فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب التسمية على الطعام والأكل باليمين

قَوْله بَاب التَّسْمِيَة على الطَّعَام وَالْأكل بِالْيَمِينِ)
الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ قَوْلُ بِسْمِ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ وَأَصْرَحُ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ التَّسْمِيَةِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ كُلْثُومٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي أَدَبِ الْأَكْلِ مِنْ الْأَذْكَارِ صِفَةُ التَّسْمِيَةِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَإِنْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ كَفَاهُ وَحَصَلَتِ السُّنَّةُ فَلَمْ أَرَ لِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأَفْضَلِيَّةِ دَلِيلًا خَاصًّا.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي آدَابِ الْأَكْلِ مِنَ الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ بِسْمِ اللَّهِ كَانَ حَسَنًا وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَعَ الْأُولَى بِسْمِ اللَّهِ وَمَعَ الثَّانِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ وَمَعَ الثَّالِثَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَلَمْ أَرَ لِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ دَلِيلًا وَالتَّكْرَارُ قَدْ بَيَّنَ هُوَ وَجْهَهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى لَا يَشْغَلَهُ الْأَكْلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  وَالْأَكْلُ بِالْيَمِينِ فَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَكَذَا بِغَيْرِهِ بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُلْقِمَهُ غَيْرُهُ وَلَكِنَّهُ بِيَمِينِهِ لَا بِشِمَالِهِ



[ قــ :5084 ... غــ :5376] .

     قَوْلُهُ  أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي كَذَا وَقَعَ هُنَا وَهُوَ مِنْ تَأْخِيرِ الصِّيغَةِ عَنِ الرَّاوِي وَهُوَ جَائِزٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْوَلِيدِ بِالْعَنْعَنَةِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرَهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ إِسْنَادِهِ فَقَالَ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي سِيَاقِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ وَلِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَنَدٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بن مَنْصُور وبن مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى هِشَامٍ فِي سَنَدِهِ فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ عَرَّجَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ لِذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَي بن عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ وَاسْمُ أَبِي سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ وَأُمُّ عُمَرَ الْمَذْكُورِ هِيَ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ رَبِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

     قَوْلُهُ  كُنْتُ غُلَامًا أَيْ دُونَ الْبُلُوغِ يُقَالُ لِلصَّبِيِّ مِنْ حِينِ يُولَدُ إِلَى أَنْ يبلغ الْحلم غُلَام وَقد ذكر بن عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَتَبِعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ مَعَ النِّسْوَةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَكَانَ أَكْبَرَ مِنِّي بِسَنَتَيْنِ انْتَهَى ومولد بن الزُّبَيْرِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى الصَّحِيحِ فَيَكُونُ مَوْلِدُ عُمَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ .

     قَوْلُهُ  فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ أَيْ فِي تَرْبِيَتِهِ وَتَحْتَ نَظَرِهِ وَأَنَّهُ يُرَبِّيهِ فِي حِضْنِهِ تَرْبِيَةَ الْوَلَدِ قَالَ عِيَاضٌ الْحَجْرُ يُطْلَقُ عَلَى الْحِضْنِ وَعَلَى الثَّوْبِ فَيَجُوزُ فِيهِ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْحَضَانَةِ فَبِالْفَتْحِ لَا غَيْرِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَبِالْفَتْحِ فِي الْمَصْدَرِ وَبِالْكَسْرِ فِي الِاسْمِ لَا غَيْرُ .

     قَوْلُهُ  وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ أَيْ عِنْدَ الْأَكْلِ وَمَعْنَى تَطِيشُ وَهُوَ بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ تَطِيرُ تَتَحَرَّكُ فَتَمِيلُ إِلَى نَوَاحِيَ الْقَصْعَةِ وَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ قَالَ وَالْأَصْلُ أَطِيشُ بِيَدَيْ فَأَسْنَدَ الطَّيْشَ إِلَى يَدِهِ مُبَالَغَةً.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ مَعْنَى تَطِيشُ تَخِفُّ وَتُسْرِعُ وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ أَكَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ نَوَاحِيَ الصَّحْفَةِ وَهُوَ يُفَسِّرُ الْمُرَادَ وَالصَّحْفَةُ مَا تُشْبِعُ خَمْسَةً وَنَحْوَهَا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَصْعَةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ طَعَامٌ فَقَالَ ادْنُ يَا بُنَيَّ وَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ وَعِنْدَهُ رَبِيبُهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَجِيءَ الطَّعَامِ وَافَقَ دُخُولَهُ .

     قَوْلُهُ  يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهِ قَالَ النَّوَوِيُّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ فِي أَوَّلِهِ وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ نَظَرٌ إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِالِاسْتِحْبَابِ أَنَّهُ رَاجِحُ الْفِعْلِ وَإِلَّا فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ وَهُوَ قَضِيَّةُ الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْأَكْلِ بِالْيَمِينِ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ بِالْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ .

     قَوْلُهُ  وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَمِمَّا يَلِيكَ قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ حَمَلَهُ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى النَّدْبِ وَبِهِ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ النَّوَوِيُّ لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأُمِّ عَلَى الْوُجُوبِ.

قُلْتُ وَكَذَا ذَكَرَهُ عَنْهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَنَقَلَ الْبُوَيْطِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ رَأْسِ الثَّرِيدِ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْقِرَانَ فِي التَّمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ الْأَمْرُ بِضِدِّهِ حَرَامٌ وَمَثَّلَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ لِلنَّدَبِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلْ مِمَّا يَلِيكَ.
وَتَعَقَّبَهُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِهِ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ مِمَّا لَا يَلِيهِ عَالِمًا بِالنَّهْيِ كَانَ عَاصِيًا آثِمًا قَالَ وَقَدْ جَمَعَ وَالِدِي نَظَائِرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ كَشْفُ اللَّبْسِ عَنِ الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ وَنَصَرَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْوُجُوبِ.

قُلْتُ وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وُرُودُ الْوَعِيدِ فِي الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ فَقَالَ كُلْ بِيَمِينِكَ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ لَا اسْتَطَعْتَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدُ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ مِنْ حَدِيثَ عَقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ تَأْكُلُ بِشِمَالِهَا فَقَالَ أَخَذَهَا دَاءُ غَزَّةَ فَقَالَ إِنَّ بِهَا قُرْحَةً قَالَ وَإِنْ فَمَرَّتْ بِغَزَّةَ فَأَصَابَهَا طَاعُونٌ فَمَاتَتْ وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْجِيزِيُّ فِي مُسْنَدِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلُوا مِصْرَ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ وَأَنه من عمل الشَّيْطَان من حَدِيث بن عُمَرَ وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَعِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَفَعَتْهُ مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ الْحَدِيثَ وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ أَيْ يَحْمِلُ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ الْإِنْسِ عَلَى ذَلِكَ لِيُضَادَّ بِهِ عِبَادَ اللَّهِ الصَّالِحِينَ قَالَ الطِّيبِيُّ وَتَحْرِيرُهُ لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ فَإِنْ فَعَلْتُمْ كُنْتُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى وَفِيهِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ الْخَبَرُ بِهِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي ذَلِكَ احْتِمَالَيْنِ ثُمَّ قَالَ وَالْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ وَهَذَا عِبَارَةٌ عَنْ تَنَاوُلِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْتِحْسَانُهُ رَفْعَ الْبَرَكَةِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَشَبَّهَ بِالشَّيْطَانِ وَأَبْعَدَ وَتَعَسَّفَ مَنْ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي شِمَالِهِ عَلَى الْآكِلِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ اسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْيَمِينِ وَكَرَاهَةُ ذَلِكَ بِالشِّمَالِ وَكَذَلِكَ كُلُّ أَخْذٍ وَعَطَاءٍ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طرق حَدِيث بن عمر وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ فَإِنْ كَانَ فَلَا كَرَاهَةَ كَذَا قَالَ وَأَجَابَ عَنِ الْإِشْكَالِ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَاعْتَذَرَ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ بِأَنَّ عِيَاضًا ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا.
وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ جَمَاعَةً ذَكَرُوهُ فِي الصَّحَابَةِ وَسَمَّوْهُ بُسْرًا بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَاحْتَجَّ عِيَاضٌ بِمَا وَرَدَ فِي خَبَرِهِ أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكِبْرُ وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْكِبْرَ وَالْمُخَالَفَةَ لَا يَقْتَضِي النِّفَاقَ لَكِنَّهُ مَعْصِيَةٌ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ إِيجَابٍ.

قُلْتُ وَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنِ اخْتِيَارِهِ أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرُ نَدْبٍ وَقد صرح بن الْعَرَبِيِّ بِإِثْمِ مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يُنْسَبُ إِلَى الشَّيْطَانِ حَرَامٌ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَشْرِيفِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ لِأَنَّهَا أَقْوَى فِي الْغَالِبِ وَأَسْبَقُ لِلْأَعْمَالِ وَأَمْكَنُ فِي الْأَشْغَالِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْيُمْنِ وَقَدْ شَرَّفَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ نَسَبَهُمْ إِلَى الْيَمِينِ وَعَكْسُهُ فِي أَصْحَابِ الشِّمَالِ قَالَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْيَمِينُ وَمَا نُسِبَ إِلَيْهَا وَمَا اشْتُقَّ مِنْهَا مَحْمُودٌ لُغَةً وَشَرْعًا وَدِينًا وَالشِّمَالُ عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمِنَ الْآدَابِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالسِّيرَةِ الْحَسَنَةِ عِنْدَ الْفُضَلَاءِ اخْتِصَاصُ الْيَمِينِ بِالْأَعْمَالِ الشَّرِيفَةِ وَالْأَحْوَالِ النَّظِيفَةِ.

     وَقَالَ  أَيْضًا كُلُّ هَذِهِ الْأَوَامِرِ مِنَ الْمَحَاسِنِ الْمُكَمِّلَةِ وَالْمَكَارِمِ الْمُسْتَحْسَنَةِ وَالْأَصْلُ فِيمَا كَانَ مِنْ هَذَا التَّرْغِيبُ وَالنَّدْبُ قَالَ وَقَولُهُ كُلْ مِمَّا يَلِيكَ مَحِلُّهُ مَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ نَوْعًا وَاحِدًا لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ كَالْحَائِزِ لِمَا يَلِيهِ مِنَ الطَّعَامِ فَأَخْذُ الْغَيْرِ لَهُ تَعَدٍّ عَلَيْهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَقَذُّرِ النَّفْسِ مِمَّا خَاضَتْ فِيهِ الْأَيْدِي وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الْحِرْصِ وَالنَّهَمِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَنْوَاعُ فَقَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ كَذَا قَالَ .

     قَوْلُهُ  فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ صِفَةُ أَكْلِي أَيْ لَزِمْتُ ذَلِكَ وَصَارَ عَادَةً لِي قَالَ الْكِرْمَانِيُّ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالضَّمِّ يُقَالُ طُعْمٌ إِذَا أَكْلٌ وَالطُّعْمَةُ الْأَكْلَةُ وَالْمُرَادُ جَمِيعُ مَا تقدم من الِابْتِدَاء بِالتَّسْمِيَةِ وَالْأكل بِالْيَمِينِ وَالْأكل مِمَّا يَلِيهِ وَقَولُهُ بَعْدُ بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ أَيِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِي فِي الْأَكْلِ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي اجْتِنَابَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُشْبِهُ أَعْمَالَ الشَّيَاطِينِ وَالْكُفَّارِ وَأَنَّ لِلشَّيْطَانِ يَدَيْنِ وَأَنَّهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَأْخُذُ وَيُعْطِي وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى فِي حَالِ الْأَكْلِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْلِيمِ أَدَبِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ لامتثاله الْأَمر ومواظبته على مُقْتَضَاهُ