فهرس الكتاب

فتح الباري لابن حجر - باب الغنى غنى النفس

( .

     قَوْلُهُ  بَاب بِالتَّنْوِينِ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)

أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ قَلِيلَ الْمَالِ أَوْ كَثِيرَهُ وَالْغِنَى بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَقْصُورٌ وَقَدْ مُدَّ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَبِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَعَ الْمَدِّ هُوَ الْكِفَايَةُ .

     قَوْلُهُ  وقَال اللَّهُ تَعَالَى أَيَحْسَبُونَ أَنما نمدهم بِهِ من مَال وبنين إِلَى قَوْله هم لَهَا عاملون فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَى عَامِلُونَ وَهَذِهِ رَأْسُ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْآيَةِ الْمُبْدَأِ بِهَا هُنَا وَالْآيَاتُ الَّتِي بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَبَيْنَ الْأَخِيرَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا اعْتَرَضَتْ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غمرة من هَذَا لَلْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ نَمُدُّهُمْ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ ذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَينهم زبرا وَالْمَعْنَى أَيَظُنُّونَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي نَرْزُقُهُمْ إِيَّاهُ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا إِنْ ظَنُّوا ذَلِكَ أَخْطَئُوا بَلْ هُوَ اسْتِدْرَاجٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ انما نملي لَهُم ليزدادوا اثما وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ من هَذَا أَيْ مِنَ الِاسْتِدْرَاجِ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الْأَعْمَالَ مِنْ كفر أَو ايمان والى ذَلِك أَشَارَ بن عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ بِقَوْلِهِ لَمْ يَعْمَلُوهَا لَا بُد أَن يعملوها وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ فَقَالُوا الْمَعْنَى كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا قَبْلَ مَوْتِهِمْ لِتَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ثُمَّ مُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلْحَدِيثِ أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْمَالِ لَيْسَتْ لِذَاتِهِ بَلْ بِحَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى خَيْرًا فِي الْجُمْلَةِ وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمَالِ الْكَثِيرِ لَيْسَ غَنِيًّا لِذَاتِهِ بَلْ بِحَسَبِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ غَنِيًّا لَمْ يَتَوَقَّفْ فِي صَرْفِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ فَقِيرًا أَمْسَكَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ خَشْيَةً مِنْ نَفَادِهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَقِيرٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَإِنْ كَانَ الْمَالُ تَحْتَ يَدِهِ لِكَوْنِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْأُخْرَى بَلْ رُبَّمَا كَانَ وَبَالًا عَلَيْهِ



[ قــ :6108 ... غــ :6446] قَوْله حَدثنَا أَبُو بكر هُوَ بن عَيَّاش بِمُهْملَة وتحتانية ثمَّ مُعْجمَة وَهُوَ القاريء الْمَشْهُورُ وَأَبُو حَصِينٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ اسْمُهُ عُثْمَانُ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ .

     قَوْلُهُ  عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ ثُمَّ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَمَّا عَنْ فَهِيَ سَبَبِيَّةٌ.
وَأَمَّا الْعَرَضُ فَهُوَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَيُطْلَقُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْجَوْهَرَ وَعَلَى كُلُّ مَا يَعْرِضُ لِلشَّخْصِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ.

     وَقَالَ  أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْبُونِيُّ فِيمَا نَقله بن التِّينِ عَنْهُ قَالَ اتَّصَلَ بِي عَنْ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ الْقَيْرَوَانِ أَنَّهُ قَالَ الْعَرَضُ بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ الْوَاحِدُ مِنَ الْعُرُوضُ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا قَالَ وَهُوَ خَطَأٌ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُونَ عرض هَذَا الادنى وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّهُ مَا يَعْرِضُ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ أَحَدَ الْعُرُوضِ الَّتِي يُتَّجَرُ فِيهَا بَلْ وَاحِدُهَا عَرْضٌ بِالْإِسْكَانِ وَهُوَ مَا سِوَى النَّقْدَيْنِ.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدٍ الْعُرُوضُ الْأَمْتِعَةُ وَهِيَ مَا سِوَى الْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ ومالا يَدْخُلُهُ كَيْلٌ وَلَا وَزْنٌ وَهَكَذَا حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيره.

     وَقَالَ  بن فَارِسٍ الْعَرْضُ بِالسُّكُونِ كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَالِ غَيْرَ نَقْدٍ وَجَمْعُهُ عُرُوضٌ.
وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَمَا يُصِيبُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَظِّهِ فِي الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا.

     وَقَالَ  وان يَأْتهمْ عرض مثله يأخذوه .

     قَوْلُهُ  إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِمَا إِنَّمَا الْغِنَى فِي النَّفْسِ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى.

قُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرَ.

قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقلب والفقر فقر الْقلب قَالَ بن بَطَّالٍ مَعْنَى الْحَدِيثِ لَيْسَ حَقِيقَةُ الْغِنَى كَثْرَةَ الْمَالِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ لَا يَقْنَعُ بِمَا أُوتِيَ فَهُوَ يَجْتَهِدُ فِي الِازْدِيَادِ وَلَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ فَكَأَنَّهُ فَقِيرٌ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ وَهُوَ مَنِ اسْتَغْنَى بِمَا أُوتِيَ وَقَنِعَ بِهِ وَرَضِيَ وَلَمْ يَحْرِصْ عَلَى الِازْدِيَادِ وَلَا أَلَحَّ فِي الطَّلَبِ فَكَأَنَّهُ غَنِيٌّ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْغِنَى النَّافِعَ أَوِ الْعَظِيمَ أَوِ الْمَمْدُوحَ هُوَ غِنَى النَّفْسِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَتْ نَفْسُهُ كَفَّتْ عَنِ الْمَطَامِعِ فَعَزَّتْ وَعَظُمَتْ وَحَصَلَ لَهَا مِنَ الْحُظْوَةِ وَالنَّزَاهَةِ وَالشَّرَفِ وَالْمَدْحِ أَكْثَرُ مِنَ الْغِنَى الَّذِي يَنَالُهُ مَنْ يَكُونُ فَقِيرَ النَّفْسِ لِحِرْصِهِ فَإِنَّهُ يُوَرِّطُهُ فِي رَذَائِلِ الْأُمُورِ وَخَسَائِسِ الْأَفْعَالِ لِدَنَاءَةِ هِمَّتِهِ وَبُخْلِهِ وَيَكْثُرُ مَنْ يَذُمُّهُ مِنَ النَّاسِ وَيَصْغُرُ قَدْرُهُ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ أَحْقَرَ مِنْ كُلِّ حَقِيرٍ وَأَذَلَّ مِنْ كُلِّ ذَلِيلٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِغِنَى النَّفْسِ يَكُونُ قَانِعًا بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ لَا يَحْرِصُ عَلَى الِازْدِيَادِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا يُلِحُّ فِي الطَّلَبِ وَلَا يُلْحِفُ فِي السُّؤَالِ بَلْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ فَكَأَنَّهُ وَاجِدٌ أَبَدًا وَالْمُتَّصِفُ بِفَقْرِ النَّفْسِ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ لَا يَقْنَعُ بِمَا أُعْطِيَ بَلْ هُوَ أَبَدًا فِي طَلَبِ الِازْدِيَادِ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ ثُمَّ إِذَا فَاتَهُ الْمَطْلُوبُ حَزِنَ وَأَسِفَ فَكَأَنَّهُ فَقِيرٌ مِنَ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْنِ بِمَا أُعْطِيَ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ ثُمَّ غِنَى النَّفْسِ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ عِلْمًا بِأَنَّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى فَهُوَ مُعْرِضٌ عَن الحرض وَالطَّلَبِ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرًا وَقَالَ الطِّيبِيُّ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِغِنَى النَّفْسِ حُصُولُ الْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْقَائِلُ وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَ أَوْقَاتَهُ فِي الْغِنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْكَمَالَاتِ لَا فِي جَمْعِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِذَلِكَ إِلَّا فَقْرًا انْتَهَى وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ لَكِنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ أَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ غِنَى النَّفْسِ بِغِنَى الْقَلْبِ بِأَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى رَبِّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ فَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ فَيَرْضَى بِقَضَائِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَى نَعْمَائِهِ وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ فِي كَشْفِ ضَرَّائِهِ فَيَنْشَأُ عَنِ افْتِقَارِ الْقَلْبِ لرَبه غنى نَفسه عَن غير ربه تَعَالَى وَالْغِنَى الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فأغنى يَتَنَزَّلُ عَلَى غِنَى النَّفْسِ فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَا يَخْفَى مَا كَانَ فِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَحَ عَلَيْهِ خَيْبَرُ وَغَيْرُهَا مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ