فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب إثم الغادر للبر والفاجر

( قَولُهُ بَابُ إِثْمِ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ)
أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَرٍّ لِفَاجِرِ أَوْ بَرٍّ أَوْ مِنْ فَاجِرٍ لِبَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ وَبَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالتَّرْجَمَةِ السَّابِقَةِ بِثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا وَثَانِيهَا حَدِيث بن مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ مَعًا لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ وَقَولُهُ



[ قــ :3040 ... غــ :3186] وَعَنْ ثَابِتٍ قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ شُعْبَةُ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنِ شُعْبَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا قَالَ فِي مَوْضِعَيْنِ وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ فَيَكُونُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ ثَابِتٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُرَقِّمْ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ ثَابِتٍ رَقْمَ الْبُخَارِيِّ .

     قَوْلُهُ  قَالَ أَحَدُهُمَا يُنْصَبُ.

     وَقَالَ  الْآخَرُ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ يُنْصَبُ وَلَا يُرَى وَقَدْ زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْد استه قَالَ بن الْمُنِيرِ كَأَنَّهُ عُومِلَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ لِأَنَّ عَادَةَ اللِّوَاءِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّأْسِ فَنُصِبَ عِنْدَ السُّفْلِ زِيَادَةً فِي فَضِيحَتِهِ لِأَنَّ الْأَعْيُنَ غَالِبًا تَمْتَدُّ إِلَى الْأَلْوِيَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِامْتِدَادِهَا إِلَى الَّتِي بَدَتْ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَيَزْدَادُ بهَا فضيحة ثَالِثهَا حَدِيث بن عُمَرَ فِي ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  يُنْصَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِغَدْرَتِهِ أَيْ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا خِطَابٌ مِنْهُ لِلْعَرَبِ بِنَحْوِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ لِلْوَفَاءِ رَايَةً بَيْضَاءَ وَلِلْغَدْرِ رَايَةً سَوْدَاءَ لِيَلُومُوا الْغَادِرَ وَيَذُمُّوهُ فَاقْتَضَى الْحَدِيثُ وُقُوعَ مِثْلِ ذَلِكَ لِلْغَادِرِ لِيَشْتَهِرَ بِصِفَتِهِ فِي الْقِيَامَةِ فَيَذُمُّهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ.
وَأَمَّا الْوَفَاءُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ كَذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ لِوَاءُ الْحَمْدِ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغَدْرِ قَرِيبًا وَالْكَلَامُ عَلَى اللِّوَاءِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّايَةِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَفِي الْحَدِيثِ غِلَظُ تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لَا سِيَّمَا مِنْ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ غَدْرَهُ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْغَدْرِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ.

     وَقَالَ  عِيَاضٌ الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي ذَمِّ الْإِمَامِ إِذَا غَدَرَ فِي عُهُودِهِ لِرَعِيَّتِهِ أَوْ لِمُقَاتِلَتِهِ أَوْ لِلْإِمَامَةِ الَّتِي تَقَلَّدَهَا وَالْتَزَمَ الْقِيَامَ بِهَا فَمَتَى خَانَ فِيهَا أَوْ تَرَكَ الرِّفْقَ فَقَدْ غَدَرَ بِعَهْدِهِ وَقِيلَ الْمُرَادُ نَهْيُ الرَّعِيَّةِ عَنِ الْغَدْرِ بِالْإِمَامِ فَلَا تَخْرُجُ عَلَيْهِ وَلَا تَتَعَرَّضُ لِمَعْصِيَتِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ قَالَ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

قُلْتُ وَلَا أَدْرِي مَا الْمَانِعُ مِنْ حَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِيهِ أَتَمَّ مِمَّا هُنَا وَأَنَّ الَّذِي فهمه بن عمر رَاوِي الْحَدِيثِ هُوَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِيهِ أَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِآبَائِهِمْ لِقَوْلِهِ فِيهِ هَذِه غدرة فلَان بن فلَان وَهِي رِوَايَة بن عمر الْآتِيَة فِي الْفِتَن قَالَ بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ بِأُمَّهَاتِهِمْ فَقَدْ يُخَصُّ هَذَا مِنَ الْعُمُومِ وَتَمَسَّكَ بِهِ قَوْمٌ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَغْدِرُونَ كَمَا حَكَاهُ الْبَاجِيُّ رَابِعُهَا حَدِيثُ بن عَبَّاسٍ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ وَبَاقِيهِ فِي الْحَجِّ وَفِي تَعَلُّقِهِ بِالتَّرْجَمَةِ غُمُوضٌ قَالَ بن بَطَّالٍ وَجْهُهُ أَنَّ مَحَارِمَ اللَّهِ عُهُودُهُ إِلَى عِبَادِهِ فَمَنِ انْتَهَكَ مِنْهَا شَيْئًا كَانَ غَادِرًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ أَمَّنَ النَّاسَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْقِتَالَ بِمَكَّةَ حَرَامٌ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَغْدِرَ بِهِمْ أَحَدٌ فِيمَا حَصَلَ لَهُم من الْأمان.

     وَقَالَ  بن الْمُنِيرِ وَجْهُهُ أَنَّ النَّصَّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ اخْتُصَّتْ بِالْحُرْمَةِ إِلَّا فِي السَّاعَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُؤْمِنِ الْبِرُّ فِيهَا إِذْ كُلُّ بُقْعَةٍ كَذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا اخْتُصَّتْ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.

     وَقَالَ  الْكِرْمَانِيُّ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ





[ قــ :304 ... غــ :3189] قَوْلِهِ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا إِذْ مَعْنَاهُ لَا تَغْدِرُوا بِالْأَئِمَّةِ وَلَا تُخَالِفُوهُمْ لِأَنَّ إِيجَابَ الْوَفَاءِ بِالْخُرُوجِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَحْرِيمِ الْغَدْرِ أَوْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَغْدِرْ بِاسْتِحْلَالِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ بَلْ كَانَ بِإِحْلَالِ اللَّهِ لَهُ سَاعَةً وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَازَ لَهُ.

قُلْتُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ سَبَبِ الْفَتْحِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ غَدْرُ قُرَيْشٍ بِخُزَاعَةَ حُلَفَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَحَارَبُوا مَعَ بَنِي بَكْرٍ حُلَفَاءِ قُرَيْشٍ فَأَمَدَّتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ وَأَعَانُوهُمْ عَلَى خُزَاعَةَ وَبَيَّتُوهُمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي مُفَصَّلًا فَكَانَ عَاقِبَةُ نَقْضِ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ بِمَا فَعَلُوهُ أَنْ غَزَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى فَتَحُوا مَكَّةَ وَاضْطَرُّوا إِلَى طَلَبِ الْأَمَانِ وَصَارُوا بَعْدَ الْعِزِّ وَالْقُوَّةِ فِي غَايَةِ الْوَهَنِ إِلَى أَنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَكْثَرُهُمْ لِذَلِكَ كَارِهٌ وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْبَرِّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْفَاجِرِ إِلَى خُزَاعَةَ لِأَنَّ أَكْثَرَهَمْ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَعْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ خَاتِمَةٌ اشْتَمَلَتْ أَحَادِيثُ فَرْضِ الْخُمُسِ وَالْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ بَقَايَا الْجِهَادِ وَإِنَّمَا أَفْرَدَهَا زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ كَمَا أُفْرِدَتِ الْعُمْرَةُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سَبْعَةَ عَشَرَ طَرِيقًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهَا وَفِيمَا مَضَى سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي صِفَةِ نَقْشِ الْخَاتَمِ وَحَدِيثِهِ فِي النَّعْلَيْنِ وَحَدِيثِهِ فِي الْقَدَحِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ وَحَدِيثِ خَوْلَةَ إِنَّ رِجَالًا يَخُوضُونَ وَحَدِيثِ تَرِكَةِ الزُّبَيْرِ وَحَدِيثِ سُؤَالِ هَوَازِنَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَحَدِيثِ إِعْطَاءِ جَابِرٍ مِنْ تَمْرِ خَيْبَرَ وَحَدِيثِ بن عُمَرَ لَمْ يَعْتَمِرْ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ وَحَدِيثِهِ كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ فَهَذِهِ فِي الْخُمُسِ وَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَجُوسِ وَحَدِيث عمر فِيهِ وَحَدِيث بن عَمْرو من قتل معاهدا وَحَدِيث بن شِهَابٍ فِيمَنْ سَحَرَ وَحَدِيثِ عَوْفٍ فِي الْمَلَاحِمِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَفِيهَا مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عِشْرُونَ أَثَرًا وَاللَّهُ أعلم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم