فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ اسْتِحْبَابِ الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لِمَنْ يَمْضِي إِلَى جَمَاعَةٍ

باب اسْتِحْبَابِ الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لِمَنْ يَمْضِي إِلَى جَمَاعَةٍ وَيَنَالُهُ الْحَرُّ فِي طَرِيقِهِ
[ سـ :1016 ... بـ :615]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ سَوَاءً

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ ) وَذَكَرَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَ هَذَا حَدِيثَ خَبَّابٍ ( شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يَشْكُنَا . قَالَ زُهَيْرٌ : قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ أَفِي الظُّهْرِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قُلْتُ : أَفِي تَعْجِيلِهَا؟ قَالَ : نَعَمْ ) ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْإِبْرَادُ رُخْصَةٌ ، وَالتَّقْدِيمُ أَفْضَلُ ، وَاعْتَمَدُوا حَدِيثَ خَبَّابٍ ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ الْإِبْرَادِ عَلَى التَّرْخِيصِ وَالتَّخْفِيفِ فِي التَّأْخِيرِ ، وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ جَمَاعَةٌ : حَدِيثُ خَبَّابٍ مَنْسُوخٌ بِأَحَادِيثِ الْإِبْرَادِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : الْمُخْتَارُ اسْتِحْبَابُ الْإِبْرَادِ لِأَحَادِيثِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ خَبَّابٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْخِيرًا زَائِدًا عَلَى قَدْرِ الْإِبْرَادِ ، يُؤَخِّرُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ يَمْشُونَ فِيهِ وَيَتَنَاقَصُ الْحَرُّ . وَالصَّحِيحُ اسْتِحْبَابُ الْإِبْرَادِ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ ، الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى فِعْلِهِ وَالْأَمْرِ بِهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَمِنْ جِهَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ) هُوَ بِفَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتُ سَاكِنَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ سُطُوعِ حَرِّهَا وَانْتِشَارِهِ وَغَلَيَانِهَا .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ ) ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ ) هُمَا بِمَعْنًى ، وَ ( عَنْ ) تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا يُقَالُ : رَمَيْتُ عَنِ الْقَوْسِ ، أَيْ بِهَا .

قَوْلُهُ : ( عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ ) هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ .

قَوْلُهُ : ( حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ ) هِيَ جَمْعُ تَلٍّ وَهُوَ مَعْرُوفٌ ، وَالْفَيْءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَأَمَّا ( الظِّلُّ ) فَيُطْلَقُ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ ) أَنَّهُ أُخِّرَتْ تَأْخِيرًا كَثِيرًا حَتَّى صَارَ لِلتُّلُولِ فَيْءٌ ، وَالتُّلُولُ مُنْبَطِحَةٌ غَيْرُ مُنْتَصِبَةٍ ، وَلَا يَصِيرُ لَهَا فَيْءٌ فِي الْعَادَةِ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ بِكَثِيرٍ .

قَوْلُهُ : ( أَبْرِدُوا عَنِ الْحَرِّ فِي الصَّلَاةِ ) أَيْ أَخِّرُوهَا إِلَى الْبَرْدِ وَاطْلُبُوا الْبَرْدَ لَهَا .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِيرَ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ الزَّمْهَرِيرُ : شِدَّةُ الْبَرْدِ ، وَالْحَرُورُ : شِدَّةُ الْحَرِّ . قَالُوا : وَقَوْلُهُ : ( أَوْ ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّقْسِيمِ .

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ) قَالَ الْقَاضِي : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَاشْتَكَتْ حَقِيقَةً ، وَشِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ وَهَجِهَا وَفَيْحِهَا وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إِدْرَاكًا وَتَمْيِيزًا بِحَيْثُ تَكَلَّمَتْ بِهَذَا . وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ ، أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ قَالَ : وَقِيلَ : لَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، بَلْ هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالتَّقْرِيبِ ، وَتَقْدِيرُهُ : أَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ يُشْبِهُ نَارَ جَهَنَّمَ فَاحْذَرُوهُ وَاجْتَنِبُوا حَرُورَهُ . قَالَ : وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .

قُلْتُ : وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِبْرَادَ إِنَّمَا يُشْرَعُ فِي الظُّهْرِ ، وَلَا يُشْرَعُ فِي الْعَصْرِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا أَشْهَبَ الْمَالِكِيَّ ، وَلَا يُشْرَعُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُشْرَعُ فِيهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .