فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ التَّغْلِيظِ فِي تَفْوِيتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ

باب التَّغْلِيظِ فِي تَفْوِيتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ
[ سـ :1037 ... بـ :626]
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَمْرٌو يَبْلُغُ بِهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَفَعَهُ

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ ) رُوِيَ بِنَصْبِ اللَّامَيْنِ وَرَفْعِهِمَا ، وَالنَّصْبُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ ، وَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ . وَمَعْنَاهُ : انْتُزِعَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ ، وَهَذَا تَفْسِيرُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ : مَعْنَاهُ نُقِصَ هُوَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَسُلِبَهُ ، فَبَقِيَ بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ ، فَلْيَحْذَرْ مِنْ تَفْوِيتِهَا كَحَذَرِهِ مِنْ ذَهَابِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ .

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ كَالَّذِي يُصَابُ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ إِصَابَةً يَطْلُبُ بِهَا وَتْرًا ، وَالْوَتْرُ الْجِنَايَةُ الَّتِي يَطْلُبُ ثَأْرَهَا فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ غَمَّانِ : غَمُّ الْمُصِيبَةِ وَغَمُّ مُقَاسَاةِ طَلَبِ الثَّأْرِ . وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : مَعْنَاهُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِرْجَاعِ مَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ فَقَدَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ ، فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ النَّدَمُ وَالْأَسَفُ لِتَفْوِيتِهِ الصَّلَاةَ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ فَاتَهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا يَلْحَقهُ مِنَ الْأَسَفِ عَلَيْهِ كَمَا يَلْحَقُ مَنْ ذَهَبَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ .

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِفَوَاتِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ : هُوَ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ ، وَقَالَ سَحْنُونُ وَالْأَصِيلِيُّ : هُوَ أَنْ تَفُوتَهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَقِيلَ : هُوَ تَفْوِيتُهَا إِلَى أَنْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ ، وَقَدْ وَرَدَ مُفَسَّرًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ فِيهِ : وَفَوَاتُهَا أَنْ يَدْخُلَ الشَّمْسَ صُفْرَةٌ ، وَرُوِيَ عَنْ سَالِمٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا فِيمَنْ فَاتَتْهُ نَاسِيًا ، وَعَلَى قَوْلِ الدَّاوُدِيِّ هُوَ فِي الْعَامِدِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ : ( مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبَطَ عَمَلُهُ ) وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَامِدِ .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْعَصْرِ بَاقِي الصَّلَوَاتِ : وَيَكُونُ نَبَّهَ بِالْعَصْرِ عَلَى غَيْرِهَا ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا تَأْتِي وَقْتَ تَعَبِ النَّاسِ مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْمَالِهِمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى قَضَاءِ أَشْغَالِهِمْ وَتَسْوِيفِهِمْ بِهَا إِلَى انْقِضَاءِ وَظَائِفِهِمْ . وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فِي الْعَصْرِ ، وَلَمْ تَتَحَقَّقِ الْعِلَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَلَا يُلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا بِالشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ ، وَإِنَّمَا يُلْحَقُ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ إِذَا عَرَفْنَا الْعِلَّةَ وَاشْتَرَكَا فِيهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ : ( قَالَ عَمْرٌو يَبْلُغُ بِهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَفَعَهُ ) هُمَا بِمَعْنًى ، لَكِنَّ عَادَةَ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُحَافَظَةُ عَلَى اللَّفْظِ وَإِنْ اتَّفَقَ مَعْنَاهُ وَهِيَ عَادَةٌ جَمِيلَةٌ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .




[ سـ :1039 ... بـ :627]
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا حَبَسُونَا وَشَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ح وَحَدَّثَنَاه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ ) وَفِي رِوَايَةٍ : ( شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ) ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ : هِيَ الْعَصْرُ ؛ مِمَّنْ نُقِلَ هَذَا عَنْهُ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو أَيُّوبَ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ . قَالَ : وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّهَا الصُّبْحُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الْعَصْرِ وَمَذْهَبُهُ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هِيَ الصُّبْحُ ، مِمَّنْ نُقِلَ هَذَا عَنْهُ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَغَيْرُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ طَائِفَةٌ : هِيَ الظُّهْرُ نَقَلُوهُ عَنْ : زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ وَرِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ : هِيَ الْمَغْرِبُ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : هِيَ الْعِشَاءُ . وَقِيلَ : إِحْدَى الْخَمْسِ مُبْهَمَةٌ . وَقِيلَ : الْوُسْطَى جَمِيعُ الْخَمْسِ ، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ . وَقِيلَ : هِيَ الْجُمُعَةُ ، وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَانِ : الْعَصْرُ وَالصُّبْحُ ، وَأَصَحُّهُمَا الْعَصْرُ ؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . وَمَنْ قَالَ : هِيَ الصُّبْحُ ، يَتَأَوَّلُ الْأَحَادِيثَ عَلَى أَنَّ الْعَصْرَ تُسَمَّى وَسَطًا . وَيَقُولُ : إِنَّهَا غَيْرُ الْوُسْطَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّهَا الصُّبْحُ يَحْتَجُّ بِأَنَّهَا تَأْتِي فِي وَقْتِ مَشَقَّةٍ بِسَبَبِ بَرْدِ الشِّتَاءِ ، وَطِيبِ النَّوْمِ فِي الصَّيْفِ ، وَالنُّعَاسِ وَفُتُورِ الْأَعْضَاءِ ، وَغَفْلَةِ النَّاسِ ؛ فَخُصَّتْ بِالْمُحَافَظَةِ لِكَوْنِهَا مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا . وَمَنْ قَالَ : هِيَ الْعَصْرُ يَقُولُ : إِنَّهَا تَأْتِي وَقْتَ اشْتِغَالِ النَّاسِ بِمَعَايِشِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ : هِيَ الْجُمُعَةُ ، فَمَذْهَبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْإِيصَاءِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِلضَّيَاعِ ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْجُمُعَةِ ، فَإِنَّ النَّاسَ يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا فِي الْعَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَأْتِي فِي الْأُسْبُوعِ مَرَّةً بِخِلَافِ غَيْرِهَا ، وَمَنْ قَالَ : هِيَ جَمِيعُ الْخَمْسِ فَضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبُ لَا تَذْكُرُ الشَّيْءَ مُفَصَّلًا ثُمَّ تُجْمِلُهُ ، وَإِنَّمَا تَذْكُرُهُ مُجْمَلًا ثُمَّ تُفَصِّلُهُ ، أَوْ تُفَصِّلُ بَعْضَهُ تَنْبِيهًا عَلَى فَضِيلَتِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ