فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين

( قَولُهُ بَابُ لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ)
اللَّدْغُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مَا يَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ وَاللَّذْعُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ وَالْجُحْرُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ .

     قَوْلُهُ  وقَال مُعَاوِيَةُ لَا حَكِيمَ إِلَّا بِتَجْرِبَةٍ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِوَزْنِ عَظِيمٍ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَا حِلْمَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ إِلَّا بِتَجْرِبَةٍ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا لِذِي تَجْرِبَةٍ وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لَا حِلْمَ إِلَّا بِالتَّجَارِبِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ قَالَهَا ثَلَاثًا وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَححهُ بن حبَان قَالَ بن الْأَثِيرِ مَعْنَاهُ لَا يَحْصُلُ الْحِلْمُ حَتَّى يَرْتَكِبَ الْأُمُورَ وَيَعْثُرَ فِيهَا فَيَعْتَبِرُ بِهَا وَيَسْتَبِينُ مَوَاضِعَ الْخَطَأِ وَيَجْتَنِبُهَا.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ الْمَعْنَى لَا يَكُونُ حَلِيمًا كَامِلًا إِلَّا مَنْ وَقَعَ فِي زَلَّةٍ وَحَصَلَ مِنْهُ خَطَأٌ فَحِينَئِذٍ يَخْجَلُ فَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَسْتُرَ مَنْ رَآهُ عَلَى عَيْبٍ فَيَعْفُوَ عَنْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ عَلِمَ نَفْعَهَا وَضَرَرَهَا فَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ قَالَ الطِّيبِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْحَلِيمِ بِذِي التَّجْرِبَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْحَكِيمِ بِخِلَافِهِ وَأَنَّ الْحَلِيمَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَجْرِبَةٌ قَدْ يَعْثُرُ فِي مَوَاضِعَ لَا يَنْبَغِي لَهُ فِيهَا الْحِلْمُ بِخِلَافِ الْحَلِيمِ الْمُجَرِّبِ وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ أَثَرِ مُعَاوِيَةَ لِحَدِيثِ الْبَابِ وَالله تَعَالَى أعلم



[ قــ :5804 ... غــ :6133] قَوْله عَن بن الْمُسَيَّبِ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أخرجه الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَكَذَا قَالَ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ فِيهِ وَخَالَفَهُمْ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ وَزَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ وَهُمَا ضَعِيفَانِ فَقَالَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أخرجه بن عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ عَنْ زَمعَة وبن أَبِي الْأَخْضَرِ وَاسْتَغْرَبَهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُعَافَى قَالَ.
وَأَمَّا زَمْعَةُ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا أَبُو نُعَيْمٍ.

قُلْتُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ وَرَوَاهُ عَنْ زَمْعَةَ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو أَحْمد الزبيرِي أخرجه بن مَاجَهْ .

     قَوْلُهُ  لَا يُلْدَغُ هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ أَيْ لِيَكُنِ الْمُؤْمِنُ حَازِمًا حَذِرًا لَا يُؤْتَى مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ فَيُخْدَعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَمَا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ أَوْلَاهُمَا بِالْحَذَرِ وَقَدْ رُوِيَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ فِي الْوَصْل فَيتَحَقَّق معنى النَّهْي عَنهُ قَالَ بن التِّينِ وَكَذَلِكَ قَرَأْنَاهُ قِيلَ مَعْنَى لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ.

قُلْتُ إِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا أَنَّ عُمُومَ الْخَبَرِ يَتَنَاوَلُ هَذَا فَيُمْكِنُ وَإِلَّا فَسَبَبُ الْحَدِيثِ يَأْبَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّغْفِيلِ وَإِشَارَةٌ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْفِطْنَةِ.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَاهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ إِذَا نُكِبَ مِنْ وَجْهٍ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ.

قُلْتُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الْأَكْثَرُ وَمِنْهُمُ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْخَبَرِ فَأَخْرَجَ بن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ لَمَّا قَدِمَ مِنْ عِنْدَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَاذَا صَنَعَ بِكَ قَالَ أَوْفَى عَنِّي دَيْنِي ثُمَّ قَالَ يَا بن شِهَابٍ تَعُودُ تُدَانُ.

قُلْتُ لَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ لَا يُعَاقَبُ فِي الدُّنْيَا بِذَنْبٍ فَيُعَاقَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَامِلِ الَّذِي قَدْ أَوْقَفَتْهُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ حَتَّى صَارَ يَحْذَرُ مِمَّا سَيَقَعُ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُغَفَّلُ فَقَدْ يُلْدَغُ مِرَارًا .

     قَوْلُهُ  مِنْ جُحْرٍ زَادَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ وَاحِدٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ جُحْرِ حَيَّةٍ وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّة قَالَ بن بَطَّالٍ وَفِيهِ أَدَبٌ شَرِيفٌ أَدَّبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ وَنَبَّهَهُمْ كَيْفَ يَحْذَرُونَ مِمَّا يَخَافُونَ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ حَذِرٌ أَخْرَجَهُ صَاحِبُ مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ قَالَ وَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَّلُ مَا قَالَهُ لِأَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ وَكَانَ شَاعِرًا فَأُسِرَ بِبَدْرٍ فَشكى عَائِلَةً وَفَقْرًا فَمَنَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطْلَقَهُ بِغَيْرِ فِدَاءٍ فَظَفِرَ بِهِ بِأُحُدٍ فَقَالَ مُنَّ عَلَيَّ وَذَكَرَ فَقْرَهُ وَعِيَالَهُ فَقَالَ لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ وَأُمِرَ بِهِ فَقُتِلَ وَأَخْرَجَ قِصَّتَهُ بن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي بِغَيْر إِسْنَاد.

     وَقَالَ  بن هِشَامٍ فِي تَهْذِيبِ السِّيرَةِ بَلَغَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَئِذٍ لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ وَصَنِيعُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْثَال مُشكل على قَول بن بَطَّالٍ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ ذَلِك وَلذَلِك قَالَ بن التِّينِ إِنَّهُ مَثَلٌ قَدِيمٌ.

     وَقَالَ  التُّورِبِشْتِيُّ هَذَا السَّبَبُ يُضَعِّفُ الْوَجْهَ الثَّانِي يَعْنِي الرِّوَايَةَ بِكَسْرِ الْغَيْن عَلَى النَّهْيِ وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ يُوَجَّهُ بِأَنْ يَكُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنْ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الْمَيْلَ إِلَى الْحِلْمِ جَرَّدَ مِنْهَا مُؤْمِنًا حَازِمًا فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي لَيْسَ مِنْ شِيمَةِ الْمُؤْمِنِ الْحَازِمِ الَّذِي يَغْضَبُ لِلَّهِ أَنْ يَنْخَدِعَ مِنَ الْغَادِرِ الْمُتَمَرِّدِ فَلَا يَسْتَعْمِلُ الْحِلْمَ فِي حَقِّهِ بَلْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا قَالَ فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحِلْمَ لَيْسَ مَحْمُودًا مُطْلَقًا كَمَا أَنَّ الْجُودَ لَيْسَ مَحْمُودًا مُطْلَقًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الصَّحَابَة أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم قَالَ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا مَحْضًا لَا يُفْهَمُ هَذَا الْغَرَضُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ بِصِيغَةِ النَّهْيِ أَرْجَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ احْتَرِسُوا مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى وَهُوَ ضَعِيفٌ فَلَهُ عِلَّتَانِ وَصَحَّ مِنْ قَوْلِ مطرف التَّابِعِيّ الْكَبِير أخرجه مُسَدّد