فهرس الكتاب

شرح النووى على مسلم - بَابُ تَحْرِيمِ مَكَّةَ وَصَيْدِهَا وَخَلَاهَا وَشَجَرِهَا وَلُقَطَتِهَا ، إِلَّا لِمُنْشِدٍ عَلَى

باب تَحْرِيمِ مَكَّةَ وَصَيْدِهَا وَخَلَاهَا وَشَجَرِهَا وَلُقَطَتِهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ عَلَى الدَّوَامِ
[ سـ :2502 ... بـ :1353]
حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا وَقَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا يَلْتَقِطُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ فَقَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ عَنْ مَنْصُورٍ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَقَالَ بَدَلَ الْقِتَالِ الْقَتْلَ وَقَالَ لَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ : لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَفِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ مُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا تَبْقَى دَارَ الْإِسْلَامِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الْهِجْرَةُ .

وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ : لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَضْلُهَا كَفَضْلِهَا قَبْلَ الْفَتْحِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ الْآيَةَ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ) فَمَعْنَاهُ : وَلَكِنْ لَكُمْ طَرِيقٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ الَّتِي فِي مَعْنَى الْهِجْرَةِ ، وَذَلِكَ بِالْجِهَادِ ، وَنِيَّةِ الْخَيْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ) مَعْنَاهُ : إِذَا دَعَاكُمُ السُّلْطَانُ إِلَى غَزْوٍ فَاذْهَبُوا ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ أَحْكَامِ الْجِهَادِ وَبَيَانُ الْوَاجِبِ مِنْهُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) .

وَفِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ " فَظَاهِرُهَا الِاخْتِلَافُ ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ تَحْرِيمِ مَكَّةَ ، فَقِيلَ : إِنَّهَا مَا زَالَتْ مُحَرَّمَةً مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَقِيلَ : مَا زَالَتْ حَلَالًا كَغَيْرِهَا إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ ثَبَتَ لَهَا التَّحْرِيمُ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ الثَّانِي ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ .

وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ الثَّانِي بِأَنَّ تَحْرِيمَهَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، ثُمَّ خَفِيَ تَحْرِيمُهَا وَاسْتَمَرَّ خَفَاؤُهُ إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ فَأَظْهَرَهُ وَأَشَاعَهُ ، لَا أَنَّهُ ابْتَدَأَهُ ، وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِي غَيْرِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ : أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَيُحَرِّمُ مَكَّةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : ( الْقَتْلُ ) بَدَلَ ( الْقِتَالُ ) ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ : إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ .

هَذِهِ الْأَحَادِيثُ ظَاهِرَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ الْبَصْرِيُّ ، صَاحِبُ الْحَاوِي مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ : مِنْ خَصَائِصِ الْحَرَمِ أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهُ ، فَإِنْ بَغَوْا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ ، بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ وَيَدْخُلُوا فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، قَالَ : وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : يُقَاتَلُونَ عَلَى بَغْيِهِمْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُمْ عَنِ الْبَغْيِ إِلَّا بِالْقِتَالِ ؛ لِأَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِضَاعَتُهَا فَحِفْظُهَا أَوْلَى فِي الْحَرَمِ مِنْ إِضَاعَتِهَا . هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيِّ ، وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الصَّوَابُ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافُ الْحَدِيثِ مِنْ كُتُبِ الْإِمَامِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي آخِرِ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِـ " سِيَرُ الْوَاقِدِيِّ " مِنْ كُتُبِ الْأُمِّ ، وَقَالَ الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ " شَرْحُ التَّلْخِيصِ " فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ فِي ذِكْرِ الْخَصَائِصِ : لَا يَجُوزُ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ ، قَالَ : حَتَّى لَوْ تَحَصَّنَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ فِيهَا ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَفَّالُ غَلَطٌ ، نَبَّهْتُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُغْتَرَّ بِهِ .

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا فَهُوَ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ " سِيَرُ الْوَاقِدِيِّ " أَنَّ مَعْنَاهَا : تَحْرِيمُ نَصْبِ الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ ، وَقِتَالِهِمْ بِمَا يَعُمُّ كَالْمَنْجَنِيقِ وَغَيْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ إِصْلَاحُ الْحَالِ بِدُونِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَحَصَّنَ الْكُفَّارُ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَبِكُلِّ شَيْءٍ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ . وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : ( ) وَفِي رِوَايَةٍ : ( لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : ( لَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : ( الْعَضْدُ ) الْقَطْعُ ، وَ ( الْخَلَا ) : - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ - هُوَ الرَّطْبُ مِنَ الْكَلَأِ ، وَقَالُوا : الْخَلَا وَالْعُشْبُ اسْمٌ لِلرَّطْبِ مِنْهُ ، وَالْحَشِيشُ وَالْهَشِيمُ اسْمٌ لِلْيَابِسِ مِنْهُ ، وَ ( الْكَلَأُ ) مَهْمُوزٌ يَقَعُ عَلَى الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ ، وَعَدَّابْنُ مَكِّيٍّ وَغَيْرُهُ مِنْ لَحْنِ الْعَوَامِّ إِطْلَاقُهُمُ اسْمُ الْحَشِيشِ عَلَى الرَّطْبِ ، بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْيَابِسِ ، وَمَعْنَى ( يُخْتَلَى ) : يُؤْخَذُ وَيُقْطَعُ ، وَمَعْنَى ( يُخْبَطُ ) : يُضْرَبُ بِالْعَصَا وَنَحْوِهَا لِيَسْقُطَ وَرَقُهُ ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ أَشْجَارِهَا الَّتِي لَا يَسْتَنْبِتُهَا الْآدَمِيُّونَ فِي الْعَادَةِ ، وَعَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ خَلَاهَا ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِ الشَّجَرِ إِذَا قَطَعَهُ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يَأْثَمُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَاخْتَلَفَا فِيهَا ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي الشَّجَرَةِ الْكَبِيرَةِ بَقَرَةٌ ، وَفِي الصَّغِيرَةِ شَاةٌ ، وَكَذَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَاجِبُ فِي الْجَمِيعِ الْقِيمَةُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيَضْمَنُ الْخَلَا بِالْقِيمَةِ ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ رَعْيُ الْبَهَائِمِ فِي كَلَأِ الْحَرَمِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ .

وَأَمَّا صَيْدُ الْحَرَمِ فَحَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا دَاوُدَ فَقَالَ : يَأْثَمُ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ دَخَلَ صَيْدٌ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ فَلَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَدَاوُدَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ : لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ ، بَلْ يَلْزَمُهُ إِرْسَالُهُ ، قَالَا : فَإِنْ أَدْخَلَهُ مَذْبُوحًا جَازَ أَكْلُهُ ، وَقَاسُوهُ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ : يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا إِذَا دَخَلَ مِنَ الْحِلِّ شَجَرَةٌ أَوْ كَلَأٌ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدِ حَرَمٍ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ ) فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ يَقُولُ بِتَحْرِيمِ جَمِيعِ نَبَاتِ الْحَرَمِ مِنَ الشَّجَرِ وَالْكَلَأِ ، سَوَاءٌ الشَّوْكُ الْمُؤْذِي وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُتَوَلِّي مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا : لَا يَحْرُمُ الشَّوْكُ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْذٍ ، فَأَشْبَهَ الْفَوَاسِقَ الْخَمْسَ ، وَيَخُصُّونَ الْحَدِيثَ بِالْقِيَاسِ ، وَالصَّحِيحُ مَا اخْتَارَهُ الْمُتَوَلِّي . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِي ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ) هَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرِينَ أَوِ الْأَكْثَرِينَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : فُتِحَتْ صُلْحًا ، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ جَائِزًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لَفَعَلَهُ ، وَلَكِنْ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ) تَصْرِيحٌ بِتَحْرِيمِ التَّنْفِيرِ ، وَهُوَ الْإِزْعَاجُ وَتَنْحِيَتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ ، فَإِنْ نَفَّرَهُ عَصَى ، سَوَاءٌ تَلِفَ أَمْ لَا ، لَكِنْ إِنْ تَلِفَ فِي نِفَارِهِ قَبْلَ سُكُونِ نِفَارِهِ ضَمِنَهُ الْمُنَفِّرُ ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَنَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّنْفِيرِ عَلَى الْإِتْلَافِ وَنَحْوِهِلِأَنَّهُ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَرُمَ التَّنْفِيرُ فَالْإِتْلَافُ أَوْلَى .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ . الْمُنْشِدُ : هُوَ الْمُعَرِّفُ ، وَأَمَّا طَالِبُهَا فَيُقَالُ لَهُ : نَاشِدٌ ، وَأَصْلُ النَّشْدِ وَالْإِنْشَادِ رَفْعُ الصَّوْتِ .

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُعَرِّفَهَا سَنَةً ثُمَّ يَتَمَلَّكَهَا كَمَا فِي بَاقِي الْبِلَادِ ، بَلْ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِمَنْ يُعَرِّفُهَا أَبَدًا . وَلَا يَتَمَلَّكُهَا ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا بَعْدَ تَعَرُّفِهَا سَنَةً ، كَمَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَيَتَأَوَّلُونَ الْحَدِيثَ تَأْوِيلَاتٍ ضَعِيفَةً ، وَ ( اللُّقَطَةُ ) بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَقِيلَ : بِإِسْكَانِهَا وَهِيَ الْمَلْقُوطُ .

قَوْلُهُ : ( إِلَّا الْإِذْخِرَ ) هُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ .

قَوْلُهُ : ( فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا . ( قَيْنِهِمْ ) بِفَتْحِ الْقَافِ ، هُوَ الْحَدَّادُ وَالصَّائِغُ ، وَمَعْنَاهُ : يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقَيْنُ فِي وُقُودِ النَّارِ ، وَيُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْقُبُورِ لِتُسَدَّ بِهِ فُرَجُ اللَّحْدِ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ اللَّبِنَاتِ ، وَيُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سُقُوفِ الْبُيُوتِ يُجْعَلُ فَوْقَ الْخَشَبِ .

قَوْلُهُ : ( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِلَّا الْإِذْخِرَ ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ بِاسْتِثْنَاءِ الْإِذْخِرِ وَتَخْصِيصِهِ مِنَ الْعُمُومِ ، أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ طَلَبَ أَحَدٌ اسْتِثْنَاءَ شَيْءٍ فَاسْتَثْنِهِ ، أَوْ أَنَّهُ اجْتَهَدَ فِي الْجَمِيعِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .




[ سـ :2503 ... بـ :1354]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو قَالَ أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ

قَوْلُهُ : ( عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ ) هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ( الْعَدَوِيِّ ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا ( الْكَعْبِيُّ ) وَ ( الْخُزَاعِيُّ ) قِيلَ : اسْمُهُ : خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ : عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ ، وَقِيلَ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ : هَانِئُ بْنُ عَمْرٍو ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ .

قَوْلُهُ : ( وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ) يَعْنِي لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ .

قَوْلُهُ : ( سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ ) أَرَادَ بِهَذَا كُلِّهِ الْمُبَالَغَةَ فِي تَحْقِيقِ حِفْظِهِ إِيَّاهُ وَتَيَقُّنِهِ زَمَانَهُ وَمَكَانَهُ وَلَفْظَهُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ) مَعْنَاهُ : أَنَّ تَحْرِيمَهَا بِوَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى ، لَا أَنَّهَا اصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى تَحْرِيمِهَا بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً ) هَذَا قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ : الْكُفَّارُ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ آخَرِينَ : أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا كَمَا هُمْ مُخَاطَبُونَ بِأُصُولِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لِأَحْكَامِنَا وَيَنْزَجِرُ عَنْ مُحَرَّمَاتِ شَرْعِنَا ، وَيَسْتَثْمِرُ أَحْكَامَهُ ، فَجَعَلَ الْكَلَامَ فِيهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ لَيْسَ مُخَاطَبًا بِالْفُرُوعِ .

قَوْلُهُ : ( يَسْفِكَ ) بِكَسْرِ الْفَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا ، أَيْ يُسِيلُهُ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آخِرِهِ ) فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ يَقُولُ : فُتِحَتْ مَكَّةُ عَنْوَةً ، وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْبَابِ بَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : فُتِحَتْ صُلْحًا أَنَّ مَعْنَاهُ : دَخَلَهَا مُتَأَهِّبًا لِلْقِتَالِ لَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ ، فَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ لَهُ تِلْكَ السَّاعَةَ .

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ) هَذَا اللَّفْظُ قَدْ جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، وَفِيهِ : التَّصْرِيحُ بِوُجُوبِ نَقْلِ الْعِلْمِ وَإِشَاعَةِ السُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ .

قَوْلُهُ : ( لَا يُعِيذُ عَاصِيًا ) أَيْ لَا يَعْصِمُهُ .

قَوْلُهُ : ( وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ ) هِيَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ ، وَيُقَالُ : بِضَمِّ الْخَاءِ أَيْضًا ، حَكَاهَا الْقَاضِي وَصَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَآخَرُونَ ، وَأَصْلُهَا سَرِقَةُ الْإِبِلِ ، وَتُطْلَقُ عَلَى كُلِّ خِيَانَةٍ ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إِنَّهَا الْبَلِيَّةُ ، وَقَالَ الْخَلِيلُ : هِيَ الْفَسَادُ فِي الدِّينِ مِنَ الْخَارِبِ ، وَهُوَ اللِّصُّ الْمُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ ، وَقِيلَ : هِيَ الْعَيْبُ .




[ سـ :2504 ... بـ :1355]
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ جَمِيعًا عَنْ الْوَلِيدِ قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَقَامَ أَبُو شَاهٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ قَالَ الْوَلِيدُ فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ مَا قَوْلُهُ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ ) مَعْنَاهُ : وَلِيُّ الْمَقْتُولِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَتَلَ الْقَاتِلَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ فِدَاءَهُ ، وَهِيَ الدِّيَةُ ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ : أَنَّ الْوَلِيَّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ وَبَيْنَ الْقَتْلِ ، وَأَنَّ لَهُ إِجْبَارَ الْجَانِي عَلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ شَاءَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُبْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلَّا الْقَتْلُ أَوِ الْعَفْوُ ، وَلَيْسَ لَهُ الدِّيَةُ إِلَّا بِرِضَى الْجَانِي ، وَهَذَا خِلَافُ نَصِّ هَذَا الْحَدِيثِ . وَفِيهِ أَيْضًا : دَلَالَةٌ لِمَنْ يَقُولُ : الْقَاتِلُ عَمْدًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ لَا غَيْرَ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِالِاخْتِيَارِ ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي صُوَرٍ مِنْهَا لَوْ عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْقِصَاصِ ، إِنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ سَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ عَمْدًا ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ .

قَوْلُهُ : ( فَقَامَ أَبُو شَاهٍ ) هُوَ بِهَاءٍ تَكُونُ هَاءً فِي الْوَقْفِ وَالدَّرَجِ ، وَلَا يُقَالُ بِالتَّاءِ ، قَالُوا : وَلَا يُعْرَفُ اسْمُ أَبِي شَاهٍ هَذَا ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِكُنْيَتِهِ .




[ سـ :2505 ... بـ :1355]
حَدَّثَنِي إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي أَلَا وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ لَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلَّا مُنْشِدٌ وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُعْطَى يَعْنِي الدِّيَةَ وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْإِذْخِرَ

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِجَوَازِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ غَيْرَ الْقُرْآنِ ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " مَا عِنْدَهُ إِلَّا مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ " وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْ كِتَابَةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ ، فَمِنَ السَّلَفِ مَنْ مَنَعَ كِتَابَةَ الْعِلْمِ ، وَقَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ بِجَوَازِهِ ، ثُمَّ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ ، وَأَجَابُوا عَنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ، وَكَانَ النَّهْيُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ اشْتِهَارِ الْقُرْآنِ لِكُلِّ أَحَدٍ ، فَنَهَى عَنْ كِتَابَةِ غَيْرِهِ خَوْفًا مِنَ اخْتِلَاطِهِ وَاشْتِبَاهِهِ . فَلَمَّا اشْتُهِرَ وَأُمِنَتْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ أَذِنَ فِيهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ النَّهْيَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِمَنْ وُثِقَ بِحِفْظِهِ وَخِيفَ اتِّكَالُهُ عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَالْإِذْنُ لِمَنْ لَمْ يُوثَقْ بِحِفْظِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .