فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ مَا يُفْعَلُ بِالْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ

باب مَا يُفْعَلُ بِالْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ
[ سـ :2179 ... بـ :1206]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيرِهِ فَوُقِصَ فَمَاتَ فَقَالَ اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا

( بَابُ مَا يُفْعَلُ بِالْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ ) فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( أَنَّ رَجُلًا خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ فَوُقِصَ فَمَاتَ فَقَالَ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا ) . وَفِي رِوَايَةٍ : ( وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَأَوْقَصَتْهُ ) أَوْ قَالَ : ( فَأَقْعَصَتْهُ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : ( فَوَقَصَتْهُ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي ، وَفِي رِوَايَةٍ : ( لَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : ( فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّدًا ) .

فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَمُوَافِقِيهِمْ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا مَاتَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ الْمَخِيطَ ، وَلَا تُخَمَّرَرَ رَأْسُهُ ، وَلَا يَمَسَّ طِيبًا ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ : يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْحَيِّ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَادٌّ لِقَوْلِهِمْ .

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ) دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ السِّدْرِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ ، وَأَنَّ الْمُحْرِمَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَآخَرُونَ ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ .

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ ) أَمَّا تَخْمِيرُ الرَّأْسِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ الْحَيِّ فَجُمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَأَمَّا وَجْهُهُ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ كَرَأْسِهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ : لَا إِحْرَامَ فِي وَجْهِهِ ، بَلْ لَهُ تَغْطِيَتُهُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ كَشْفُ الْوَجْهِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، هَذَا حُكْمُ الْمُحْرِمِ الْحَيِّ ، وَأَمَّا الْمَيِّتُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ : أَنَّهُ يَحْرُمُ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ كَمَا سَبَقَ ، وَلَا يَحْرُمُ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ ، بَلْ يَبْقَى كَمَا كَانَ فِي الْحَيَاةِ ، وَيُتَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ وَجْهًا إِنَّمَا هُوَ صِيَانَةٌ لِلرَّأْسِ ، فَإِنَّهُمْ لَوْ غَطَّوْا وَجْهَهُ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يُغَطُّوا رَأْسَهُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ وَمُوَافِقِيهِمَا يَقُولُونَ : لَا يُمْنَعُ مِنْ سَتْرِ رَأْسِ الْمَيِّتِ وَوَجْهِهِ ، وَالشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ يَقُولُونَ : يُبَاحُ سَتْرُ الْوَجْهِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ .

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ ) وَفِي رِوَايَةٍ ( ثَوْبَيْنِ ) قَالَ الْقَاضِي : أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ ( ثَوْبَيْهِ ) .

وَفِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا : الدَّلَالَةُ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْإِحْرَامِ بَاقٍ فِيهِ . وَمِنْهَا : أَنَّ التَّكْفِينَ فِي الثِّيَابِ الْمَلْبُوسَةِ جَائِزٌ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ . وَمِنْهَا : جَوَازُ التَّكْفِينِ فِي ثَوْبَيْنِ ، وَالْأَفْضَلُ ثَلَاثَةٌ ، وَمِنْهَا : أَنَّ الْكَفَنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَلْ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ أَمْ لَا ؟ وَمِنْهَا : أَنَّ التَّكْفِينَ وَاجِبٌ ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، وَكَذَلِكَ غُسْلَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَدَفْنَهُ .

وَقَوْلُهُ : ( خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ ) أَيْ سَقَطَ .

وَقَوْلُهُ : ( وُقِصَ ) أَيِ انْكَسَرَ عُنُقُهُ ، وَوَقَصَتْهُ وَأَوْقَصَتْهُ بِمَعْنَاهُ .

قَوْلُهُ : ( فَأَقْعَصَتْهُ ) أَيْ قَتَلَتْهُ فِي الْحَالِ ، وَمِنْهُ : قُعَاصُ الْغَنَمِ ، وَهُوَ مَوْتُهَا بِدَاءٍ يَأْخُذُهَا تَمُوتُ فَجْأَةً .

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا وَمُلَبِّدًا وَيُلَبِّي ) مَعْنَاهُ : عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا وَمَعَهُ عَلَامَةٌ لِحَجِّهِ ، وَهِيَ دَلَالَةُ الْفَضِيلَةِ كَمَا يَجِيءُ الشَّهِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ دَوَامِ التَّلْبِيَةِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ التَّلْبِيدِ ، وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَا تُحَنِّطُوهُ ) هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، أَيْ لَا تَمَسُّوهُ حَنُوطًا ، وَالْحَنُوطُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُقَالُ لَهُ : الْحِنَاطُ بِكَسْرِ الْحَاءِ ، وَهُوَ أَخْلَاطٌ مِنْ طِيبٍ تُجْمَعُ لِلْمَيِّتِ خَاصَّةً ، لَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ .

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ : ( أَقْبَلَ رَجُلٌ حَرَامًا ) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ ، وَفِي بَعْضِهَا : ( حَرَامٌ ) وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ ، وَلِلْأَوَّلِ وَجْهٌ ، وَيَكُونُ حَالًا ، وَقَدْ جَاءَتِ الْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ عَلَى قِلَّةٍ .

قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ) أَبُو بِشْرٍ هَذَا هُوَ الْغُبَرِيُّ ، وَاسْمُهُ : الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الْبَصْرِيُّ ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ ، رَوَى عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي بِشْرٍ هَذَا ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَوْثِيقِهِ .

قَوْلُهُ : ( حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ) قَالَ الْقَاضِي : هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَقَالَ : إِنَّمَا سَمِعَهُ مَنْصُورٌ مِنَ الْحَكَمِ ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدٍ وَهُوَ الصَّوَابُ وَقِيلَ : عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَلَمَةَ ، وَلَا يَصِحُّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .