَبِمِثْلِ هَذَا لَا تُرَدُّ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ وَمِنْهَا حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَرِجَالُهُ مَدَنِيُّونَ ثِقَاتٌ وَلَا يَضُرُّهُ أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَ بِهِ رَبِيعَةَ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ نَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ وَقِصَّتُهُ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهَا وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة أخرجه التِّرْمِذِيّ وبن ماجة وَصَححهُ بن خُزَيْمَةَ وَأَبُو عَوَانَةَ وَفِي الْبَابِ عَنْ نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهَا الْحِسَانُ وَالضِّعَافُ وَبِدُونِ ذَلِكَ تَثْبُتُ الشُّهْرَةُ وَدَعْوَى نَسْخِهِ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ بِأَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ النُّكُولِ وَرَدَّ الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَلِفٍ فَإِذَا حَلَفَ ثَبَتَ الْحَقُّ بِغَيْرِ خِلَافٍ فَيَكُونُ حَلِفُ الْمُدَّعِي وَمَعَهُ شَاهِدٌ آخَرُ أَوْلَى فَهُوَ مُتَعَقَّبٌ وَلَا يَرِدُ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِرَدِّ الْيَمِينِ.

     وَقَالَ  الشَّافِعِيُّ الْقَضَاءُ بَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ يَعْنِي وَالْمُخَالِفُ لِذَلِكَ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ فَضْلًا عَن مَفْهُوم الْعدَد وَالله أعلم.

     وَقَالَ  بن الْعَرَبِيِّ أَظْرَفُ مَا وَجَدْتُ لَهُمْ فِي رَدِّ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ قَضَى بِيَمِينِ الْمُنْكِرِ مَعَ شَاهِدِ الطَّالِبِ وَالْمُرَادُ أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَا يَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهَذَا المُرَاد بقوله قضى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين وَتعقبه بن الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ جَهْلٌ بِاللُّغَةِ لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِنْ شَيْئَيْنِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي الْمُتَضَادَّيْنِ ثَانِيهِمَا حَمْلُهُ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ آخَرَ عَبْدًا مَثَلًا فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ بِهِ عَيْبًا وَأَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ فَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَا اشْتَرَى بِالْبَرَاءَةِ وَيَرُدُّ الْعَبْدَ.
وَتَعَقَّبَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّهَا صُورَةٌ نَادِرَةٌ وَلَا يُحْمَلُ الْخَبَرُ عَلَيْهَا.

قُلْتُ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي البَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا حَدِيثُ بن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَكَذَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّهْنِ وَهُنَا مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بن عمر الجُمَحِي عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ وَأَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ من طَرِيق بن جريج عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ مِثْلَهُ وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ادَّعَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى أَنَّهَا جَرَحَتْهَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ نَافِع عَن بن عُمَرَ بِلَفْظِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

     وَقَالَ  لَمْ يَرْوِهِ عَنْ سُفْيَانَ الا الْفرْيَابِيّ وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة بن جُرَيْجٍ بِلَفْظِ وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّالِبِ وَالْيَمِينَ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ بن جريج وَعُثْمَان بن الْأسود عَن بن أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كُنْتُ قَاضِيًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الطَّائِفِ فَذَكَرَ قِصَّةَ الْمَرْأَتَيْنِ فَكَتَبْتُ إِلَى بن عَبَّاسٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَإِسْنَادُهَا حَسَنٌ وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ.

     وَقَالَ  الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ جَانِبَ الْمُدَّعِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَقُولُ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَكُلِّفَ الْحُجَّةَ الْقَوِيَّةَ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا لَا تَجْلِبُ لِنَفْسِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا فَيَقْوَى بِهَا ضَعْفُ الْمُدَّعِي وَجَانِبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَوِيٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ فَاكْتُفِيَ مِنْهُ بِالْيَمِينِ وَهِيَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ الْحَالِفَ يَجْلِبُ لِنَفْسِهِ النَّفْعَ وَيَدْفَعُ الضَّرَرَ فَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمَشْهُورُ فِيهِ تَعْرِيفَانِ الْأَوَّلُ الْمُدَّعِي مَنْ يُخَالِفُ .

     قَوْلُهُ  الظَّاهِرَ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ وَالثَّانِي مَنْ إِذَا سَكَتَ تُرِكَ وَسُكُوتَهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ لَا يُخَلَّى إِذَا سَكَتَ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَالثَّانِي أَسْلَمُ وَقَدْ أُوْرِدَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُودَعَ إِذَا ادَّعَى الرَّدَّ أَوِ التَّلَفَ فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ