فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب: كل معروف صدقة

( قَولُهُ بَابُ حَقِّ الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الْأَبْوَابِ)
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَنَدِهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ وَقَولُهُ أَقْرَبُهُمَا أَيْ أَشَدُّهُمَا قُرْبًا قِيلَ الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْأَقْرَبَ يَرَى مَا يَدْخُلُ بَيْتَ جَارِهِ مِنْ هَدِيَّةٍ وَغَيْرِهَا فَيَتَشَوَّفُ لَهَا بِخِلَافِ الْأَبْعَدِ وَأَنَّ الْأَقْرَبَ أَسْرَعُ إِجَابَةً لِمَا يَقَعُ لِجَارِهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَة.

     وَقَالَ  بن أَبِي جَمْرَةَ الْإِهْدَاءُ إِلَى الْأَقْرَبِ مَنْدُوبٌ لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَلَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِيهَا وَاجِبًا وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَمَلِ بِمَا هُوَ أَعْلَى أَوْلَى وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجِوَارِ فَجَاءَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَهُوَ جَارٌ وَقِيلَ مَنْ صَلَّى مَعَكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ جَارٌ وَعَنْ عَائِشَةَ حَدُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ مِثْلَهُ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِثْلَهُ عَنِ الْحَسَنِ وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ وَأخرج بن وهب عَن يُونُس عَن بن شِهَابٍ أَرْبَعُونَ دَارًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ كَالْأُولَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ التَّوْزِيعَ فَيَكُونُ مِنْ كل جَانب عشرَة قَولُهُ بَابُ كُلِّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ الْحَسَنِ الْهِلَالِيِّ عَن بن الْمُنْكَدِرِ مِثْلَهُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ وَمَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ كَالْأَوَّلِ وَزَادَ وَمَنِ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ وَأَنْ تُلْقِي مِنْ دَلْوِكَ فِي اناء أَخِيك قَالَ بن بَطَّالٍ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَقُولُهُ مِنَ الْخَيْرِ يُكْتَبُ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ بَعْدَ حَدِيثِ جَابِرٍ وَزَادَ عَلَيْهِ إِنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الشَّرِّ صَدَقَةٌ.

     وَقَالَ  الرَّاغِبُ الْمَعْرُوفُ اسْمُ كُلِّ فِعْلٍ يُعْرَفُ حُسْنُهُ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مَعًا وَيُطْلَقُ عَلَى الِاقْتِصَادِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنِ السَّرَفِ.

     وَقَالَ  بن أَبِي جَمْرَةَ يُطْلَقُ اسْمُ الْمَعْرُوفِ عَلَى مَا عُرِفَ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ سَوَاءٌ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَمْ لَا قَالَ وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الثَّوَابُ فَإِنْ قَارَنَتْهُ النِّيَّةُ أُجِرَ صَاحِبُهُ جَزْمًا وَإِلَّا فَفِيهِ احْتِمَالٌ قَالَ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ مِنْهُ فَلَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْيَسَارِ مَثَلًا بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ وَقَولُهُ



[ قــ :5699 ... غــ :6022] عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ أَيْ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْضٍ إِجْمَاعًا قَالَ بن بَطَّالٍ وَأَصْلُ الصَّدَقَةِ مَا يُخْرِجُهُ الْمَرْءُ مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا بِهِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ لِتَحَرِّي صَاحِبِهِ الصِّدْقَ بِفِعْلِهِ وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا يُحَابِي بِهِ الْمَرْءُ مِنْ حَقِّهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ .

     قَوْلُهُ  فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَيْ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ قَالَ فَيَعْمَلُ بيدَيْهِ قَالَ بن بَطَّالٍ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْعَمَلِ وَالتَّكَسُّبِ لِيَجِدَ الْمَرْءُ مَا يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَيُغْنِيهِ عَلَى ذُلِّ السُّؤَالِ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ مَهْمَا أَمْكَنَ وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ شَيْئًا مِنْهَا فَتَعَسَّرَ فَلْيَنْتَقِلْ إِلَى غَيْرِهِ .

     قَوْلُهُ  فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِيِ .

     قَوْلُهُ  فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الملهوف أَي بِالْفِعْلِ أَو بالْقَوْل أَبُو بِهِمَا .

     قَوْلُهُ  فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَيْ عَجْزًا أَوْ كَسَلًا .

     قَوْلُهُ  فَلْيَأْمُرْ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِيِ أَيْضًا .

     قَوْلُهُ  فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ الخ قَالَ بن بَطَّالٍ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ جَعَلَ التَّرْكَ عَمَلًا وَكَسْبًا لِلْعَبْدِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِنَّ التَّرْكَ لَيْسَ بِعَمَلٍ وَنُقِلَ عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّهُ مِثْلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ.

قُلْتُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنَّ الْحَسَنَةَ إِنَّمَا تُكْتَبُ لِمَنْ هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا إِذَا قَصَدَ بِتَرْكِهَا اللَّهَ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ فَيَرْجِعُ إِلَى الْعَمَلِ وَهُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَقَدْ مَضَى هَذَا مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَاسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْكَعْبِيُّ لِقَوْلِهِ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ شَيْءٌ يُبَاحُ بَلْ إِمَّا أَجْرٌ وَإِمَّا وِزْرٌ فَمَنِ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ قَالَ بن التِّينِ وَالْجَمَاعَةُ عَلَى خِلَافِهِ وَقَدْ أَلْزَمُوهُ أَنْ يَجْعَلَ الزَّانِي مَأْجُورًا لِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ غَيره من الْمعْصِيَة قلت وَلَا يرد هَذَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الِاشْتِغَالَ بِغَيْرِ الْمَعْصِيَةِ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ مَا لَوِ اشْتَغَلَ بِعَمَلِ صَغِيرَةٍ عَنْ كَبِيرَةٍ كَالْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ عَنِ الزِّنَا وَقَدْ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الِاشْتِغَالَ بِشَيْءٍ مِمَّا لم يرد النَّص بِتَحْرِيمِهِ