فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ

باب اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
[ سـ :2088 ... بـ :1171]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَعِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ

( كِتَابُ الِاعْتِكَافِ )

" بَابُ اعْتِكَافِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ "

هُوَ فِي اللُّغَةِ : الْحَبْسُ وَالْمُكْثُ وَاللُّزُومُ ، وَفِي الشَّرْعِ : الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَيُسَمَّى الِاعْتِكَافُ جَوَازًا ، وَمِنْهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي أَوَائِلِ الِاعْتِكَافِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ وَذَكَرَ مُسْلِمٌ الْأَحَادِيثَ فِي اعْتِكَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ ، فَفِيهَا اسْتِحْبَابُ الِاعْتِكَافِ وَتَأَكُّدِ اسْتِحْبَابِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَعَلَى أَنَّهُ مُتَأَكِّدٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمُوَافِقِيهِمْ : أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ ، بَلْ يَصِحُّ اعْتِكَافُ الْفِطْرِ ، وَيَصِحُّ اعْتِكَافُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَضَابِطُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا : مُكْثُ يَزِيدَ عَلَى طُمَأْنِينَةِ الرُّكُوعِ أَدْنَى زِيَادَةٍ ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .

وَفِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ فِي الْمَذْهَبِ ، وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ يَصِحُّ اعْتِكَافُ الْمَارِّ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ ، وَالْمَشْهُورُ : الْأَوَّلُ ، فَيَنْبَغِي لِكُلِّ جَالِسٍ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِانْتِظَارِ صَلَاةٍ أَوْ لِشُغُلٍ آخَرَ مِنْ آخِرَةٍ أَوْ دُنْيَا أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ ، فَيُحْسَبُ لَهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا خَرَجَ ثُمَّ دَخَلَ جَدَّدَ نِيَّةً أُخْرَى ، وَلَيْسَ لِلِاعْتِكَافِ ذِكْرٌ مَخْصُوصٌ وَلَا فِعْلٌ آخَرُ سِوَى اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ دُنْيَا ، أَوْ عَمِلَ صَنْعَةً مِنْ خِيَاطَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرُونَ : يُشْتَرَطُ فِي الِاعْتِكَافِ الصَّوْمُ ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ مُفْطِرٍ ، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِاعْتِكَافِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَبِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَالَ : أَوْفِ بِنَذْرِكَ ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَاللَّيْلُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ .

وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ : أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجَهُ وَأَصْحَابَهُ إِنَّمَا اعْتَكَفُوا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْمَشَقَّةِ فِي مُلَازَمَتِهِ ، فَلَوْ جَازَ فِي الْبَيْتِ لَفَعَلُوهُ وَلَوْ مَرَّةً لَا سِيَّمَا النِّسَاءُ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُنَّ إِلَيْهِ فِي الْبُيُوتِ أَكْثَرُ .

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسْجِدِ ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ ، هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَدَاوُدَ وَالْجُمْهُورِ سَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُهَيَّأُ مِنْ بَيْتِهَا لِصَلَاتِهَا ، قَالَ : وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهِ ، وَكَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِهِ ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهِمَا ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ الْمُشْتَرِطُونَ الْمَسْجِدَ الْعَامَّ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُهُمْ : يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ، وَقَالَ أَحْمَدُ : يَخْتَصُّ بِمَسْجِدٍ تُقَامُ الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ فِيهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَخْتَصُّ بِمَسْجِدٍ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَآخَرُونَ : يَخْتَصُّ بِالْجَامِعِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ ، وَنَقَلُوا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ الصَّحَابِيِّ اخْتِصَاصَهُ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، وَالْأَقْصَى ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الِاعْتِكَافِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .